الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، ملء السماء والأرض، وملء ما شاء من شيء بعد، له الحمد كله، هو الرحمن الرحيم، له الحمد كله، لا أحصي ثناء عليه، هو كما أثنى على نفسه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، داعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
سنتحدث عن جملة من الأسئلة والنقاط التي يدور حولها البحث والسؤال في موضوع الاستطاعة التي أناط الله تعالى بها التكليف.
الاستطاعة - وهي القدرة على الفعل - هي شرط في كل ما أوجبه الله تعالى على عباده، فليس شيء من العبادات، ولا شيء من المفروضات، ولا شيء من الشرائع إلا وشرط وجوبه، ولزومه، وفرضه، ومشروعيته اللازمة أن يكون الإنسان مستطيعًا، الله تعالى يقول: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ التغابن: 16، ويقول: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ البقرة: 286.
وبالتالي ليس شيء في الشريعة إلا وشرط وجوبه ولزومه أن يكون الإنسان مستطيعًا، بمعنى أن يكون الإنسان قادرًا على فعل ما يجب، قادرًا على فعل ما شرع.
وهذا الجانب، وهذا الملحظ - وهو أن الاستطاعة شرط في كل واجبات الشريعة - له بروز جليّ بالنص في جملة من العبادات؛ إما عند ورود عدم القدرة، وإما في أصل التشريع.
عند ورود احتمال عدم القدرة؛ من أمثلة كذلك قول الله جل وعلا في الصلاة، وما فرضه الله تعالى على المؤمنين في الصلاة، قال الله تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ البقرة: 238، فأمر الله بالقيام في الصلاة، هذا فرض. جاء في السنة ما يبيِّن أن هذا الفرض ليس على الإطلاق، بل هو مَنوط بالاستطاعة؛ كسائر مفروضات الشريعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما جاء في الصحيح من حديث عمران: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ».
فيتبين من هذا أن الشريعة راعت أحوال الناس في عدم الاستطاعة، بالتدرج، والتنقل من المفروض الأول إلى فرض غيره حسب ما يكون من مقدرة الإنسان.
وفيما يتعلق بكون الاستطاعة شرطًا لأصل العبادات ما ذكره الله تعالى في الصيام على وجه التخيير، قال جل وعلا: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183، فجعل الله تعالى الصيام مفروضًا، وأناطه، وعلله بالتقوى، وهذه غايته وعلته، ثم قال في بيان تفصيل الفرض: ﴿أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة: 184، إذن في حال عدم الاستطاعة لأجل المرض، أو لأجل عذر السفر، وهو مظِنة المشقة، فإن الشريعة تخفف في فرض أيام بديلة، فيحل الفطر، ويجب قضاء الصيام في أيام أخر، كما جاء أيضًا في الآية الأخرى التي تليها بعد ذكر الفرض في شهر رمضان، وإلزام الصوم بكل المكلفين: ﴿فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ﴾ البقرة: 185.
وفي أصل التشريع قبل أن يفرِض الله تعالى الصيام على الناس، جعل محلًّا للفرجة لمن أراد عدم الصيام أن يُطعِم لكن ذلك نُسخ، وبقي مَن عجز عن الصيام وجب عليه الإطعام، قال الله تعالى: ﴿وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ﴾ البقرة: 184.
ما يتعلق بالحج؛ الله عز وجل جعل الاستطاعة شرطًا لفرض الحج من أصله، فقال جل وعلا: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ آل عمران: 97.
فالحج لا يجب إلا بشرط الاستطاعة، ولذلك الاستطاعة شرط أصيل في فرض الحج.
يتساءل المتسائلون ويقولون: إذا كانت الاستطاعة شرطًا في كل العبادات، فلماذا جاء النص عليها في بعض المواطن؛ كالصوم مثلًا فيما تقدم، والحج في أبرز الأمثلة على هذا الأصل؟
الجواب: أن ذكر الاستطاعة بالنص في بعض العبادات هو لكونها تتضمن من المشقة، والعناء، والكلفة، والتعب ما ليس في غيرها، فمِن رحمة الله بعباده أن ذكَّرهم بهذا الشرط الذي هو شرط في كل العبادات، وليس في عبادة دون عبادة، بل في الجميع، فلما كانت هذه العبادةُ تتضمن من المشقة، والعناء ما يحتاج إلى التذكير بشرط الاستطاعة؛ ذكَّر الله جل وعلا به في هذه المواضع، كما في الصوم، وكما في الحج.
وبهذا يتبين أن الاستطاعة هي شرط في كل العبادات.