الحمد لله رب العالمين، أحمده حق حمده، له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه تُرجعون، أحمده لا أُحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، وأشهد أن لا إله إلا الله، إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، تركها على محجةٍ بيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسانٍ إلى يوم الدين أما بعد،،
فإن الله -عز وجل- خلق آدم عليه السلام، وأسجد له ملائكته، وأسكنه جنته، ووعده أن إذا أطاعه بفوز الدنيا والآخرة كان الابتلاء الأول أن أدخله الله تعالى جنةً، ونهاه عن أن يأكل من ثمر شجرةٍ معينةٍ فيها، ووعده بسعةٍ من العطاء والهبات، فعصى آدم ربه، فأكل من تلك الشجرة؛ فتاب عليه ربه فهدى، وأهبطه -جل في علاه- إلى الأرض؛ ليعبده، وليزيد في امتحانه واختباره، نزل إلى الأرض، وغايته هو عمارتها بعبادة الله -عز وجل- كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. الذاريات:56، وجعل الله تعالى له بيتًا يُعبد فيه هذا البيت هو الكعبة المشرفة التي قال الله تعالى فيها: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96.
هذا البيت خصه الله بجملة من الخصائص، والهبات، والمزايا، والعطايا.
تلك الخصائص، والمزايا، والهبات قدمها الله تعالى ذِكرًا بين يدي ما أمر الله تعالى به عباده من قصد بيته الحرام، فقال -جل وعلا-:﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾آل عمران:96 ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ آل عمران:97، ثم قال: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:96 ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ آل عمران:97، فكان أول ما شرعه الله تعالى في حج بيته أن بيَّن قبل ذلك مميزات هذه البقعة.
وما خصها الله تعالى به ثم بعد أن ذكر الخصائص التي حُبِيَت بها هذه البنية وهذا البيت، ذكر الله تعالى فرض الحج.
وفرض الحج عبادة ليست حادثة في هذه الأمة، بل هي عبادة قديمة، فقد قيل: إن كل الأنبياء قد حجوا البيت، فما من نبيٍّ إلا حج البيت كما ذكر ذلك جماعةٌ من أهل العلم، وقيل: بل ما من نبي بعد إبراهيم -عليه السلام- إلا حج البيت.
وعلى كل حال تعظيم هذه البقعة سابقٌ لخلق البشر، فإن الله تعالى حرَّم مكة يوم خَلقَ السموات والأرض، وجعلها معظمة لحكمةٍ عَلِمها جل في علاه، فهو الذي يخلق ما يشاء ويختار، وهو في ذلك العليم الحكيم -سبحانه وبحمده، اصطفى هذه البقعة فخصها بخصائص منها: أن فرض على الناس قصد هذه البقعة يقول الله -جل وعلا- في محكم كتابه: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ﴾ آل عمران:97.
وقد أمر خليله إبراهيم أن يُنادي في الناس بهذا النداء الذي دعاهم فيه إلى قصد مكة البلد الحرام،
﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ الحج:27، يعني: من كل مكانٍ بعيدٍ سحيقٍ في البعد، وذاك؛ لتعظيمه الله -عز وجل-، وطاعته في عبادته في هذه البقعة التي هي أول البقاع عُمِرَت بطاعة الله -عز وجل-، أول البقاع عُظِّم فيها الله -عز وجل- في الأرض من بني آدم هذه البقعة، فخصها الله بهذه الخاصية، وفي هذا المجلس والمجالس التالية إن شاء الله تعالى سنعرض جملة من أحكام الحج والعمرة من خلال قراءة كتاب (الموجز في أحكام الحج والعمرة)، وهو كتابٍ ذَكَر مهمات المسائل التي يحتاجها قاصدُ البيت الحرام بحجٍّ أو عمرة، ولم يأتِ فيه تفصيلٌ وبسط؛ لسهولة إدراك المقاصد من تلك المسائل، وأما بسطها وتفصيلها فإنه مبثوثٌ في كتب العلماء، وقد بسطها أهل العلم في كتب الحديث، والفقه، والتفسير بسطًا يفيد المُطالِع وهي موجزات، ومختصرات، ومسائل مهمات تُظهر هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وتُعرِّف المؤمن بأحكام هاتين العبادتين الجليلتين الحج والعمرة، وقراءتنا إن شاء الله تعالى ستكون في عصر هذا اليوم، ومغربه، وبعد عشائه، وكذلك في يوم غدٍ إن شاء الله تعالى في نفس الوقت، وسنجيب إن شاء الله تعالى على ما يسر الله تعالى من الأسئلة، فمن كان عنده سؤال فيُقيده حتى يكون الجواب عليه في نهايات المجالس إن شاء الله تعالى، فنسأل الله العلم النافع، والعمل الصالح، وأن يرزقنا وإياكم البصيرة في الدين، وأن يُتبِّعنا هدي سيد المرسلين في السر والعلن، والغيب والشهادة، وأن يرزقنا في ذلك السداد والصواب.