"المبحث الثالث: المواقيت هي زمن الإحرام وأمكنته: أولًا: المواقيت الزمانية: المواقيت الزمانية للحج هي الأشهر التي يُشْرَع فيها الإحرام بالحج، وهي ثلاثة: شوال، وذو القعدة، وعشرة ذو الحجة، ولا يصح الإحرام بالحج قبلها. أما العمرة، فتُستحب في كل أيام السنة".
المواقيت هي زمانُ ومكانُ فعل العبادة، والمقصود بالمواقيت في شأن الحج والعمرة زمنُ فعل الحج ومكان الإحرام به.
وقد جاءت الإشارة إلى مواقيت الحج الزمانية في القرآن، وأما مواقيتُ الحج المكانية فقد جاءت في السنة؛ فالمواقيت الزمانية ذكرها الله تعالى في القرآن في موضعين، والمواقيت المكانية بيَّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله في أحاديث عديدة.
ما الفرق بين المواقيت الزمانية والمواقيت المكانية؟
المواقيت الزمانية تتعلق بالوقت الذي تُفعَل فيه العبادة، وأما المواقيت المكانية: فهي المواضع التي يُحرِم فيها من أراد الحج والعمرة.
ما يتعلق بالمواقيت الزمانية ذكر الله تعالى ذلك في موضعين:
الموضع الأول:﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ البقرة:189، فدلَّ ذلك على أن للحج مواقيت، وقد جاء بيانها في قول الله تعالى:﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ البقرة:197، فبيَّن الله تعالى في كتابه: أن مواقيت الحج الزمانية أشهر، ولكنه لم يذكرها؛ لأنها بيِّنة واضحة يعرفها الناس؛ ولذلك قال: ﴿مَعْلُومَاتٌ﴾ البقرة:197، من الذي يعلمها؟ الناس. كيف يعلمونها؟ يعلمونها بما أبقى الله تعالى في الناس مِنْ ملة إبراهيم وشرائع دينه المتعلقة بالحج؛ فإن الحج من ملة إبراهيم الباقية في الناس قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك حج النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل الإسلام عدة مرات، فالحج من الشرائع الباقية جرى عليه تحريف وتغيير وتبديل كسائر ما جرى من التغيير والتحريف في أصول الدين وفروعه، لكن أصله باقٍ في الناس؛ ولذلك قال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ﴾ البقرة:197.
لا خلاف بين العلماء أن الحج يبتدئ وقتُه بدخول شهر شوال، لا خلاف بين أهل العلم في أنَّ مبدأ مواقيت الحج الزمانية دخول شهر شوال، فبدخول ليلة العيد وانقضاء رمضان تدخل أشهر الحج.
وما معنى أشهر الحج؟ معناها؛ الزمان الذي يُشرع أن يُلبي فيه الإنسان بالحج، فمن أراد الحج لا يُلبي قبل أشهره، وسيأتي حكم التلبية بالحج قبل أشهره، لكن هذا المستفاد من التوقيت الزماني، وهو بيان الزمان الذي يُشرَع فيه التلبية بالحج؛ لذلك قال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ البقرة:197، أي؛ لبَّى فيهن بالحج، فالتلبية إنما تكون في أشهره، فلا خلاف أن الحج يُلبَّى به في أشهر الحج، ومبدؤها شوال.
متى تنتهي أشهر الحج؟
للعلماء في ذلك قولان: جماهير العلماء يقولون: تنقضي مدة الحج التي يُفرَض فيها بغروب شمس يوم النحر؛ أي: بغروب شمس يوم العاشر من ذي الحجة.
وذهب الإمام مالك: إلى أن أشهر الحج تمتد إلى نهاية شهر ذي الحجة؛ لأنه زمن فعل الحج، فألحق بقية الشهر بأشهر الحج؛ لأنه زمن فعله.
والذي عليه الجمهور أقربُ إلى الصواب أن أشهر الحج تنتهي بيوم النحر.
الإمام الشافعي يرى أنها تنتهي بطلوع فجر يوم النحر، والإمام أحمد وأبو حنيفة يريان أنها تنتهي بغروب شمس يوم النحر، والإمام مالك يرى أنها تنتهي بنهاية شهر ذي الحجة.
فالجمهور قولهم متقارب؛ إما فجر يوم النحر أو غروب شمس يوم النحر.
وأقرب القولين إلى الصواب: ما ذهب إليه الإمام الشافعي من أنَّ أشهر الحج تنتهي بطلوع فجر يوم النحر، والدليل على هذا أن الله قال:﴿فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ البقرة:197، وينتهي فرض الحج والتلبية به بطلوع فجر يوم النحر؛ لأنه يكون قد فاته يوم عرفة، فلو لبَّى يوم فجر النحر ما استفاد شيئًا؛ لأنه قد فاته ركن الحج الأعظم، فلا يستفيد شيئًا بإحرامه، هذا ما يتعلق ببداية أشهر الحج ونهايتها.
والراجح: هو ما ذهب إليه الإمام الشافعي، وقول الجمهور قريب.
أما ما يتعلق بالعمرة فهل للعمرة زمانٌ لا تتجاوزه؟
جمهور العلماء: على أن العمرة مستحبَّةٌ في العام كله، وليس لها وقتٌ محدد، ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «الْعُمْرَةُ إِلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا» أخرجه البخاري (1773)، ومسلم (1349) فليس لها وقتٌ محدد لا تتجاوزه، بل تكون في الزمان كله.
وكَرِه الإمام أبو حنيفة العمرة في خمسة أيام؛ في يوم عرفة، وفي يوم النحر، وفي أيام التشريق، كره العمرة في هذه الأيام الخمسة، وسبب الكراهية قال: هذه أيام الحج الأكبر، فلا يشتغل على الحج الأكبر بالحج الأصغر وهو العمرة، ولكن لا دليل على هذه الكراهية.
ولذلك جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة على أنه لا تُكرَه العمرة في الزمان كله. هذا ما يتعلق بوقت مواقيت الحج ومواقيت العمرة.
هنا سؤال فيما يتعلق بمواقيت الحج إذا أحرم بالحج قبل أشهرِه هل ينعقد إحرامه أو لا؟ أي: هل يصلح أن يمضي في إحرامه أو لا؟
للعلماء في ذلك قولان:
ذهب جمهور العلماء إلى أنه إذا أحرم بالحج قَبْلَ وقته؛ فإنه يَصِحُّ إحرامه، لكنه يُكره ويستحب له أن يتحلل بعمرة.
وقيل: بل لا يصح الإحرام بالحج قبل أشهره، ولا ينعقد، بل هو عمرة، لا ينعقد حجًّا، بل يجب أن يتحلل بعمرة، ولا ينفعه أن يبقى على إحرامه إلى أن يأتي الحج، وهذا قولٌ عند المالكية، وبه قال الشافعية، وهو رواية في مذهب الإمام أحمد -رحمه الله-، وهو الأقرب إلى الصواب من هذين القولين؛ أنه من أحرم بالحج قبل أشهره، يعني: قبل شهر شوال، فإنه لا ينعقد إحرامه بالحج، والواجب عليه: أن يتحلل بعمرة.
والدليل على ذلك: قول الله تعالى:﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ﴾ البقرة:197. فقال: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ﴾ البقرة:197فمن لبَّى قبل هذه الأشهر لم يفرض الحج فيهن، فعلى ذلك يجب عليه أن يتحلل بعمرة، وهذا مذهب الإمام الشافعي، وهو قولٌ عند مالك، وهو رواية في مذهب أحمد وهو الصحيح.