قول المؤلف: "فهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات".
المؤلف في بيان طريق أهل السنة والجماعة وما يعتقدونه فيما جاء به الخبر عنه في القرآن والسنة، قال: "وهو سبحانه"؛ أي: الله -جلَّ في علاه- المُنزَّه عن كل نقصٍ وعيب، "قد جمع فيما وصف وسمَّى به نفسه" يعني: في كتابه وفيما أخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم "بين النفي والإثبات"، فيُخبر الله عن نفسه بنفيٍ، ويُخبر عن نفسه بإثبات، فالنصوص التي فيها الخبر عن الله جمعت هذا وهذا؛ قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾[البقرة: 255]، فأخبر عن نفسه بإثبات كمال حياته، وكمال قيوميته، فهو الحي القيوم، في نفس الآية جاء نفيٌ فقال: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ﴾[البقرة:255]، فأخبر عن نفسه بنفي، لكنَّه نفيٌ مُقيَّد، فيكون قد جمع الله -عز وجل- فيما يخبر به عن نفسه بين النفي والإثبات.
الإثبات في النصوص أكثر من النفي:
لكن أيهما الأكثر في القرآن: الإثبات أم النفي في الخبر عن الله؟
الأكثر في القرآن الإثبات، قال الله تعالى: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ(23) ﴾[الحشر: 22 - 23]، هذه إثبات أو نفي؟ كلها إثبات معاني كمال لله جلَّ في علاه.
فالأصل فيما يُخبر الله تعالى به عن نفسه الإثبات.
الغاية من استعمال النفي في هذا الباب:
ويأتي النفي في أسمائه فيما يخبر عن نفسه -جلَّ وعلا- لغايتين، أو لسببين في الجملة:
السبب الأول: لنفي النقص في صفاته؛ كقوله تعالى: ﴿اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، فلإثبات كمال الحياة ولإثبات كمال القيومية قال: ﴿لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ﴾[البقرة:255] لكمال حياته، ﴿وَلا نَوْمٌ﴾[البقرة:255] لكمال قيوميته جلَّ في علاه، فلكمال حياته وقيوميته لا يطاله سِنة، نعاس، ولا نوم، السنة مقدمة النوم، والنوم معروف، فالله «لَا يَنَامُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ» أخرجه مسلم (179) سبحانه وبحمده؛ كما جاء في الصحيح من حديث أبي موسى رضي الله تعالى عنه.
إذًا النفي يأتي لإثبات كمال الصفات.
السبب الثاني: لنفي ما يمكن أن يُتوهم من النقص في صفاته، وأيضًا لنفي ما يعتقده الجاهلون في الله عز وجل؛ كقوله -جلَّ في علاه-: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]، فنفى الله عز وجل أن يكون قد مسَّه لغوبٌ؛ أي: تعبٌ، لما ذكره الجاهلون من أنَّه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم إنَّه -سبحانه وتعالى- تعب فاستراح في اليوم السابع؛ فقال الله -عز وجل-: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38].
ويأتي النفي في الخبر عن الله في القرآن مجملًا، وهذا هو الأصل فيه؛ كقوله تعالى: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾ [مريم:65]؛ وكقوله -سبحانه وبحمده-: ﴿لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ﴾ [الإخلاص:4]، وما أشبه ذلك من الآيات.
إذًا جمع الله -سبحانه وبحمده فيما أخبر به عن نفسه بين النفي والإثبات، الأصل هو الإثبات، والنفي يرد، ووروده إما لإثبات مطلق الكمال؛ كقوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى:11]؛ وكقوله -سبحانه وبحمده-: ﴿هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا﴾[مريم:65]، أو لأجل نفي النقص في صفاته، أو لأجل نفي ما وصفه به الجاهلون؛ كقوله تعالى: ﴿وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق:38].
نصوص النفي مجملة ونصوص الإثبات مفصلة:
أمَّا الأكثر والأوفر والأوفى هو إثباتُ ما يكون من الكمالات في أسمائه وصفاته سبحانه وبحمده، وهذا هو الطريق القرآني الذي جرى عليه أهل السنة والجماعة، ولزمه الصحابة والتابعون وتابعوهم ومن تبعهم بإحسان، بخلاف طريق المنحرفين المخالفين للكتاب والسنة الذين عكسوا القضية؛ فجعلوا الإثبات قليلًا في الكلام والأصل النفي، فتجدهم يقولون في خبرهم عن الله -جلَّ في علاه-: لا يقرُب منه شيء، ولا يُرى في الدنيا، ولا يُرى في الآخرة، ولا له حياة، ولا له علم، ولا هو داخل العالم، ولا هو خارج العالم، كل هذا الكلام الذي يقولونه لا أثارة فيه من علم، إنما هو اختراع عقولهم وما تلفَّظت به ألسنتهم من ظنونٍ فاسدة كاذبة في حق الله.
أيهما أكمل؟ أيهما يُقرُّ في القلب تعظيم الله -عز وجل-: أن تقرأ قول الله -عز وجل-: ﴿هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ(22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ(23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(24) ﴾ [الحشر: 22 - 24]، أو تقرأ أنَّه: لا خارج العالم، ولا داخل العالم، لا فوق ولا تحت، لا يُرى في الدنيا ولا يُرى في الآخرة؟! هذا كلام يقسِّي القلب، ولا يصف الرب جل في علاه.
ولهذا كان الطريق القويم والصراط المستقيم في معرفة رب العالمين ما كان عليه سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليه، وما جرى عليه أصحابه الكرام وتابعوهم بإحسانٍ من التابعين وتابعيهم ومن تبعهم إلى يوم الدين.
يقول -رحمه الله- بعد أن قرر هذا الأصل الذي ينبغي أن يُستمسك به، وهو ما كان عليه سلف الأمة من إثبات الأسماء والصفات من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، وأنَّ أهل السنة والجماعة جارون فيما يخبرون به عن الله من الأسماء والصفات على نحو القرآن من النفي والإثبات، النفي المجمل والإثبات المٌفصَّل، وما عدا ذلك..