يقول - رحمه الله -: "ويخرج عن هذا التَّوحيد: اتباع الهوى، فكلُّ من اتَّبع هواه فقد اتَّخذ هواه معبوده؛ قال الله - تعالى -: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]".
هذا بيان ما يصد عن التوحيد، أعظم ما يصد عن عبادة الله وحده لا شريك له: الهوى، وقد بدأ به المؤلف - رحمه الله -؛ لأنه المانع الأكبر الذي يشترك في حقِّ المتنكبين عن الإقرار بأنَّه لا إله لا الله، فجدير بالمؤمن أن يخلص نفسه منه؛ فإنَّ الهوى يعمي، ويصم.
والهوى مراتب ودرجات يكون في صغائر الأمور، وفي عظائمها، فالمشركون الذين عاندوا الرسل، وكذَّبوهم، ولم يتبعوا ما جاءوا به من الهدى ودين الحق منعهم من ذلك الهوى؛ ولذلك الهوى عدو الهدى، فمن اتبع هواه ضلَّ عن السبيل، وخرج عن الصراط المستقيم، والله - تعالى - يقول: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:26]؛ وهذا نهي عن اتباع الهوى في دقيق الأمر، وجليله؛ فإنَّ الهوي يخرجك عن طاعة الله، يوقعك في محارم الله.
الهوى يصدك عن قبول الحقِّ والعمل به، الهوى يحمل الإنسان على أن يقدم محابَّه ومشتهياته على محابِّ الله ومراضيه، الهوى قد يصل بالإنسان إلى أن يترك الحقَّ، والإسلام، والدين، ويتورط في الكفر بربِّ العالمين.
وإليك النماذج الكثيرة التي ذكرها الله - تعالى - في كتابه من أحوال المكذبين للرسل - صلوات الله وسلامه عليهم -، فإنَّهم لم يكذبوهم بحجة، ولا برهان، بل كانت البراهين والحجج ساطعة كالشمس في صدق ما جاءت به الرسل، وإنَّما منعهم ما في قلوبهم من الميل إلى مألوفاتهم، ومشتهياتهم، ومعبودات آبائهم، وما نشأوا عليه، كذا منعهم حسدهم، وبغضهم لمن جاء بالحق، فكان هذا موجبًا لما تورطوا فيه من الكفر بربِّ العالمين.
وقوله: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:26]؛ تحذير من أن يتطرق إلى قلب المؤمن شيء من الهوى، فإنَّه قد يبدأ صغيرًا فيكبر، وبقدر تضخم الهوى وكبره في قلب الإنسان تزل قدمه، ويتورط في الضلال والردى، ويقع فيما ذكره الله - عزَّ وجلَّ - في هذه الآية ﴿فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [ص:26]؛ كل خروج عن الصراط المستقيم سببه الهوى.
ابحث وتابع ستجد أنَّ الهوى أعظم ما يُخرج الناس عن الصراط المستقيم، هنا قد يقول قائل: ثمة من يريد الحق، لكن لا يبلغه، حقًّا قد يكون هذا، لكن غالبًا وراء ذلك هوى يصد عن معرفة الحق؛ ولهذا يقول العلماء فيما يتصل باتباع الهوى، قالوا: "اتباع الهوى يعمي عن الحقِّ معرفةً - أي: علمًا - وقصدًا".
فمن قصد الحقَّ قد يمنعه عن الوصول إليه اتباع الهوى، فلا يعرفه، فعنده حسن القصد، لكن ليس عنده بذل جهد للوصول إلى الحقِّ، فيكون هذا سببًا لعدم بلوغه الحق.
فاتباع الهوى يعمي عن الحقِّ قصدًا، فتجد من يزهد في الحق ولا يطلبه، ومعرفةً فتجد من يقصد الحق، لكن تغلبه نفسه ومشتهياته عن أن يبذل السبب الكافي للوصول إلى الحق، فهو عنده رغبة وحسن قصد، لكنه لا يبلغ ذلك بسبب قصور، أو تقصير في أخذ الأسباب الموصلة إليه؛ ولهذا ينبغي أن يحذر الإنسان من الهوى دقيقه وجليله.
فما هوى من هوى إلَّا باتباع الهوى، ولا ضلَّ من ضل إلَّا بتسرب الهوى إلى قلبه، وقد قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾[ص:26].
قال - رحمه الله -: "ويخرج عن هذا التوحيد: اتباع الهوى".
ثمَّ قال - رحمه الله -: "فكل من اتبع هواه فقد اتخذ هواه معبوده"، وقال الله - جلَّ وعلا -: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾[الجاثية:23]؛ وهذا بيان أنَّ كلَّ من عبد غير الله إنَّما عبد هواه، عبد مشتهياته، عبد ما يحب فغلَّب محبوبه على محبوب ربه، وغلَّب هواه على طريق الهدى الذي يوصله إلى الحق، بغضِّ النظر عن صورة المعبود؛ ولهذا اختصرت الآية كلَّ من عبد غير الله بأنَّه اتبع هواه، بأنَّه عبد هواه؛ لأنَّه لو تخلص من عبادة الهوى ما عبد الصنم، لو تخلص من عبادة الهوى ما عبد الولي الصالح، لو تخلص من عبادة الهوى ما عبد النبي، لو تخلص من عبادة الهوى ما عبد ما عُبد من المعبودات من دون الله - عزَّ وجلّ -، ولكن الهوى هو سبب تلك الانحرافات على اختلاف صورها؛ ولذلك قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾[الجاثية:23].
وقد أجمل المؤلف - المقريزي رحمه الله - في هذا المقطع الباعث والسبب في وقوع الشرك في الناس، وقوع مناقضة التوحيد في الناس، فقال: "فكلُّ من اتبع هواه، فقد اتخذ هواه معبوده"؛ أي: عبد ما يشتهيه بأي صورة كانت هذه المعبودات سواء كانت أصنامًا، أو كانت معاني لا صورة لها، وسواء كانت من إنس، أو من جن، وسواء كانت صالحًا، أو نبيًّا مرسلًا، أو ملكًا، أو ما إلى ذلك.