ثم يُفصِّل هذا فيقول:
"فأفضل العبادات في وقت الجهاد: الجهاد، وإن آل إلى ترك الأوراد من صلاة الليل وصيام النهار، بل من ترك إتمام صلاة الفرض كما في حالة الأمن.
والأفضل في وقت حضور الضيف: القيام بحقه والاشتغال به.
والأفضل في وقت السحر: الاشتغال بالصلاة والقرآن والذكر والدعاء.
والأفضل في وقت الأذان: ترك ما هو فيه من الأوراد والاشتغال بإجابة المؤذن.
والأفضل في أوقات الصلوات الخمس: الجدُّ والاجتهاد في إيقاعها على أكمل الوجوه، والمبادرة إليها في أول الوقت، والخروج إلى المسجد وإن بعُد.
والأفضل في أوقات ضرورة المحتاج: المبادرة إلى مساعدته بالجاه والمال والبدن.
والأفضل في السفر: مساعدة المحتاج، وإعانة الرفقة، وإيثار ذلك على الأوراد والخلوة.
والأفضل في وقت قراءة القرآن: جمعية القلب، والهمة على تدبُّره، والعزم على تنفيذ أوامره، أعظم من جمعيَّة قلب من جاءه كتابٌ من السلطان على ذلك.
والأفضل في وقت الوقوف بعرفة: الاجتهاد في التضرع والدعاء والذكر.
والأفضل في أيام عشر ذي الحجة: الإكثار من التعبد، لاسيما التكبير والتهليل والتحميد، وهو أفضل من الجهاد غير المتعيِّن.
والأفضل في العشر الأواخر من رمضان: لزوم المساجد، والخلوة فيها، مع الاعتكاف والإعراض عن مخالطة الناس، والاشتغال بهم، حتى أنه أفضل من الإقبال على تعليمهم العلم، وإقرائهم القرآن عند كثيرٍ من العلماء.
والأفضل في وقت مرض أخيك المسلم أو موته: عيادته وحضور جنازته، وتشييعه، وتقديم ذلك على خلوتك وجمعيتك.
والأفضل في وقت نزول النوازل وأذى الناس لك: أداء واجب الصبر مع خلطتك لهم، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم وإيذائهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم، وخلطتهم في الخير أفضل من عزلتهم فيه، وعزلتهم في الشر أفضل من خلطتهم فيه، فإن علم أنه إذا خالطهم أزاله وقلَّله فخلطتهم خير من اعتزالهم.
وهؤلاء هم أهل التعبد المطلق، والأصناف التي قبلهم أهل التعبد المقيَّد، فمتى خرج أحدهم عن الفرع الذي تعلَّق به من العبادة وفارقه؛ يرى نفسه كأنه قد نقص ونزل عن عبادته، فهو يعبد الله - تعالى - على وجه واحد، وصاحب التعبد المطلق ليس له غرض في تعبُّدٌ بعينه يؤثره على غيره، بل غرضه تتبُّع مرضات الله - تعالى-: إن رأيت العلماء رأيته معهم، وكذلك في الذّاكرين، والمتصدِّقين، وأرباب الجمعيَّة، وعكوف القلب على الله، فهذا هو الغذاء الجامع للسائر إلى الله في كل طريق، والوافد عليه مع كل فريق. واستحضر ههنا حديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، وقول النّبي - صلى الله عليه وسلم - بحضوره: «هل منكم أحدٌ أطعم اليوم مسكينًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل منكم أحدٌ أصبح اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل منكم أحدٌ عاد اليوم مريضًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «هل منكم أحدٌ اتبع اليوم جنازةً؟» قال أبو بكر: أنا ... الحديث أخرجه مسلم (1028) .
هذا الحديث روي من طريق عبد الغني بن أبي عقيل، ثنا يغنم بن سالم، عن أنس بن مالك - رضي الله عنه- قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في جماعةٍ من أصحابه فقال: «من صام اليوم؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «من تصدَّق اليوم؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «من عاد اليوم مريضًا؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «فمن شهد اليوم جنازةً؟» قال أبو بكر: أنا. قال: «وجبت لك» يعني: الجنة.
ونعيم بن سالم وإن تُكلِّم فيه لكن تابعه سلمة بن وردان، وله أصل صحيحٌ من حديث مالك، عن محمد بن شهاب، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي في الجنّة: يا عبد الله، هذا خير، فمن كان من أهل الصّلاة نودي من باب الصّلاة، ومن كان من أهل الجهاد نودي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان»، فقال أبو بكر - رضي الله عنه-: يا رسول الله، ما على من يدعى من هذه الأبواب كلها من ضرورة، فهل يدعى أحدٌ من هذه الأبواب كلها؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» أخرجه البخاري (1897)، ومسلم (1027) .
هكذا رواه عن مالك موصولًا مسندًا عن يحيى بن يحيى، ومعن بن عيسى، وعبد الله بن المبارك. ورواه يحيى بن بكير، وعبد الله بن يوسف، عن مالك عن ابن شهاب، عن حميد مرسلًا. وليس هو عند القعنبي لا مرسلًا ولا مسندًا.
ومعنى قوله: «من أنفق زوجين» يعني: شيئين من نوعٍ واحدٍ، نحو درهمين، أو دينارين، أو فرسين، أو قميصين، وكذلك من صلى ركعتين، أو مشى في سبيل الله - تعالى - خطوتين، أو صام يومين، ونحو ذلك، وإنما أراد - والله أعلم - أقل التكرار، وأقل وجوه المداومة على العمل من أعمال البر؛ لأن الاثنين أقل الجمع، فهذا كالغيث أين وقع نفع، صحب الله بلا خلق، وصحب الخلق بلا نفس، إذا كان مع الله عزل الخلائق مع البين وتخلى عنهم، وإذا كان مع خلقه عزل نفسه من الوسط وتخلى عنها، فما أغربه بين الناس، وما أشد وحشته منهم، وما أعظم أنسه بالله وفرحه به وطمأنينته وسكونه إليه".
هذا هو القسم الرابع من أقسام الناس في أي العبادة أفضل.
وخُلاصة هذا العرض المُفصَّل المتقن أنَّ الأفضل في العبادات هو الأرضى لله - عز وجل - في كل زمانٍ وحال، وهذا يختلف باختلاف الحال، وباختلاف الزمان، ففي حال الجهاد الأفضل الجهاد، وهو مقدمٌ على نوافل العبادات، بل ويؤدي في بعض الأحيان إلى تغير صفة الواجب في الصلاة؛ كما جاء بيانه في صفة صلاة الخوف في آية سورة النساء، وكذلك حال بقية الأحوال الأفضل فيها ما كان موافقًا لأمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -.
ثم ضرب لذلك مثلًا بعد أن ذكر الأفضل في الاختلاف قال: وهذا يجمع الكمال في كل حال للإنسان، وذكر في ذلك حديث أبي بكر - رضي الله تعالى عنه -، وتنوع أبواب الخير التي فتحها الله تعالى عليه من صالح العمل؛ حيث إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن جملةٍ من الأعمال «من أصبح اليوم منكم صائمًا؟» فقال أبو بكرٍ: أنا، «من تصدق اليوم منكم بصدقةٍ؟»، فقال أبو بكرٍ: أنا، «من عاد اليوم منكم مريضًا؟»، فقال: أبو بكرٍ: أنا، «من تبع اليوم منك جنازةٍ؟»، فقال أبو بكر: أنا.
فكان - رضي الله عنه - متنوِّعًا في عمله في تحقيق مرضاة ربه في العمل القاصر الذي يعود نفعه إليه، وفي العمل المتعدي، حسب ما تقتضيه الحال، ويتحقق به رضا الله - جلَّ وعلا -.
هذا ما يتصل بما ذكره المؤلف - رحمه الله - من أقسام الناس في أي العبادات أفضل؟ وفي أيها أنفع؟ وذكر في ذلك كم طريقًا؟ ذكر أربعة طرق:
الطريق الأول: أنَّ أفضل العبادات أشقها وأصعبها.
الطريق الثاني: أنَّ أفضل العبادات الزهد في الدنيا.
الطريق الثالث: أنَّ أفضل العبادات ما كان نفعه متعديًا.
الطريق الرابع: - وهو أكملها - أنَّ أفضل العبادات ما كان محققًا لرضا الله في أي حالٍ كان، وهذا يختلف باختلاف واجب الوقت، ويختلف باختلاف الحال، حال العامل، ويختلف باختلاف المكان، وله عدة اعتبارات.
نقف على هذا، ونكمل إن شاء الله تعالى القراءة في هذا الكتاب، ونختمه في مجلسنا غدًا إن شاء الله تعالى بعد المغرب، وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد.