أما النوع الثاني من القلوب فهو القلب المريض، وهو الذي أشار إليه بقوله:
أوِ اعتلّ بالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى
اعتل: أي مرض، فالاعتلال هو الخروج عن حالة السلامة والصحة، هذا الاعتلال مرض في القلب، وهو ثاني أقسام القلوب، واعلم أن المقصود بمرض القلب هو أن يصاب القلب بما يخرجه عن السلامة والصحة والاستقامة، وهذا هو قلب الفاسق العاصي، فإن قلب الفاسق العاصي مريض كما قال الله –جل وعلا-: ﴿فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِفَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[الأحزاب: 32] أي مرض الشهوة.
والمرض قد يطلق على قلب الكافر وقلب المنافق، لكن في الغالب أن القلب المريض يطلق على من كان دون الكفر، من أصحاب الفسوق والعصيان.
واعلم أن أمراض القلوب ترجع إلى أحد نوعين؛ النوع الأول مرض الشبهات، وهذا الذي أشار إليه قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾[المنافقون: 10].
وأما النوع الثاني من الأمراض التي تصيب القلب فهو مرض الشهوات المُرْدية كالزنا ومحبة الفواحش والمعاصي ونحو ذلك، وهذا الذي ذكره الله تعالى في قوله: ﴿فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ﴾[الأحزاب: 32].
المؤلف –رحمه الله- مثَّل في أمراض القلوب بنوعين من المرض وهما؛ الرين والعمى.
قال: أوِ اعتلّ بالأمراضِ كالرَّينِ والعَمَى
هذان مثالان لما يصيب القلب من الأمراض، الأول الرين وقد ذكره الله تعالى في قوله: ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾[المطففين: 14] وأصل الرَّيْن الغلبة في اللغة، فالرين هو ما يغلب على الشيء، ران على القلب أي غلب عليه.
والمقصود بالرين هنا حجاب غليظ يحجب القلب عن رؤية الحق والهدى، ﴿بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ أي غطى قلوبهم حجابٌ منعهم من رؤية الحق والعمل به، وقصده.
والقلب تعلوه عدة طبقات، قال العلماء: الرين أغلظ الطبقات التي تعلو القلب وتحجبه والغين أرق الطبقات التي تعلو القلب وتغشاه، وهذا يكون حتى في الأبرار والمتقين، ولذلك قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «أنه لا يغان على قلبه» أي يصيب قلبه الغين وهي طبقة تعلو القلب، فاستغفر الله مائة مرة، فجعل الاستغفار سبيل لكشف هذه الطبقة التي تشوش على القلب الإدراك، وهذا قلب سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، فكيف بقلوب غيره من الخلق.
وأما الطبقة الوسطى بين الغين والرين هي الغيب، لا أعلم لها أصلًا في كلام الله –عز وجل- وكلام رسوله لكن ذكرها جماعة من أهل العلم، والذي يظهر الذي بين الرين والغين طبقات تختلف باختلاف حال الناس في إقبالهم على الطاعة وأخذهم بأسباب الهدى والصلاح.
إذًا هذا المرض الأول الذي ذكره مما يصيب القلب وهو الرين.
الثاني: العمى وهو انطماس الرؤية، فقد الرؤية، القلب له عين كما أن الرأس فيها عين يدرك به الإنسان المرئيات، كذلك القلب له عين يدرك بها المعاني، عين القلب ما ترى الأشياء المحسوسة، لكنها تدرك المعاني الأشياء المعنوية، وكلما صفى القلب قوي النظر، كلما صح قلبك قوي بصر عين قلبك، ولذلك يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا﴾[الأنفال: 29] ويقول تعالى: ﴿فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾[الحج: 46] فأضاف العمى إلى القلب قال: ﴿أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى﴾[الرعد: 19] يعني أعمى القلب فلا يميز حق من باطل ولا يدرك هدى من ضلال.
ولذلك قال: ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾[يونس: 43] المقصود بالعمى هنا عمى القلب، فعمى القلب هو عدم إبصار الحق وعدم رؤيته وهو انطماس معرفة الهداية مع أنها واضحة كالشمس في ربيعة النهار، فيبقى القلب حائرًا لكون قلبه قد عمي عن الحق والهدى.
هذا ما يتصل بالنوع الثاني من أنواع القلوب، وهو القلب المريض.
أسال الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقني وإياكم قلبًا صحيحًا سليما، اللهم نور قلوبنا بمحبتك وتعظيمك، واعمرها بطاعتك وما يرضيك يا ذا الجلال والإكرام، أهدنا سبل السلام واصرف عنا السوء والفحشاء، واجعلنا من حسبك وأوليائك يا رب العالمين.