"وهو بدل عن طهارة الماء إذا تعذر استعمال الماء لأعضاء الطهارة أو بعضها لعدمه أو خوف ضرر باستعماله فيقوم التراب مقام الماء".
قوله –رحمه الله-: "وهو بدل الماء" أي أن التيمم عوض الماء حال عدم التمكن من استعماله، إما للفقد، وإما للعجز، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وذلك في طهارة الأحداث بأنواعها.
أما في طهارة النجاسات، فهذا مما اختلف فيه العلماء، هل ينفع التيمم في إزالة الخبث إذا كان على البدن، أو على الثياب؟ أو لا ينفع؟ بمعنى أن شخصًا في ثوبه نجاسة، أو على بدنه نجاسة، ولا يتمكن من إزالة ذلك لعدم الماء، أو للتضرر باستعمال الماء، فهل يتيمم عن النجاسة أو لا؟
من أهل العلم من ذهب إلى أن النجاسة إذا كانت على البدن أو الثوب فإنه يتيمم لها، أي لأجلها، وأما إذا كانت النجاسة على الأرض فإنه لا يتيمم بالاتفاق.
وذهب جماعة من أهل العلم أنه لا يجب التيمم في إزالة النجاسات؛ لعدم الدليل على ذلك، وأن الوارد من النصوص هو في التيمم عن الأحداث أو التيمم للأحداث لرفع الحدث الأصغر والأكبر، وأما التيمم في نجاسة البدن أو الثوب فإنه لم يرد في ذلك أصل.
وقوله –رحمه الله-: "إذا تعذر استعمال الماء لأعضاء الطهارة أو بعضها لعدمه أو خوف ضرر باستعماله" هذا بيان الأحوال التي يجوز فيها استعمال التراب بدل الماء في رفع الحدث الأصغر أو الأكبر.
قال: "إذا تعذر استعمال الماء لأعضاء الطهارة أو بعضها" يعني إذا تعذر استعمال الماء بالكلية فإنه يصار إلى التيمم، وإذا تعذر استعمال الماء في بعض الأعضاء أيضًا يصار إلى التيمم، فهذان حالان يستعمل فيهما التراب عوضا عن الماء، فثمة حالان يبيحان المصير إلى التراب في الطهارة عوضًا عن الماء.
الحال الأولى:- عدم الماء وهذا بفقده وهو شرط لجواز المصير إلى التراب في التطهير لقول الله تعالى: ﴿فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا﴾ [المائدة: 6] فدل ذلك على أنه إذا وجد ماءًا لم يحل له أن يصير إلى التراب، بل وجب عليه أن يستعمل الماء، ولا يصير إلى التراب.
والحال الثانية:- التي يجوز فيها استعمال التراب بدل الماء في الطهارة خوف الضرر باستعمال الماء؛ لحديث صاحب الشجة، وسيذكره المؤلف –رحمه الله- وحديث عمرو بن العاص؛ حيث إنه احتلم في ليلة باردة رضي الله تعالى عنه في غزوة ذات السلاسل، فخاف من الاغتسال أن يصيبه بذلك ضرر أو هلاك، فصلى بأصحابه متيمما، فلمَّا أخبروا النبي –صلى الله عليه وسلم- بذلك قال له النبي –صلى الله عليه وسلم-: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» فأخبر النبي –صلى الله عليه وسلم- بسبب ذلك وهو خوفه من الهلاك مستدل بقول الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29] فضحك النبي –صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئا وأقره على ما كان من عمله.
فدل ذلك على أن التيمم لخشية البرد جائز، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم إذا خشي الضرر بالبرد، والمقصود بالضرر أن يلحقه أذى بمرض أو هلاك، أما المشقة فإنها لا تبيح أن يترك الإنسان استعمال الماء لكون استعماله في زمن البرد شاقًا، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: «ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات قلنا: بلى يا رسول الله قال: إسباغ الوضوء على مكاره» والمكاره هي ما يكرهه الإنسان من شدة برد يتأذى فيها من استعمال الماء إذا لم يسخن، أو شدة حر في الماء، بأن يتأذى لحرارته على بدنه، فكل ذلك من المكارة الداخلة في قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «إسباغ الوضوء على المكاره».
وأما ضابط الخوف المبيح، فقد اختلف العلماء رحمهم الله في الخوف المبيح، فروي عن الإمام أحمد أنه لا يبيح خوف الضرر استعمال التراب عوضًا عن الماء إلا إذا خاف تلفًا، وهذا أحد قولي الشافعي –رحمه الله- وظاهر المذهب أنه يباح له التيمم إذا خاف زيادة المرض إذا كان مريضًا، أو تأخر البرء، أو خاف شيئا فاحشًا، ونحو ذلك مما يشق عليه ويخرج عن احتماله.
هذا هو الضابط المبيح لاستعمال التراب عوضًا عن الماء حال خوف الضرر، وهذا ما ذهب إليه أحمد في رواية، وهو المذهب، وكذلك هو قول أبي حنيفة وقول الشافعي، وهو الصحيح لعموم قوله تعالى: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: 6] .
وقوله –رحمه الله-: "فيقوم التراب مقام الماء" بيان أن التراب حال تعذر استعمال الماء يقوم مقام الماء من كل وجه، فيسد مسده في تحصيل الطهارة، فإن كانت الطهارة الصغرى أو الطهارة الكبرى، فكلاهما على نحو واحد ولا يشترط في الطهارة للتراب شروطًا زائدة على الطهارة بالماء على الصحيح، إلا الفقد فإن الله لم يذكر غيره.
وهذا يفيد قوله: "فيقوم التراب مقام الماء" يفيد أن التراب إذا استعمل في التطهير فإنه يرفع الحدث، وليس كما يقول جماعة من الفقهاء إنه يبيح، بل هو رافع وليس مبيحًا، ولكنه رفع مؤقت بالزمن الذي يكون فيه الإنسان عاجزًا عن استعمال الماء، إما لفقده وإما للتضرر باستعماله.