مناسك الحج من الروض المربع

من 2024-06-01 وحتى 2030-06-17
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 117

التاريخ : 2024-06-01 05:30:27


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.

يقول المصنف –رحمه الله-: (كتاب المناسك جمع منسك بفتح السين وكسرها وهو التعبد) هذا تعريف المناسك، والمناسك واحدها منسك كما قال المصنف –رحمه الله-وهو بفتح السين وكسرها مصدر، وبالكسر اسم لموضع العبادة منسك.

وقد قال صاحب المطلع في تعريف المناسك أنها: مواضع متعبدات الحج، فالمناسك إذن التعبدات كلها على وجه العموم، إلا أنه غلب إطلاقها على تعبدات الحج.

(والمنسك في الأصل) يقول المصنف (من النسيكة وهي الذبيحة)، والمراد به الذبيحة المتقرب بها وليس مطلق الذبيحة، ثم اتسع فصار اسما للعبادة والطاعة، ومنه قيل للعابد ناسك، وقد غلب إطلاق هذا اللفظ على أفعال الحج لكثرة أنواعه، كما تقدم في كلام صاحب المطلع.

وقوله –رحمه الله-: (الحج بفتح الحاء في الأشهر عكس شهر الحجة)

 الحج فيه لغتان قد قرأ بهما؛ الحج بالفتح، والحج بالكسر، وكذلك شهر ذي الحجة بالفتح والكسر، لكن الأشهر هو ما ذكره المؤلف –رحمه الله-من فتح الحج وكسر الحجة في شهر ذي الحجة.

  

وقوله –رحمه الله-: (فرض سنة تسع من الهجرة)، أي أن الحج فرض في قول الأكثر سنة تسع من هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم-وقيل سنة عشر، وقيل سنة ست، وقيل سنة خمس، والأقرب أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة من الهجرة، يدل لذلك أن آية وجوب الحج التي أجمع المسلمون على دلالتها على وجوب الحج وهي قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا[آل عمران: 97] قد نزلت في السنة التاسعة متأخرة، أو في السنة العاشرة، هكذا قيل.

ويدل لذلك أيضًا أنها في سياق مخاطبة أهل الكتاب وتقرير ملة إبراهيم، وتنزيه من اليهودية والنصرانية، وصدر سورة آل عمران إنما نزل لما جاء وفد نجران إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-وناظروه  في أمر عيسى بن مريم، ووفد نجران إنما قدموا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-في آخر زمانه –صلى الله عليه وسلم-في السنة التاسعة أو آخرها أو العاشرة.

 يؤيد أن الحج إنما فرض في السنة التاسعة أن أكثر الأحاديث الصحيحة في دعائم الإسلام ليس فيها ذكر الحج، مثل حديث وفد عبد القيس لما أمرهم بما أمر وفصل لهم ما يعملون، وما يدخلون به الجنة، أمرهم بالإيمان بالله وحده، وفسره بأنه الصلاة والزكاة وصوم رمضان، وأن يعطوا من المغنم الخمس.[صحيح البخاري(53)]

ومعلوم أنه لو كان الحج واجبا، لم يضمن له الجنة إلا به، لأنه ركن من أركان الإسلام، وهكذا الأعرابي الذي جاء سائلا للنبي –صلى الله عليه وسلم-فالأحاديث متواطئة على عدم ذكر فريضة الحج، وذلك للمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنه إنما فرض الحج متأخرا، ويؤيد ذلك أيضًا أن الناس قد اختلفوا في وجوب الحج قبل السنة التاسعة والأصل عدم وجوبه في الزمان الذي اختلف فيه حتى يجتمع عليه، هذه كلها مؤيدات للقول بأن الحج إنما فرض في السنة التاسعة من هجرة النبي –صلى الله عليه وسلم-.

  

وقوله –رحمه الله-في تعريف الحج قال: (وهو لغة القصد) هذا تعريف الحج لغة، وقد قال الخليل بن أحمد: الحج كثرة القصد إلى من تعظمه، وقيل: القصد إلى من تعظمه، وقيل كثرة القصد إليه، والأمر في هذا متقارب، لكن اقتصر المؤلف على مجرد القصد، وغيره قيَّد ذلك بكثرة القصد، وقيده أيضًا أنه قصد إلى معظَّم، وهذا يقرب بالمعنى إلى المعنى الشرعي للحج، فإنه (قصد لمكة لعمل مخصوص في زمن مخصوص)، وذلك لتعظيم ما عظمه الله –عز وجل-، ويأتي بيان الإجمال الذي في قول المؤلف لعمل مخصوص في زمن مخصوص.

وأكثر من هذا التعريف وأبين أن يقال: الحج هو قصد مكة للنسك.

فائدة: المؤلف –رحمه الله-أخر كتاب الحج عن كتاب الصلاة والزكاة والصوم؛ لأن الصلاة عماد الدين، وهي أول أركانه العملية، ولكونها تتكرر في اليوم خمس مرات، ثم أتى بالزكاة لكونها قرينة الصلاة في كتاب الله، ولكونها شاملة للمكلف وغيره، ثم أتى بالصوم لتكرره كل سنة، والحج إنما يجب في العمر مرة واحدة، كما سيأتي.

وقد قدم بعض أهل العلم ذكر الحج عن الصوم كما في رواية البخاري، قد قدم في رواية البخاري الحج على الصوم، وذلك للذي جاء في الحج في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 97].

قوله –رحمه الله-: (والعمرة لغة: الزيارة، وشرعا زيارة البيت على وجه مخصوص)، قال: تعريف العمرة لغة وشرعا، وسيأتي بيان الوجه المخصوص في كلام المصنف –رحمه الله-.

  

وقوله: (وهما واجبان) هما ضمير عائد إلى الحج والعمرة، واجبان أي: لازمان للمكلف بالشروط التي سيأتي بيانها وإيضاحها؛ فالحج والعمرة واجبان على المكلف.

وقد ذكر المؤلف دليلين، والأدلة على ذلك متوافرة، المؤلف ذكر دليلين، وخص هذين الدليلين بالذكر مع كون غيرهما قد يكون أوضح في الدلالة؛ لكون هذين الدليلين جمع ذكر الحج والعمرة، (لقوله تعالى:  ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: 196] ولحديث عائشةَ: يا رسولَ اللَّه، هل على النِّساءِ مِن جهادٍ؟ «نعَم، عليهنَّ جِهادٌ، لا قتالَ فيهِ: الحجُّ والعُمرَةُ»[مسند أحمد(25322)].)

أما الحج فركن من أركان الإسلام وفرائضه الواجبة، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع، فالحج فريضة على المستطيع من الناس كما دل عليه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 97]، وقد جاء في صحيح الإمام مسلم من سؤال جبريل عن الإسلام قال: «وتَحُجَّ البَيْتَ إنِ اسْتَطَعْتَ إلَيْهِ سَبِيلًا»[صحيح مسلم(8)]، والآية والحديث أظهر في الدلالة من وجوب الحج مما ذكر المؤلف، لكن المؤلف ذكر ما ذكر في الدليل بناء على اجتماع العملين؛ الحج والعمرة في النص.

ووجه الدلالة في الآية في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ[البقرة: 196] أن الآية اقتضت أمرا بابتداء الحج والعمرة، ومقتضى الأمر الوجوب؛ ثم عطف العمرة على الحج، والأصل التساهل بين المعطوف والمعطوف عليه، فلما أمر بالإتمام دل على الوجوب واللزوم في الحج والعمرة.

واستدلوا أيضًا بالأثر الوارد عن عمر وعلي أنهما قالا في إتمام الحج والعمرة قالا: «تَمامُها أن تُحْرِمَ بِهِما من دُوَيْرةِ أَهْلِكَ»[أخرجه الحاكم في مستدركه(3090)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي] فحمل البناء على الابتداء أي حمل الإتمام على ابتداء الحج والعمرة من دويرة الأهل، وكذلك روي عن عبد الله بن مسعود أنه قرأ وأقيموا الحج والعمرة لله، هذا وجه استدلالاهم بالآية على وجوب الحج والعمرة.

ويناقش بأن الآية تقتضي وجوب إتمام الحج بعد الدخول فيه، والبحث في وجوب الابتداء قبل الدخول، فإن الإتمام لفظ يستعمل في العرف في إكمال شيء بعد الدخول فيه، نظير قوله تعالى: ﴿ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ[البقرة: 187].

أما ما روي عن عمر وعلي رضي الله تعالى عنهما من الأمر بالإتمام بأن يحرما من دويرة الأهل، فلا دلالة فيه، إنما قصد أن يبين أن النقصان ينتفي عنهما بهذا العمل، ولا دلالة فيه على أنه يجب الابتداء من دويرة الأهل، كذلك قراءة عبد الله بن مسعود تحمل على أقيموا الحج والعمرة بعد الدخول جمعا بين القراءة هذا إن ثبتت.

أما وجوب العمرة، فوجوبها هو المذهب، بناء على ما ذكره المؤلف من آية وحديث، ووجه الدلالة في الحديث قوله: «عليهن» فإن على تقتضي الإيجاب، ولا سيما أنها سألته عما يجب على النساء من الجهاد، فجعل جهادهن الحج والعمرة، (وإذا ثبت في النساء فالرجال أولى) كما قال المؤلف –رحمه الله-.

ونوقش هذا الاستدلال بأن لفظة «عليهن»  في الحديث ليست صريحة في الوجوب، فقد تطلق على ما هو سنة مؤكدة.

قالوا: واللفظ إذا كان محتملا لإرادة الوجوب وإرادة السنية، فإنه يلزم طلب الدليل بأمر خارج ببيان المراد، هذا هو الوجوب أو السنية، وقد دل دليل خارج على وجوب الحج، ولم يدل دليل خارج على وجوب العمرة.

ولهذا الرواية الثانية عن الإمام أحمد –رحمه الله-أن العمرة ليست واجبة، واستدلوا له بما جاء في حديث جابر أن النبي –صلى الله عليه وسلم-سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال: «لا، وأن تعتمر فهو أفضل»[سنن الترمذي(931)]، وهذا حديث أخرجه الترمذي، وقال عنه حديث حسن صحيح.

ولهذا الراجح من هذين القولين أن العمرة ليست واجبة، إنما هي سنة.

  

يقول المؤلف –رحمه الله-بعد ذلك: (إن تقرر ذلك) أي: وجوب الحج والعمرة، (فيجبان على المسلم الحر المكلف القادر أي المستطيع في عمره مرة واحدة) إلى آخر ما ذكر –رحمه الله-

هذا شروع في بيان شروط الحج والعمرة.

فقد اتفق أهل العلم على أن الحج لا يجب إلا بشروط أربعة؛ الإسلام، والتكليف، والحرية، والقدرة وهي الاستطاعة، فأما الإسلام فلا خلاف بين أهل العلم أن الإسلام شرط في كل العبادات، وأما التكليف والمراد به البلوغ والعقل، فهو شرط للوجوب في أغلب العبادات، وأما اشتراط الحرية المؤلف –رحمه الله-ذكر ذلك نصا، حيث قال: (وكمال الحرية)؛ فهذا بيان لاشتراط الحرية.

أما التكليف فهو البلوغ والعقل، فهو شرط للوجوب في أغلب العبادات، وأما اشتراط الحرية فقد أجمعت الأمة على أن العبد لا يلزمه الحج؛ لأن منافعه مستحقة لسيده؛ فليس هو مستطيعًا؛ والمراد بالقدرة الاستطاعة، وهي شرط لوجوب الحج بإجماع المسلمين، والعمرة كالحج فالقدرة والاستطاعة شرط في كل العبادات، كما قال الله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ[التغابن: 16]، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا[البقرة: 286]، ﴿لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا[الطلاق: 7].

وجاء النص على افتراض استطاعة فريضة الحج حيث قال الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 97]، وكذلك في الحديث حديث جبريل لما سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-عن الإسلام قال: «وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا»[سبق].

وقوله –رحمه الله-: (في عمره مرة واحدة) لقوله -عليه السلام- «الحجُّ مرةٌ، فما زاد فهو تطوُّعٌ» [أخرجه أحمد في مسنده(2304)] أي إن الحج والعمرة واجبان على المكلف في العمر مرة واحدة، لهذا الحديث الذي ذكر وهو حديث ابن عباس، ويدل له أيضًا ما رواه مسلم من حديث أبي هريرة قال: «خَطَبَنَا رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ، فَقالَ: أَيُّهَا النَّاسُ قدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الحَجَّ، فَحُجُّوا، فَقالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يا رَسولَ اللهِ؟ فَسَكَتَ حتَّى قالَهَا ثَلَاثًا، فَقالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: لو قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَما اسْتَطَعْتُمْ». [أخرجه مسلم في صحيحه(1337)]

ثم بعد أن ذكر المؤلف –رحمه الله-هذه الشروط الأربعة؛ الإسلام، والحرية، والتكليف، والقدرة، عاد لبيان منزلة هذه الشروط، وأثر هذه الشروط في الحج.

  

قال: (فالإسلام والعقل شرطان للوجوب والصحة)، أي: إن الإسلام والعقل شرطان لوجوب الحج والعمرة وصحتهما، هذا القول بوجوب العمرة، والمعنى في قوله: (شرطان للوجوب والصحة) أن وجوب الحج يتوقف على كون الحج مسلما عاقلا، فلا يأتي بالحج على كافر ولا على مجنون، وكذلك صحة الحج تتوقف على هذين الوصفين، فلا يصح حج الكافر، كما لا يصح حج فاقد العقل.

قوله –رحمه الله-: (والبلوغ وكمال الحرية شرطان للوجوب والإجزاء دون الصحة) أي: إن البلوغ وكمال الحرية شرطان للوجوب والإجزاء دون الصحة؛ فيصحان من الصغير ويصحان من العبد، لكن حج الصغير وحج العبد لا يجزءانه عن حجة الإسلام، ولم يذكر المؤلف –رحمه الله-لذلك دليلا، والدليل على ذلك حديث ابن عباس، حيث قال كما في المصنف: «خذوا عني خذوا عني» ولا تقولوا قال ابن عباس، أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى[مصنف ابن أبي شيبة(15105)]، فدل ذلك على أنه لا يجزئه عن حجة الإسلام، وبه يتبين الفرق بين الإجزاء والصحة، قد يقترنان وقد يفترقان، وقد يكون صحيحا غير مجزئ، لكن إذا كان مجزءا فإنه لا يكون إلا صحيحا، والإجزاء هو إسقاط الفرض ووجوب التعبد.

  

وقوله –رحمه الله-: (فمن كملت له الشروط وجب عليه السعي على الفور)، الشروط المذكورة سابقا وهي الشروط الأربعة؛ الإسلام، والحرية، والتكليف، والقدرة، فمن كملت فيه هذه الشروط وجب عليه الحج على الفور، وبهذا قال جماعة من أهل العلم، واستدلوا لذلك بعموم أدلة وجوب الحج، وأن امتثال الأمر واجب على الفور.

والمؤلف –رحمه الله-ذكر لذلك دليلا خاصًّا، حيث قال: (لقول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «تعجلوا إلى الحج» أي الفريضة «فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له»[أخرجه أحمد في مسنده(2868)، بسند حسن])، والحديث عن ابن عباس وإسناده لا بأس به، وقد ضعفه في بيان الوهم والإيهام في كتاب الأحكام، واحتجوا لذلك أيضًا بما جاء عن علي رضي الله عنه أنه قال: «من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله ولا يحج فلا عليه أن يموت يهوديًّا أو نصرانيا»، التزاما بقول الله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ[آل عمران: 97]، وجاء مثله عن أبي أمامة وعن عمر رضي الله تعالى عنهم أجمعين.

والقول الثاني في المسألة أن الحج وجوبه موسع، فوجوبه على التراخي لا على الفور، فيجوز لمن توافرت فيه الشروط أن يؤخر، وبهذا قال الشافعي وغيره، وعمدة القائلين بهذا أن النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يحج إلا في السنة العاشرة، ولو كان وجوبه على الفور لما أخره صلوات الله وسلامه عليه.

وأجيب عن هذا بأن تأخير النبي –صلى الله عليه وسلم-إنما كان لاشتغاله باستقبال الوفود في السنة التاسعة، وقيل: بل تأخيره صلوات الله وسلامه عليه كان لأجل أن يخلص الموسم لأهل الإسلام، فلا تظهر فيه مظاهر الشرك، ولذلك بعث في السنة الثامنة أبا بكر رضي الله تعالى عنه ومن معه ينادون في الموقف ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان.

  

وقوله –رحمه الله-: (فإن زال الرق بأن عتق العبد محرما، وزال الجنون بأن أفاق المجنون وأحرم إن لم يكن محرما، وزال الصبى بأن بلغ الصبي وهو محرم في الحج وهو بعرفة قبل الدفع منها أو بعده، إن عاد فوقف في وقته ولم يكن سعى بعد طواف القدوم) إلى آخره، كل هذا بيان أثر اكتمال شروط الإجزاء في الحج.

فقوله: (زال الرق) أي: توافر فيه وصف الإجزاء، (وزال الجنون) أي: توافر فيه شرط الصحة، (وزال الصبا) توافر فيه شرط الإجزاء، فهذه المسائل الثلاثة زال الرق توافر فيه شرط الإجزاء، طبعا والصحة من باب أولى، زوال الجنون توافر فيه شرط الصحة، لأن الحج لا يصح إلا من عاقل، الصبا زوال الصبا بالبلوغ توافر فيه شرط الإجزاء.

الخلاصة: إذا توافر شرط الإجزاء والصحة في الحج (وهو بعرفه قبل الدفع منها) أي الخروج، (أو بعده إن عاد فوقف في وقته) يعني: قبل طلوع فجر يوم النحر، (ولم يكن سعى بعد طواف القدوم) أي: سعي الحج، صح أي: صح حجه وأجزأ، وفي العمرة قبل طوافه، أي وجد ذلك وهو زوال الرق أو زوال الجنون، وزوال الصبا (وفي العمرة قبل طوافها صح) أي الحج والعمرة فيما ذكر فرضا، يعني يجزءانه عن حجة الإسلام.

قال: (فيجزئه عن حجة الإسلام وعمرته).

قال: (ويعتد بإحرام ووقوف موجودين إذا) يعني لا يحتاج أن يجدد الإحرام، ولا أن يخرج من عرفة ليدخلها وهو على هذه الصفة.

قال: (وما قبلَه تَطوُّعٌ، لم يَنقَلِب فَرضًا)، أي: ما قبل زوال الرق وزوال الجنون وزوال الصبا، وما قبله تطوع لا ينقلب فرضا، يعني يبقى على أنه تطوع، لكن هذا لا يؤثر على الإجزاء.

قوله: (فإن كان الصغيرُ أَو القِنُّ) ، الصغير من دون البلوغ، والقن هو العبد الخالص الذي ليس فيه شيء من الحرية، والمقصود بالقن هنا العبد، لكن يفرق بين العبد والقن أن العبد منه ما هو رقيق ومباح، ومنه ما هو رقيق خالص، فالقن هو العبد الخالص الذي ليس فيه شيء من الحرية، (فإن كان الصغيرُ أَو القِنُّ سَعَى بعدَ طَوافِ القُدومِ قَبلَ الوقوف: لم يُجزِئْه الحجُّ).

قوله: (ولو أعاد السعي) ليس إشارة إلى الخلاف، ليس ثمة خلاف في المذهب، وإنما هو لدفع التوهم، قد يتوهم أنه إذا أعاد السعي أجزأه، يعني لو أعاد السعي بعد البلوغ والعتق أجزأه، وعلل ذلك لأنه لا يشرع مجاوزة عدده ولا تكراره، وخالف الوقوف؛ لأن الوقوف قال قبل المغيب إلا إن عاد، فإنه إذا عاد في وقته أجزأ، لأنه مشروع استدامته ولا قدر له محدود.

قوله: (ولو أعاد السعي) يحتمل أنه أشار إلى الخلاف، ويحتمل أنه لدفع التوهم، والذي يظهر أنه إشارة إلى الخلاف، لأن ثمة قولًا بأنه إذا أعاده أجزأه، وقد أشار إلى ذلك في الإقناع.

فقال: وقيل يجزئه إذا أعاد السعي، وهذا القول حقيقة له حظ من النظر، لأن السعي اختلف فيه هل هو سنة أو واجب أو ركن، ولأن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «الحج عرفة»[سنن الترمذي(890)، وقال: هذا حديث حسن صحيح] فإذا أدرك الحج على صفة تجزئ عن الفرض فإنه يدرك بذلك الحج.

وقوله –رحمه الله-: (وكذا إذا بلغ أو عتق في أثناء طواف العمرة لم تجزئه ولو أعاده)، أي لم تجزئه عن عمرة الإسلام؛ لأنه لا يشرع مجاوزة عدم الطواف ولا تكراره، وهو ركن مقصود في العمرة، والوقوف بعرفه في الحج.

قال: (ويصح فعلهما أي الحج والعمرة من الصبي نفلا حديث ابن عباس أن امرأة رفعت للنبي صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولكِ أجر» رواه مسلم) [صحيح مسلم(1336)] .

ثم بين المؤلف –رحمه الله-كيف يكون إحرام الصبي.

  

قال: (ويحرم الولي في مال عمن لم يميز ولو محرما أو لم يحج)، الصبي لا يخلو من حالين؛ إما أن يكون مميزًا، وإما ألا يكون ذا تمييز، وكلاهما يدخل في قول المصنف –رحمه الله-: يصح فعلهما من الصبي يعني سواء كان مميزا أو غير مميز.

واستدلوا لصحة حج الصبي غير المميز بحديث ابن عباس أن امرأة رفعت للنبي –صلى الله عليه وسلم-صبيا فقالت: ألهذا حج؟ قال: «نعم، ولكِ أجر» ولم يستفصل النبي –صلى الله عليه وسلم-أهو مميز أو لا، وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقام.

قال: (ويُحرِمُ الوليُّ في مالٍ عَمَّن لم يُميِّزْ) أي: الذي له حق في الإحرام عمن لم يميز: الولي في المال، من يتولى ماله؛ وذلك لأن العمرة فيها نفقة، فمن له الولاية على المال، على مال الصغير غير المميز هو الذي يحرم عنه.

وقوله: (ولو محرِمًا، أَو لم يَحُجَّ) لأنه يحرم عنه بالنيابة، وليس عن نفسه، هو يحرم عنه بالنيابة للعجز عن النية، للعجز عن تأتي النية من الصبي غير المميز، وليس أن المميز ينوب عن الصغير في كل أعمال الحج، إنما يفعل ما لا يستطيعه الصبي، أما ما يستطيعه فإنه يأتي به.

ويشهد لذلك حديث جابر: «حججنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم-ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم»[أخرجه أحمد في مسنده(14370)، وسنده ضعيف]، فدخلت النيابة فيما يعجز الصبي عن الإتيان به.

قال –رحمه الله-: (أو لم يحج) لنفس التعليل؛ لأنها ليست نيابة  في العمل كله، إنما في بعض العمل.

قال: (ويحرم مميز بإذنه) أي: ويلزم المميز الإحرام بإذن الولي في المال، لما يترتب على ذلك من النفقات.

قال: (ويفعل ولي ما يعجزهما) أي من الأعمال، من أعمال المناسك لما تقدم في حديث جابر عند أحمد وابن ماجه قال: «حججنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم-ومعنا النساء والصبيان، فلبينا عن الصبيان ورمينا عنهم»، والإجماع منعقد على جواز الرمي عن الصغير الذي لا يقدر لصغره، وألحق الجمهور بالصغير في جواز النيابة العاجز وسيأتي.

وقوله: (ولا يعتد برمي حلال) ، لكن يبدأ الولي برمي في نفسه، أي يبدأ في رمي الجمار بنفسه عملا بعموم قول النبي –صلى الله عليه وسلم-:«حج عن نفسك، ثم حج عن شبرمة».[سنن أبي داود(1811)، ]

قال: (ولا يعتد برمي حلال) أي: لا يعتد في صحة النيابة أن ينوب حلال أي غير حاج عن الحاج في الرمي، بل لا بد أن يكون النائب ممن حج ذلك العام.

قال: (ويُطَافُ به لعَجزٍ، رَاكِبًا أَو محمُولًا) ، يطاف بالصغير سواء كان مميزا أو كان غير مميز، راكبا أو محمولا إذا عجز عن الطواف.

قال: (ويصحان) أي الحج والعمرة (من العبد نفلا) أي تطوعا (لعدم المانع).

قال: (ويلزمانه بنذره) أي ويوجبان عليه بنذره.

  

لكن قال: (ولا يحرم به ولا زوجة إلا بإذن سيد وزوج) أي: لا يحرم لا بنفل ولا بحج أو عمرة منذورين إلا بإذن سيده؛ لأنه مستحق المنافع.

قال: (وزوج) هذا في حق الزوجة، ودليل وجوب إذن الزوج للزوجة في الحج ما دل عليه هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-من أن المرأة لا تخرج من بيت زوجها إلا بإذنه، ولذلك قال –صلى الله عليه وسلم-: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله»[صحيح البخاري(900)، ومسلم(442)]، فدل ذلك على أن الرجل له أن يمنع زوجته من الخروج، وإذا كانت امرأة لا يصلح أن تصوم وزوجها شاهد إلا بإذنه مع حضورها وعدم مفارقتها له، فالحج والخروج له انقطاع للمنافع أكبر من الصوم، فكان الاستئذان فيه من باب أولى.

وقوله: (فإن عقداه) أي الإحرام إذا لبى العبد أو المرأة (فإن عقداه) أي العبد أو المرأة، (فلهما) أي للزوج والسيد (تحليلهما) ؛ لأن الإتمام في هذه الصورة غير واجب.

قال: (ولا يمنعها من حج فرض كملت شروطه)، أي ليس له حق منعها من حج فرض كملت شروطه.

ثم قال: (ولِكلٍّ مِن أَبَوَي حُرٍّ بالِغٍ مَنعُه مِن إحرامٍ بنَفلٍ) ، كنفل جهاد، (ولا يُحلِّلانِه إن أَحرَمَ) ، هذا ذكره استطردًا، وهو أن لكل من أبوي حر بالغ منعه من إحرام بنفل، في حج أو عمرة كنفل الجهاد، يعني كما هو الشأن في نفل الجهاد وهو الجهاد غير المتعين، فإذا وقع منه إحرام، فإنهما لا يحللانه، فإن وقع من الحر البالغ إحرام دون إذن أبويه، فإنه ليس لهما تحليله.

ثم ذكر المؤلف –رحمه الله-ما يتعلق بشرط القدرة مفصلا فيه، قال: (والقادر المراد فيما سبق) إلى آخره. نقف على هذا، نقف على شرط القدرة، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق