قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن تيمية –رحمه الله-:
وكذلك قال عمر: فِيْمَ الرملُ الآن والإبداءُ عن المناكب؟ وقد أَطَّأَ الله الإسلامَ ونفَى الشركَ وأهلَه، ثم قال: لا نَدَعُ شيئًا كُنَّا نفعلُه على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -إلاّ فعلناه.
وذلك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أمر أصحابَه في عمرة القضيةِ بالاضطباع وبالرمل ليُرِيَ المشركين قوتَهم، ولهذا لم يأمرهم بالرمل بين الركنين اليمانيين، لأن المشركين كانوا بقُعَيْقِعَانَ جَبَلِ المروةِ ينظرون إليهم. ثمَّ إنه لما حَجِّ اضطَبَعَ ورَمَلَ من الحجر الأسود إلى الحجرِ الأسود، فجعلَ ذلك شرْعًا لأمتِه. فبيَّن عمرُ أنه لو لم يُشْرَع ذلك لما فَعَلْناه، لزوالِ السببِ الذي أوجبَه إذْ ذاك.
هذا بيان لما تقدم من أنه يجب التزام هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-حتى فيما لا تدركه العقول، أو فيما زال سببه، إذا كان النبي –صلى الله عليه وسلم-قد فعله، فإن خير الهدي هدي محمد –صلى الله عليه وسلم-والتعظيم الواجب هو التعظيم الذي كان عليه –صلى الله عليه وسلم-.
ولن يأتي أحد بتعظيم أعظم وأكمل من هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-، فهو الذي قال: «فأَنا واللَّهِأعلمُ باللَّهِ وأتقاكم لَهُ»صحيح ابن خزيمة(2926) ألم يقل ذلك النبي –صلى الله عليه وسلم-؟ بلى قال كما في الصحيح، فكل أحد سلك طريقًا يزعم أنه يعظم به ما أمر الله بتعظيمه، خلاف ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-فقد اتهم النبي –صلى الله عليه وسلم-بالنقص في التبليغ، أو بأنه لم يكمل حق الله تعالى في العبودية في تعظيم ما أمر بتعظيمه.
ولذلك الأمر خطير، ولهذا قال الإمام مالك –رحمه الله-: إمام دار الهجرة لمن أحرم من المدينة قال: وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم.
قال هذا في رجل أحرم من المدينة، فقيل له: وأي فتنة في هذا؟ قال: أن ترى أنك على هدي أكمل مما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-، فإن النبي ما أحرم من المدينة، إنما أحرم من ذي الحليفة، وهذا من دقة فقه الإمام مالك، وعظيم عنايته بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-وإتباع سنته.
والإمام مالك له منهج في الإتباع متميز وظاهر جدا لمن تأمل أقواله وآرائه –رحمه الله-، ثم بعد هذا ينتقل المؤلف –رحمه الله-لمواصلة الحديث عن التعظيم، وما يجب لمكة من الاحترام والتقدير.
يقول: ومعلوم.
ومعلوم أن مكَّةَ -شرَّفَها الله-فيها شَعَائرُ الله، وفيها بيتُه الذي أوجبَ الحجَّ إليه، وأمرَ الناسَ باستقباله في صلاتهم، وحَرَّم صَيْدَه ونباتَه، وأثبتَ له من الفضائل والخصائص ما لم يثبتْه لشيء من البقاع.
وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -لمكة: "والله إنكِ لخيرُ أرضِ الله وأحبُّ أرضَ الله إلى الله -وفي رواية: وأحبُّ أرضِ الله إليَّ-، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ لما خَرَجتُ".أخرجه النسائي في السنن الكبرى(4254)، وأحمد (18717)، والترمذي(3925)قال الترمذي: حديث صحيح.
فإذا كان الله لم يَشرع أن يتمسَّح إلا بالركنين اليمانيينِ لكونهما على قواعدِ إبراهيم، ويُقبَّل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله في الأرض، فلا يُقبَّل سائرُ جُدرانِ الكعبة، ولا يُقَبَّل مقامُ إبراهيم الذي هناك ولا يتمسَّح به، ولا يُقبَّل مقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -الذي كان يُصلي فيه ولا يُتَمسَّح به، ولا يُقبَّل قَبرُ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -ولا يتمسَّح به فمعلوم أن قُبورَ سائرِ الأنبيِاء والصالحين التي ببقية البلاد مثلَ ما بالشامِ وغيرها من الأمكنة التي يُقال: إنها مقام إبراهيم أو المسيح أو غيرهما، كمقامِ إبراهيم ببَرْزَةَ، وكمغَارةِ الدّم، والرَّبوة التي يُقال: إنه كان بها المسيحُ وأمُّه، وكطورِ موسى وغارِ حِرَاءَ وغيرِهما من الجبالِ والمغاراتِ، وكسائر قبور الصالحين من الصحابة والقرابة وغيرهما، وكصَخْرةِ بيتِ المقدس وغيرهاأولَى بأنلا يُقبَّلَ شيء من ذلك ولا يُستَلَم ولا يُطافَ به، فلا يكون شيء من ذلك بمنزلةِ الركنين اليمانيين ولا بمنزلة الحجر الأسود.
ولهذا قال عمر:والله إني لأعلَمُ أنك حجرٌ لا تضرُّ ولا تَنفعُ، ولولا أني رأيت رسولَ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُقبِّلُك لما قَبَّلتك. يدلُّ على أنه ليس من الأحجارِ ما يُقبَّل، إذ كان رسولُ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-لم يشرع تقبيلَ شيء من ذلك.
هذا المقطع من كلام المؤلف من قوله: ومعلوم إلى آخر ما قرأ أخونا هو تلخيص لوجه الدلالة من الأدلة السابقة، ذكر ثلاثة أدلة، ذكر حديث ابن عباس قصة ابن عباس مع معاوية، وذكر قول عمر رضي الله عنه في الحجر، وذكر قول عمر رضي الله عنه في الرمل حول البيت.
ثم عاد وقال: في بيان الاستدلال، وهو حتى لا نتشتت أن التعظيم يجب فيه التزام هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: مكة شرفها الله، خصها بخصائص كثيرة هي أفضل البقاع، ومع ذلك لا يجوز في تعظيمها الزيادة على ماذا؟
على ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-إذا كان كذلك، فما هو شأن بقية الأماكن التي تعظم؟ هل يطلب فيها الدليل أو لا يطلب لها دليل؟
الجواب: لا بد أن يطلب لها دليل، لأن مكة معظمة في الجملة، فإن الله تعالى شرفها وجعلها لها من الخصائص والميزات، ما ليس لغيرها من البقاع، فإذا كان هذا المكان المعظم لا يجوز أن يحدث فيه صورة من صور التعظيم لم يكن عليها عمل النبي –صلى الله عليه وسلم-.
فما بالك وما هو رأيك في مكان لم يرد فيه دليل أنه معظم؟ كيف يتعامل مع من عظم هذا المكان أو أثبت له فضيلة أو صورة من صور التعظيم، أنه يطالب بالدليل على هذه الصورة التي ادعاها، وإذا كان النهي عن الصور التي يعظم بها البيت، ولم ترد عن النبي –صلى الله عليه وسلم-ليس في هذا النهي تنقص كما دل عليه قول ابن عباس، فالنهي عن تعظيم أي بقعة ليس فيها فضل، ولم يرد فيها تعظيم، هو من باب أولى، وليس في ذلك تنقص بهذه الأماكن أو استخفاف بها.
ولذلك يقول الشيخ –رحمه الله-بعد أن قدم المقدمة المتعلقة بمكة وشرفها.
قال: فإذا كان الله لن يشرع أن يتمسح إلا بالركنيين اليمانيين، لكونهما على قواعد إبراهيم، ويقبل الحجر الأسود لكونه بمنزلة يمين الله تعالى في الأرض كما جاء به الحديث، وإن كان ضعيفًا، فلا يقبل سائر جدران الكعبة، ولا يقبل مقام إبراهيم.
قال: ولا يقبل مقام النبي –صلى الله عليه وسلم-الذي كان يصلي فيه، لأن مقام النبي لم يرد فيه التعظيم الوارد في مكة، وكذلك ولا يقبل قبر النبي، ولا قبور الأنبياء، وما ذكره –رحمه الله-في بقية البحث من أنه لا يقبل شيء إذا كان قد نهي عن تقبيل المعظم الذي ثبت تعظيمه بالكتاب والسنة، فما لم يثبت تعظيمه بالكتاب والسنة النهي عن إحداث صور في التعظيم هو من باب أولى.
بعد هذا انتقل لذكر شبهة ما أشار إليها السائل، لكن هي من الشبه التي يستدل بها بعض الناس على تعظيم ما لم يرد الشرع بتعظيمه.
الآن معالجة شبهة يحتج بها بعض من يعظم ما لم يرد الشرع بتعظيمه فيقول:
والحديث الذي يرويه بعضُ الكذابينلو أحسنَ أحدُكم ظَنَّه بحجرٍ لَنفَعَه الله بهكَذِب مُفترى باتفاقِ أهلِ العلم، وإنما هذا من قولِ عُبَّادِ الأصنام الذين يُحسِنون ظنَّهم بالحجارةِ، وقال تعالى لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ)(الأنبياء:98)، وقال تعالى: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(البقرة: 24)، وقال الخليل: (يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شيئًا)(مريم:42) وقال تعالى عن عُبَّاد العِجْل: (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا)(الأعراف:148)وذكر تعالى عن الخليل أنه قال لقومه: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَقَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍقَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَقَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَوَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَقَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَقَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَقَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُقَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَقَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شيئًا وَلَا يَضُرُّكُمْأُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)(الأنبياء: 52-67) وفي الموضع الآخر: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ((الصافات:95-96)فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنَّهم بالحجارة، فكان عاقبتُهم أنهم في النار خالدون.
الآن الشيخ –رحمه الله-ذكر الشبه ما هي الشبه؟
الشبه استنادهم إلى حديث فيه لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفع الله به، وإحسان الظن ماذا يقتضي؟
يقتضي تعظيم هذا الشيء، ووضعه في منزلة من الاعتقاد، والرغبة والرهبة ما يحصل به نفع ويندفع به مضرة، هذا معنى قوله: لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به.
يقول الشيخ –رحمه الله-: والحديث الذي يرويه بعض الكذابين، ثم حكم عليه حكمًا واضحًا جليًا فقال: كذبك مفترى باتفاق أهل العلم لا خلاف بين أهل العلم أن هذا الحديث لا يصح عن النبي –صلى الله عليه وسلم-وأنه موضوع، وقد ذكر الحافظ بن حجر –رحمه الله-أنه لا أصل له، يعني ليس له إسناد يعرف به، فهو حديث موضوع لا أصل له.
ثم المؤلف –رحمه الله-بين أن هذه المقالة مقالة عباد الأصنام، ولذلك قال: وإنما هذا من قول عباد الأصنام.
إذًا أول ما تكلم عنه المؤلف، تكلم عن الإسناد، فبين وهي الإسناد وضعفه، ثم تكلم على المتن المنقول، وأنه كذب مخالف لصريح القرآن، وأن هذا الذي تضمنه إنما هو قول أهل الشرك والكفر.
ولذلك قال: إنما كان من قول عباد الأصنام الذين يحسنون ظنهم بالحجارة هذا نقد للسند أو المتن يا إخوان؟
ناقد للمتن وليس للسند، السند كذب مفترى، الآن نقد للمتن كيف نقد المتن؟
بين أن هذه المقالة مقالة عباد الأصنام، هل أحسنوا ظنهم بأصنامهم؟
الجواب: نعم أحسنوا بها الظن، ولذلك عبدوها وتقربوا إليها، وفعلوا ما فعلوا من الشرك وأنواع العبادة المصروفة إليها ما هو معروف ماذا كان مآلهم؟
جاءت الرسل لبيان ضلالهم، والتحذير من فعله، ثم إن حسن الظن نفعهم أو لم ينفعهم؟
لم ينفعهم والدليل قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾[الأنبياء: 98] حصب معناه وقود، الحصب هو الوقود الذي توقد به النار، ﴿حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ﴾[الأنبياء: 98]، الله تعالى يقول: ﴿فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ﴾[البقرة: 24] هنا منها ما كان ما يعبد من دون الله، فكل ما عبد من دون الله إلى النار صائر.
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾[مريم: 42] في قول إبراهيم عليه السلام لأبيه، ألم يروا أنه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا.
إذًا هل نفع هؤلاء حسن ظنهم بهذه الأصنام وهذه الأحجار؟
الجواب: لا إنما كان في غاية الضرر، ولذلك ذكر المؤلف الأدلة على ذلك قال: فهؤلاء المشركون كانوا قد أحسنوا ظنهم بالحجارة، فكان عاقبتهم أنهم في النار خالدون، ثم بين ما الذي يجب أن يحسن الظن بهم؟ هو الله تعالى فقال وهذا على وجه الاستطراد قال –رحمه الله-.
وإنما يُحسِن العبدُ ظنَّه بربِّه، كماثبتَ في الصحيحين عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: يقولُ الله: أنا عندَ ظنِّ عبدِي بي، وأنا معَه إذا دعاني، فإن ذكرَني في نفسِه ذكرتُه في نفسِي، وإن ذكرَني في مَلأٍ ذكرتُه في مَلأٍ خير منه"صحيح البخاري(7405)، ومسلم(2675)وفي صحيح مسلمعن جابر عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: "لا يَموتَن أحدُكم إلاّ وهو حَسَنُ الظنِّ بالله".صحيح مسلم(2877)
إذًا هذا المقطع من كلام المؤلف –رحمه الله-إنما ذكره على وجه الاستطراد، في بيان من الذي يحسن الظن به ليس بالحجارة، إنما الذي يجب أن يحسن الظن به رب العالمين –سبحانه وبحمده-أنا عند ظن عبدي بي، فهذا مقطع على وجه الاستطراد، وليس مقصودًا بالأصل.
ثم عاد إلى تقرير ما تقدم بعد أن تشعب –رحمه الله-في الحديث قال –رحمه الله-.
وبالجملة فهذا أصل متفقٌ عليه بين أئمةِ الدين أنَّ العبادات مَبْنَاها على توقيفِ الرسولِ وطاعةِ أمرِه والاقتداءِ به، فلا يكون شيءٌ عبادة إلاّ أن يَشرعَه الرسولُ، فيكون واجبًا أو مستحبًّا، وما ليسَ بواجب ولا مستحبٍّ فليسَ بعبادةٍ باتفاقِ المسلمين. ومن اعتقدَ مثلَ ذلك عبادةً كان جاهلاً، وإن ظَنَّ أنّ ذلك تعظيمٌ لمن يَجِبُ تعظيمُه، فإن التعظيم المشروع لا يكون إلاّ واجبًا أو مستحبًّا.
لأنه عبادة يقول –رحمه الله-: وبالجملة فهذا أصل أي: قاعدة وأمر يبنى عليه غيره متفق عليه بين أئمة الدين، أن العبادات مبناها على توقيف الرسول، وطاعة أمره، والاقتضاء به، فلا يكون شيئًا عبادته إلا أن يشرعه الرسول، ما أتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم-كما في الصحيح من حديث أبي هريرة «ما نهَيْتُكم عنه فاجتنِبوهُ، وما أمَرْتُكم به، فافعَلوا منه ما استطَعْتم»صحيح البخاري(7288)، ومسلم(1337) وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ». أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718)
يقول: فيكون واجبا أو مستحبا يعني ما أتى به النبي –صلى الله عليه وسلم-لا يخلو من أمرين؛ إما واجب، وإما مستحب، وما ليس بواجب ولا مستحب، فليس بعبادة باتفاق المسلمين، لأن العبادة لا تخلو إما أن تكون واجبة أو مستحبة، فما لم يؤمر به وجوبا ولا استحبابا فهذا ليس بعبادة.
قال: ومن اعتقد مثل ذلك عبادة اعتقد التعظيم لما لم يأمر به النبي –صلى الله عليه وسلم-أنه عبادة وقربى كان جاهلًا، وإن ظن أن ذلك تعظيمًا لما يجب تعظيمه، فإن التعظيم المشروع لا يكون إلا واجبا أو مستحبا، وهذه الصور التي ذكرها من تقبيل مقام النبي –صلى الله عليه وسلم-من تقبيل قبره، تقبيل قبور الصالحين، ما لم يشرع تقبيله، كل هذا تعظيم لم يرد به الشرع، ليس واجب ولا مستحب، فهو من المحدثات داخل في قوله –صلى الله عليه وسلم-: «مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ». أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718)
قال: ومَن نُهِيَ عن اتخاذ الأحبارِ والرُّهبانِ أربابًا من دونِ الله والمسيح ابن مريم، وعن اتخاذ الملائكةِ والنبيين أربَابًا، وعن الغُلُوِّ في الأنبياء والصالحين، فزَعمَ أنَّ هذا تنقُّصٌ واستخفافٌ بالأنبياء والصالحين والملائكة، فهو من جنس النصارى وأشباهِهم من المشركين وأهلِ البدع.
كل هذا ما زال الشيخ يقرر أن هذه القاعدة، وهذا القول الذي يستدل به من يروج عبادة غير الله تعالى، بأن عدم فعل كذا، أو عدم إقامة كذا، أو عدم الإتيان بكذا، هو تنقص واستخفاف، أن هذه القاعدة ليست بصحيحة، ولا يمكن أن تسلم، ولا يمكن أن يهابها المؤمن، بل يجب أن ينقضها ببيان الأدلة القوية على أن مرجع التعظيم، وصور التعظيم يجب فيها التزام هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-.
من زعم أن هناك صورة في تعظيم ما أمر الله بتعظيمه، خلاف ما عليه النبي –صلى الله عليه وسلم-فالحقيقة أن قوله هو التنقص في للشريعة، وهو الاستخفاف بالشعائر، وليس قول من قال: يجب التزام هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-فإن التزام هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-لا يمكن أن يكون فيه تنقص، لأنه أكمل الناس طريقا وأعظمهم هديا، وأكبرهم تحقيقًا للعبودية ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة: 3]، فمن نهي مثلا عن هذه الحجة يمكن أن يحتج بها النصارى على جواز ما هم فيه من غلو في عيسى بن مريم والأحبار والرهبان، لأنهم يقولون: إذا لم توافقون على ما نقوم به من تعظيم هؤلاء، فأنتم تنقصتم عباد الله تعالى، ونزلتم بأولياء الله عما يجب لهم.
يقول المؤلف: ومن نهي عن اتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دون الله، والمسيح بن مريم وعن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا وعن الغلو في الأنبياء والصالحين، فزعم أن هذا تنقص واستخفاف بالنبي والأنبياء والصالحين والملائكة.
يقول: فهو من جنس النصارى وأشباههم من المشركين وأهل البدع، الذين لا يختلف أهل الإسلام في ضلال طريقتهم وخطأ سبيلهم.
نقف على هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد