الحمد لله رب العالمين، نحمده جل في علاه، وأثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته بإحسان ليوم الدين.
أما بعد.
ففي مجلس أمس كنا قد انتهينا ممايتعلق بالمقدمة للجواب، وكانت مقدمة متضمنة لبسط وتفصيل فيما يتعلق بالتعظيم، والذي أوجب هذا البسط والتفصيل، هو أن التعظيم يحتاج إلى تأصيل لبيان ما يشرع منه وما لا يشرع، إذ إن كثيرًا من الواقعين في الانحرافات وألوانها، والضلالات بصنوفها يتضرعون ويتعذرون بأن ما يقومون به إنما هو تعظيم لما أمر الله تعالى بتعظيمه.
ولذلك ذكر السائل –رحمه الله-في مسألته حجة من يرد أقوال أهل العلم استنادًا إلى أن هذه الأقوال تتضمن تنقصًا واستخفافًا، تنقص بالصالحين، واستخفافًا بشعائر الله تعالى، وهذا هو موضوع السؤال في الأصل، ففصل فيه الشيخ –رحمه الله-تفصيلًا بديعًا ابتدأه بنفي هذا الاحتجاج، ثم بين المعنى الحقيقي للتنقص والاستخفاف، ثم بين تعظيم الشعائر الواجب، ثم بين صورا من التعظيم توقع في الانحراف والضلالات.
ويمكن أن نجمل من خلال ما تقدم أن التعظيم يكون على ثلاثة صور:
الصورة الأولى: تعظيم مشروع.
الصورة الثانية: تعظيم منهي عنه.
الصورة الثالثة: تعظيم محدث وهو داخل في التعظيم المنهي عنه.
فيمكن أن نقول: تعظيم مشروع، وتعظيم غير مشروع.
التعظيم المشروع هو ما جاءت به السنة عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-كتقبيل الحجر الأسود واستلام الركن اليماني، وما أشبه ذلك من الصور التي جاءت في الكتاب والسنة.
تعظيم غير مشروع يتضمن نوعين؛ تعظيمًا منهي عنه هذا الأول والثاني تعظيمًا محدثًا، والفرق بينهما أن التعظيم المنهي عنه هو ما جاء النهي عنه بخصوصه.
وأما التعظيم المحدث فهو ما جاء النهي عنه على وجه الإجمال، كما في قوله –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: «مَن أَحْدَثَ في أَمْرِنَا هذا ما ليسَ فِيهِ، فَهو رَدٌّ» أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
والمؤلف –رحمه الله-استدل للأصول التي قررها في ابتداء هذه الرسالة من وجوب لزوم الشرع في التعظيم بعدة أدلة كنا قد أشرنا إليها، وعلقنا عليها في القراءة السابقة.
ثم ذكر المؤلف –رحمه الله-صورا من التعظيم المنهي عنه، أو صورا من التعظيم المحدث، يعني في الجملة من التعظيم غير المشروع، وكنا قد وقفنا على قوله –رحمه الله-: واتفق أيضًا أئمة المسلمين على أنه لا يشرع لأحد أن يدعو ميتًا ولا غائبًا، وذكر مسألة الدعاء توطئة للحديث عن مسألة الوسيلة، وتقرير ما يجب اعتقاده في هذه المسألة، فلما قرر أن أئمة المسلمين متفقون على أنه لا يشرع لأحد أن يدعو ميتًا ولا غائبًا، فلا يدعوه ولا يسأله حاجة ولا يقول: اغفر لي.
قال: بخلاف طلب الدعاء والشفاعة من الصالحين، وممن يؤمل منهم إجابة الدعاء.
قال –رحمه الله-: بخلافِ طلب الدعاءِ والشفاعةِ من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –والصالحين، كما كان أصحابُه يَطلبُون منه الدعاءَ ويَستشفعون به ويتوسَّلُون بدعائِه في حياته، كما ثبت في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب قال: "اللهمّ إنّا كنّا إذا أَجْدَبْنا نتوسَّلُ إليك [بنبيِّنا فتَسْقِينا، وإنّا نتوسَّلُ إليك] بعَمِّ نبيِّنَا فَاسْقِنا"، فيُسْقَون.صحيح البخاري(1010)
وقد ثبت في الصحيحين حديث أنس لما توسَّلُوا بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يَدعُوَ لهم، حينَ قال له الأعرابي: جُهِدتِ الأنفسُ وجاعَ العِيالُ وهَلكَ المالُ، فادعُ الله لنا، فدَعَا الله لهم، فأُمْطِروا سَبْتًا. ثم شَكَوا إليه بهَدْم الأبنية وانقطاع الطُرق، وسألوه أن يدعُوَ الله بِكَشْفِها عنهم، فدَعاه، فكَشَفَها عنهم. أخرجه البخاري (933)، ومسلم (897)
وكذلك يومَ القيامة يَتوسَّلُ به أهلُ الموقفِ ويستشفعون به، فيَشفعُ لهم إلى ربّه أن يَقْضِي بينهم. ثمَّ يشفعُ شفاعةً أخرى لأهلِ الكبائرِ من أمَّتِه، ويَشفَعُ في أن يُخرِجَ الله من النار مَن في قلبه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان، كما استفاضتْ بذلك الأحاديثُ الصحيحة.
ولما ماتَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-توسَّلُوا بدعاءِ العبَّاسِ عَمِّه، ولم يتوسَّلُوا به بعد موتِه، فإنهم إنما كانوا يتوسَّلُونَ بدعائه في حياتِه، وذلك ينقطع بموته، فتوسَّلُوا بدعاء العباس.
وكذلك معاويةُ بن أبي سفيان استشفَعَ في الشام وتوسَّلَ بيزيدَ بنِ الأسودِ الجُرَشي، وقال: "اللهمَّ إنّا نتوسَّلُ إليك بخيارنا، يا يزيدُ! ارفَعْ يديك"، فرفَعَ يَدَيْه فدعَا ودَعَا الناسُ، حتى نزلَ المطَرُ.
ولهذا قال الفقهاء: يُستحَبُّ الاستسقاءُ بأهلِ الصلاح والدين، والأولى أن يكونوا من أهلِ بيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، اقتداءً بعمرَ لما استسقَى بالعبّاس رضي الله عنه، ولو كان توسُّلُهم في حياتِه هو إقسامًا به على الله وتوسُّلاً بذاتِه من غيرِ أن يدعُوَ لهم، لأمكنَ ذلك بعدَ مماتِه، ولكانَ توسُّلهم به أولَى من توسُّلِهم بالعباس، ولكن إنما كانوا يتوسَّلون بدعائه، كما ثبتَ ذلك في الصحاح أنهم توسَّلُوا في الاستسقاء بدعائه. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال: ربّما ذكرتُ قولَ الشاعر:
هذا المقطع من كلام المؤلف –رحمه الله-بين فيه أن طلب الدعاء والشفاعة من النبي –صلى الله عليه وسلم-والصالحين ليس فيه محذور شرعي، وأنه لم ينهي عنه.
قال –رحمه الله-: في الاستدلال على مشروعية طلب الدعاء من النبي والصالحين، كما كان أصحابه يطلبون منه الدعاء، ويستشفعون به أي: يطلبون شفاعته، ويتوسلون بدعائه، أي: يجعلون دعائه لهم وسيلة لتحقيق مطالبهم وإدراك ما يؤملون.
قال: ويتوسلون بدعائه أي: بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-في حياته، ليس بدعائه هو، إنما بأن يدعو –صلى الله عليه وسلم-لهم، وليس بأنهم يتوجهون إليه بالدعاء والطلب.
قالوا: كما ثبت وذكر في ذلك عن النبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-ثلاثة أحاديث،
الحديث الأول حديث عمر أنه قال: «اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذا أجْدَبنا نتوَسَّلُ إليكَ بنبيِّنا فتَسْقينا، وإنَّا نتوَسَّلُ إليك بعَمِّ نبيِّنا فاسْقِنا»صحيح البخاري(1010) والتوسل هنا بالنبي –صلى الله عليه وسلم-هو ما كانوا يفعلونه من طلب السقيا، من طلب النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يدعو الله تعالى لهم أن يغيثهم وأن ينزل عليهم المطر، ولذلك ذكر الحديث الآخر المبين لصفة الاستسقاء الذي ذكره عمر رضي الله عنه في قوله: «نتوَسَّلُ إليكَ بنبيِّنا» ما هي صفة هذا التوسل؟
جاء في الصحيحين من حديث أنس لما توسلوا بالنبي –صلى الله عليه وسلم-واستشفعوا به، فطلبوا منه أن يدعو لهم حين قال له الأعرابي: «جَهِدَتِ الأَنْفسُ، وهلكَ المالُ، وجاعَ العِيَالُ» فادع الله لنا. أخرجه البخاري (933)، ومسلم (897)
إذًا هذا هو التوسل الذي كانت تعرفه الصحابة، وهو الذي أراده عمر بقوله: «اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذا أجْدَبنا نتوَسَّلُ إليكَ بنبيِّنا» فالتوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم-هو طلب الدعاء منه، أن يدعو لهم بقضاء حاجتهم من إنزال الغيث، وحصول البركة.
قال: وكذلك يوم القيامة يتوسل به أهل الموقف، أي: يطلبون شفاعته، وأهل الموقف يأتون إلى الأنبياء كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد وغيره، أنهم يأتون إليهم إلى آدم يسألونه أن يدعو الله تعالى لهم لفصل القضاء، ثم يذهبون إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم إلى موسى، ثم إلى عيسى، كلهم يعتذر، ثم يأتون النبي –صلى الله عليه وسلم-فيقول: أنا لها، أنا لها ماذا يصنع؟
هل يقضي حاجتهم بنفسه؟
الجواب: لا، إنما يذهب يقول: فأسجد تحت العرش، فيفتح علي من المحامد ما لا أعرفه الآن ثم يقال له: «ارْفَعْ رَأْسَكَ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وقل تسمع» أخرجه البخاري (3340)، ومسلم (194) هكذا النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يبين كيف تكون شفاعته وكيف يتوسل به أهل الموقف، فهذا لا بأس به في الدنيا والآخرة، والشأن في الدنيا لأنه هو مناط أحكام التكاليف.
وأما في الآخرة فشأنها آخر، ولكن في بيان أن الناس يتوسلون، وأن هذا التوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم-في الآخرة ليست مما جاءت الشريعة بالنهي عنه.
قال: ولما مات –صلى الله عليه وسلم-توسلوا بدعاء العباس عمه، هذا استدلال بعمل الصحابة رضي الله عنهم، فبعد أن ذكر ما كان من التوسل بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-انتقل إلى ذكر أدلة التوسل بدعاء الصالحين، فذكر ما جرى في زمن الصحابة، وذكر في ذلك أثرين:
الأثر الأول لما مات –صلى الله عليه وسلم-توسلوا بدعاء العباس عمه، ولم يتوسلوا به بعد موته، فإنهم إنما كانوا يتوسلون بدعائه في حياته، وذلك ينقطع بموته، فتوسلوا بدعاء العباس كما قال عمر رضي الله عنه «اللَّهُمَّ إنَّا كُنَّا إذا أجْدَبنا نتوَسَّلُ إليكَ بنبيِّنا فتَسْقينا، وإنَّا نتوَسَّلُ إليك بعَمِّ نبيِّنا فاسْقِنا»صحيح البخاري(1010) وكذلك قصة معاوية في توسله بيزيد بن الأسود الجرشي، وهو من الفضلاء الصالحين العباد أهل الخير، لذلك قال: اللهم إنا نتوسل إليك بخيارنا يا يزيد ارفع يديك هكذا فعل معاوية رضي الله عنه في دعاء الاستسقاء، فرفع يديه فدعا ودعا الناس حتى نزل المطر.
ومن هذا أخذ العلماء ما ذكره المؤلف –رحمه الله-من استحباب الاستسقاء بأهل الصلاح والدين، والأولى يعني الذي يقدم في هذا الباب من جمع إلى الصلاح قربة وصلة بالنبي –صلى الله عليه وسلم-.
ولذلك يقول: والأولى أن يكون من أهل بيت رسول الله –صلى الله عليه وسلم-لمكانة النبي –صلى الله عليه وسلم-وعلو شرفهم عند رب العالمين.
قال بعد ذلك: ولم يقل أحد من المسلمين.
إذًا الآن المقطع هو في تقرير جواز طلب الدعاء والشفاعة من الأنبياء والصالحين في حياتهم، الآن ينتقل المؤلف –رحمه الله-إلى ذكر التوسل بهم.
ولم يقل أحد من المسلمين إنهم كانوا في حياتِه يُقسِمُون به ويتوسَّلون بذاتِه، بل حديثُ الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم، ألفاظُه صريحة في أن الأعمى إنما توسلَ بدعاءِ النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما قد بسطت ألفاظه في موضع آخر. وفي أول الحديث أن الأعمى سألَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أن يدعوَ الله أن يَرُدَّ إليه بَصَرَه، فهو طلبَ من النبي الدعاءَ، فأمرَه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أن يتوضأ ويُصلِّيَ ركعتينِ، ويقول: "اللهمّ إني أسألَك وأتوجَّهُ إليك بنبيِّك محمدٍ نبيِّ الرحمةِ، يا محمد يا رسولَ الله إني أتوسَّلُ بك إلى ربي في حاجتي لتَقضِيَها، اللهمّ فشَفِّعْهُ فيَّ" أخرجه ابن ماجه (1385)، وأحمد (17279)، والنسائي في السنن الكبرى(10495)، والترمذي(3578)، وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفيِ رواية ثانيةٍ رواها أحمد والبيهقى وغيرهما: "اللهمَّ شَفِّعْه فيَّ وشفِّعْنِي فيه".
فلما سألَ النبيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -أن يدعوَ أمرَه أن يدعوَ هو أيضًا. كما قال له ربيعةُ بن كعب الأسلمي: أسألُ مرافقتك في الجنة، فقال: "أعنِّي على نفسِك بكثرةِ السجود"صحيح مسلم(489). فإنّ شفاعةَ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وسؤالَه الإنسان قد يكون مشروطًا بشروطٍ، وقد يكون هناك مانعٌ، كاستغفارِه للمنافقين.
يقول –رحمه الله-: ولم يقل أحد من المسلمين أنهم قالوا أي الصحابة رضي الله عنهم في حياته يقسمون به، فيقولون: ومحمد، والنبي أو والرسول، لم يكن هذا في لسان الصحابة رضي الله عنهم، فلم يكونوا يقسمون به –صلى الله عليه وسلم-لا على أنفسهم، أي لا على ما يكون بينهم من أيمان، ولا على رب العالمين، فلا يقسمون بالنبي على الله فيقولون: أقسم بمحمد عليك أن تفعل كذا، أو بالنبي عليك أن تفعل كذا في خطابه ودعائه لله تعالى، فلم يكونوا يقسمون به –صلى الله عليه وسلم-ولا يتوسلون بذلك، أي لا يطلبون الوسيلة بذات النبي –صلى الله عليه وسلم-فيقولون: اللهم إنا نتوسل إليك بنبيك دون أن يطلبوا منه الدعاء، فالتوسل بالذات هو أن يطلب الأمر من الله تعالى، أو أن يكون في الدعاء ذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-على وجه طلب حصول المأمول، ودفع المكروه دون أن يكون من النبي –صلى الله عليه وسلم-دعاء، فإنه لم يكن هذا من عمله رضي الله عنهم.
يقول: بل حديث الأعمى الآن المؤلف –رحمه الله-يجيب على سؤال من أسئلة السائل، بعد أن فرغ من السؤال الأول والثاني والثالث.
قال: وهل صح حديث الأعمى الذي أورده الترمذي في جامعه، الآن يجيب الشيخ –رحمه الله-عن هذا، يذكر هذا الحديث، ويذكر ما يتعلق به مما يتصل بجواب السائل.
فيقول –رحمه الله-: بل حديث الأعمى الذي رواه أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي وغيرهم، ألفاظه صريحة في أن الأعمى إنما توسل بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-يعني لم يتوسل بذاته، ولا أقسم به على الله تعالى، إنما توسل بدعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-.
يقول: كما بسطت ألفاظه في موضع آخر، ثم يقول –رحمه الله-تعالى: وفي أول الحديث هذا بيان لما أصله وبينه من أن التوسل في حديث الأعمى ليس بذاته، ولا إقساما به، إنما هو توسل بدعائه.
يقول: وفي أول الحديث أن الأعمى سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يدعو الله أن يرد إليه بصره، فهو طلب من النبي –صلى الله عليه وسلم-الدعاء، ولم يطلب منه أن يقضي حاجته، لم يطلب منه أن يرد بصره، كما أنه لم يطلب من الله ابتداء أن يرد بصره بالنبي –صلى الله عليه وسلم-والتوسل بذاته.
قال: فأمره النبي –صلى الله عليه وسلم-أم «يتوضَّأُ ويصلِّي رَكعتينِ، ثُمَّ يدعو: اللَّهمَّ إنِّي أسألُك وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ محمَّدٍ نبيِ الرَّحمةِ»، فجعل السؤال إلى الله تعالى، وذكر في سؤاله ما يوجب الجواب وهو دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-.
ولذلك قال: «وأتوجَّهُ إليكَ بنبيِّكَ محمَّدٍ نبيِ الرَّحمةِ»، يا محمد يا رسول الله إني أتوسل بك إلى ربي في حاجتي لتقضيها، أي: ليقضيها الله تعالى.
قال: «اللَّهم فشفِّعْهُ فيَّ»أي: أقبل دعائه فيا، هذا معنى قوله: «اللَّهم فشفِّعْهُ فيَّ»، هذا من دعاء الأعمى الذي علمه النبي –صلى الله عليه وسلم-في إدراك حاجته وحصول مطلوبه، «اللَّهم فشفِّعْهُ فيَّ»، أي أقبل دعائه في، ولا يشكل عليك أنه قال: يا محمد يا رسول الله، فإن هذا ليس دعاء للنبي –صلى الله عليه وسلم-إنما هذا فيه نداء النبي، هذا ليس دعاء وتوسل في قضاء الحاجة، إنما هذا في ذكر الوسيلة التي يحصل من خلالها المقصود، وهو قد طلب من النبي –صلى الله عليه وسلم-الدعاء، فلا يشكل القول في هذا الدعاء يا محمد يا رسول الله، فإن هذا لا محذور فيه، إذ إنه في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم-وهو يطلب من الله تعالى أن يقبل فيه شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم-ودعائه.
يقول: وفي رواية ثانية رواها أحمد والبيهقي وغيرهما «اللَّهُمَّ شَفِّعْهُ فيَّ وشَفِّعْني فيه»، أي: وأجب دعائي في أن تجيب دعائه لي، هذا معنى قوله: وشفعني به أي: وأجب دعائي في أن تجيب دعائه فيَّ، فيكون هنا الدعاء من جهتين، من جهة النبي –صلى الله عليه وسلم-بحصول الحاجة، ومن جهة الرجل بأن يقبل الله تعالى شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم-وأن يقبل دعائه في أن يقبل رب العالمين شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم-وهذا معنى قوله: «وشَفِّعْني فيه»، أي: واقبل دعائي في أن تقبل دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-في حصول غايته ومطلوبه.
قال: فلما سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يدعو أمره أن يدعو هو أيضًا، هذا الأعمى لما سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يدعو أمره أي النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يدعو أيضًا، كما قال له ربيعة بن كعب الأسلمي، وهذا إشارة إلى أنه قد حصل ذلك من غير هذا الرجل في أمر أعظم من رد البصر، وهو الجنة، فإن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: «أسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ في الجَنَّةِ قالَ: فأعِنِّي علَى نَفْسِكَ بكَثْرَةِ السُّجُودِ»"صحيح مسلم(489)، لماذا ذكر السجود؟
لأنه موطن الدعاء «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجدٌ، فأكثروا الدعاءَ»صحيح مسلم(482)، «وأمَّا السُّجودُ فاجتَهِدوا في الدُّعاءِ فقَمِنٌ أن يُستجابَ لكم»صحيح مسلم(479)، وهذا يشير إلى أنه أكثر من الدعاء، فوجهه النبي –صلى الله عليه وسلم-إلى الدعاء قال: فإن شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم-وسؤاله الإنسان قد يكون مشروطا بشروط أي: حصول شفاعة النبي وإدراك ما سأله السائلون من الدعاء والحاجات مشروطا بشروط.
وقد يكون هناك مانع كاستغفار المنافقين، يعني خلاصة هذا وسيأتي بسطه الآن في المقطع القادم، أن دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-كسائر الدعاء في أنه لا بد فيه من توافر الشروط، شروط الإجابة، وانتفاء الموانع التي تمنع الإجابة، وإن كان دعاء النبي –صلى الله عليه وسلم-فيه من الميزة ما ليس في غيره، إذ إنه أقرب إلى الإجابة، وأحرى إلى حصول المقصود، لكن هذا لا يعني أنه مجاب في كل ما دعاه –صلى الله عليه وسلم-بل إنه –صلى الله عليه وسلم-دعا الله تعالى في أمور، ولم يجبه الله تعالى إليها.
فقد دعا على أحياء من العرب، ولم يجيبه الله تعالى فيهم، ودعا –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-لأمته بأمور ولم يجيبه الله تعالى فيها، ومن ذلك ما في الصحيح من حديث عامر بن سعد عن أبيه أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «سألتُ رَبِّي ثَلاثَ خِصالٍ: فأعطاني اثنَتَيْنِ، ومَنَعَني واحِدَةً» أخرجه الترمذي (2175)، والنسائي (1638)، وأحمد (21053)، قال النووي: إسناده صحيح. خلاصة الأحكام(1/594) فدل هذا على أنه لا يجاب النبي –صلى الله عليه وسلم-فيما يسأله الله –جل وعلا-ويدعو به، بل هذا في القرآن الكريم.
قال الله تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ﴾[التوبة: 80] والاستغفار دعاء، ومع ذلك لم يُجَب فيه، بل قال: لو استغفرت لهم سبعين مرة، وهذا دليل على كثرة الاستغفار وكثرة الدعاء، لن يغفر الله لهم، وذلك لوجود المانع من الإجابة، كما أنه سيذكر المؤلف –رحمه الله-شيء من هذا في المقطع القادم المقصود أن ما كان من الصحابة رضي الله عنهم، وما كان من الأعراب على وجه الخصوص هو أنه سأل النبي –صلى الله عليه وسلم-أن يدعو الله له، وهو شارك النبي في الدعاء حيث إنه سأل الله تعالى أن يقبل شفاعة النبي –صلى الله عليه وسلم-وأن يجيبه إلى مسئوله ومأموله.
نقف على هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.