قال شيخ الإسلام أبو العباس أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية –رحمه الله-:
وما نُقِلَ عن أحمد رضي الله عنه فإنه يُشبهُ ما نُقِلَ عنه من جوازِ الإقسامِ برسولِ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأنه يجب بذلك الَكفارةُ، فإن الإقسامَ به في اليمين كالإقسامِ به على الله، وكالتوسُّل بذاتِه.
وهذه الرواية عن أحمد لم يُوافِقْها أحدٌ من الأئمة، بل جمهورُ الأئمة على الرواية الأخرى عنه، وهو أنه لا يُشرَع الحلفُ بمخلوقٍ لا النبيِّ ولا غيرِه، ولا يجب بذلك كفارة. وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونَصَرُوها في الخلاف، كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل وغيرهم. ثمّ أكثر هؤلاء يقولون: هذا الحكمُ مختصٌّ به، لكون الإيمان به بخصوصه ركنًا في الإيمان، لا يتمُّ الإيمان إلاّ بالشهادتين. وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك في انعقاد اليمين بالحلف بهم.
ذكر الشيخ –رحمه الله-فيما يتعلق بالنقل عن الإمام أحمد في جواز التوسل بذات النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: وما نقل عن أحمد رضي الله عنه، فإنه يشبه يعني في المعنى والحكم، ما نقل عنه في جواز الإقسام برسول الله –صلى الله عليه وسلم-أي: جواز القسم به في الأيمان، والحلف به في الإقسام.
يقول: وأنه يجب بذلك كفارة، فإن الإقسام به في اليمين، كالإقسام به على الله تعالى، وكالتوسل بذاته، فسوى بين المسائل الثلاثة، فلا يعد هذا غريبًا، هذا مقصوده، أنه لا يعد هذا خروجًا عن الأصل الذي جاء نظيره في كلام الإمام أحمد، ولكن بين أن هذا الذي ذهب إليه الإمام أحمد –رحمه الله-هو مخالف لما عليه جماهير الأمة، وعلماء المسلمين حيث قالوا: وهذه الرواية عن أحمد لم يوافقها أحد من الأئمة، بل جمهور الأئمة على الرواية الأخرى في مسألة الإقسام به –صلى الله عليه وسلم-وهو أنه لا يشرع الحلف بمخلوق لا النبي ولا غيره، ولا يجب بذلك كفارة.
يعني لو حلف بالنبي أو بغيره من المحلوفات لا يجب بذلك كفارة لماذا لا يجب بذلك كفارة؟ لأنه لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى، لا تثبت إلا بالله تعالى.
قال: وتلك الرواية اختارها طائفة من أصحابه ونصروها في الخلاف، كالقاضي والشريف أبي جعفر وابن عقيل أي: اختاروا جواز الإقسام بالنبي –صلى الله عليه وسلم-، ثم أكثر هؤلاء يقولون هذا الحكم مختص به يعني بالنبي –صلى الله عليه وسلم-دون غيره من الخلق، ومنهم من طرد هذا في جميع الأنبياء، فأجاز الإقسام بموسى وعيسى وسائر النبيين.
قال: وذكر ابن عقيل أن حكم سائر الأنبياء كذلك أي: في جواز القسم وانعقاد اليمين.
وقال ابن مسعود وابن عباس: "لأن أحلفَ كاذبًا أحبُّ إليَّ[من] أن أحلفَ بغيرِه صادقًا". وذلك لأن الحلفَ بغير الله شركٌ، والشركُ أعظمُ إثمًا من الكذب. وهذا يوافقُ أظهرَ قولَي العلماء أن النهيَ عن الحلف بالمخلوقات نهيُ تحريم لا نهيُ تنزيهٍ، وهذا قول أكثرِ العلماء، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد.
الآن المؤلف في هذا المقطع أجاب على سؤالين، وهل في صريح لفظه ما يبطل الأقوال المذكورة ويوجب اعتقاد خلافها؟ هذا فيما تعلق بحديث الأعمى، وبيان دلالته على صحة الأقوال المتقدمة على الأئمة.
ثم قال: وهل يجوز الحلف بغير الله تعالى؟
هذا انتقال في هذا المقطع انتقل المؤلف –رحمه الله-من الحديث عن التوسل إلى الحديث عن الحلف، وبين أن جماهير الأمة وعلماء الإسلام على عدم جواز الحلف بغير الله تعالى، لا بالنبي ولا بسواه، ثم قرر ذلك وأجاب عما جاء عن الإمام أحمد –رحمه الله-بالترجيح والأدلة المتقدمة.
وإذا كان الحلفُ بغير الله من باب الشرك، فمعلومٌ أنه لا يجوز أن يُشرَكَ به ولا يُعْدَلَ به ولا يُسَوَّى به الأنبياءُ وغيرُهم، قال تعالى: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)(آل عمران:80)،وقال تعالى: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا)(الإسراء: 56، 57).
وقد أمرَ الله أن يقولَ: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ)(آل عمران: 64)الآية. ولما قال الأعرابي: ومَن يَعْصهما فقد غَوى، قال: "بئسَ الخطيبُ أنتَ، قُلْ: ومن يَعْصِ الله ورسولَه"صحيح مسلم(870).
مع أنه قد رُوِيَ عنه أنه قال: "ومَن يَعْصِهما"، وذلك لأن هذا إذا قاله من جَعَلَ طاعةَ الرسولِ تابعةً لطاعة الله ويجعله عبدًا للهِ ورسولاً، لم يُنكَر عليه الجمعُ بينهما في الضمير، بخلافِ من قد لا يَفهم ذلك، بل يجعل الرسولَ ندًّا، كقولِ القائل: ما شاء الله وشاء محمد.
وفي الصحيحين عنه أنه قال [في] مرض موته: "لعنَ الله اليهودَ والنصارى اتخذوا قبورَ أنبيائهم مساجدَ" يُحذر ما فَعَلُوا. قالت عائشة: ولولا ذلك لأبرز قبره، ولكن كره أن يتخذَ مسجدًا. أخرجه البخاري (4441)، ومسلم (529)
وفي الصحيح عنه أنه قال: "لا تُطْرُوني كما أَطْرتِ النصارى عيسى ابن مريم، فإنما أنا [عبدٌ] فقولوا: عبد الله ورسوله".صحيح البخاري(3445)
فهذه النصوص وغيرُها تُبيِّن أنه نهاهم عن الشركِ به والغُلوِّ فيه، وسَدَّ هذه الذريعةَ بنَهْيِهم أن يتخذوا قبرَه مسجدًا، وأن يقولوا ما شاء الله وشاء محمد، وأنه دُفِنَ في بيتِه ولم يُظْهَر قبرُه خوفَ الإشراك.
وإذا كان كذلك، والقسم بالمخلوقِ شرك بالمخلوق، والشرك لا يجوز به ولا بغيرِه، فلا يجوز القسمُ به، كما قال الجمهورُ، ولا تنعقدُ اليمينُ به، ولا يجبُ بذلك كفارة.
هذا المقطع من كلام المؤلف –رحمه الله-موضوعه واحد، الآن المؤلف قرر أنه لا يجوز الحلف بغير الله تعالى، وذكر أدلة ذلك، وخلاف العلماء في هذا أليس كذلك؟
قال: فمعلوم أنه لا يجوز أن يشرك به، ولا يعدل به، ولا يسوى به الأنبياء، وغيرهم لأن الشرك لا يخففه أنه شرك بصالح أو شرك بنبي أو شرك بصاحب جاه، فالشرك سواء كان بأعظم المخلوقات أو كان بحجر من الأحجار لا فرق بينهما في النهي عن هذا وذاك، فمن عبد وثنا كمن عبد ملكًا، ومن عبد حيوانًا كمن عبد نبيًا مرسلًا، فالجميع واحد في التحريم، لأن الشرك منهي عنه في جميع صوره.
ذكر هذا في صورة من صور الشرك المنهي عنه، وهو توجه بالعبادة إلى من لهم جاه، وعبادة لله تعالى حيث قال: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾[الإسراء: 57] ومع ذلك لا يجوز أن يجعلوا لله شركاء، ولا أن يصيروا له أندادًا –سبحانه وبحمده-.
ثم قال بعد ذلك قال: وقد قال رجل الآن المؤلف بعد أن قرر أن الشرك منهي عنه، ولو كان بأعظم المخلوقات، فالحلف بغير الله شرك، فلا فرق فيه بين أن يكون حلفا بنبي، أو حلفا بغيره.
وأيضًا قال وقد أمر الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ﴾[آل عمران: 64]، ولما قال الأعرابي: ومن يعصيهما فسوى بين الله تعالى وغيره في المعصية تنديدًا وتسوية قال: بئس الخطيب أنت، فدل ذلك على أن الشرك لا يصلح ولو كان بمن له جاه ومنزلة ومكانة عند الله تعالى.
قال: وأيضًا قال –صلى الله عليه وسلم-: لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا، وهذا في الوقوف له –صلى الله عليه وسلم-إجلالًا وتقديرًا، نهاهم عن ذلك، وعد ذلك من المنهي عنه في قوله: لا تعظموني كما تعظم الأعاجم بعضها بعضا، وهذا يدل على أنه لا يقبل في حقه ما يقبل في حق غيره أو ما يقع في حق غيره، فهو وغيره فيما يتعلق بالتعظيم سواء.
مناسبة هذا الاستطراد تقرير أن الحلف بغير الله تعالى إذا كان شركا، فلا فرق فيه بين الحلف بالنبي –صلى الله عليه وسلم-والحلف بغيره، فعلو جاه النبي –صلى الله عليه وسلم-لا يسوغ أن يستثنى، هذا مقصود المؤلف –رحمه الله-.
وقد تنازعَ العلماءُ في الصلاة عليه عند الذبيحةِ، فكرِهَ ذلك مالك وأحمد وغيرهما، لئلَاّ يُذكرَ على الذبيحة غيرُ الله، خوفًا من الإهلال بها لغيرِ الله من أن ذلك صلاة عليه. ورخَّصَ في ذلك الشافعي وأبو إسحاق ابن شاقلا من أصحاب أحمد، قالوا: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان، وهذا بخلافِ الإقسَامِ به، فإنَ الإقسامَ بسائرِ المخلوقات شرك به، والشرك به لا يجوز بحال.
وكلُّ ما كان من خصائص الربِّ: كالعبادة لله، والنذر لله، والصدقة لله، والتوكل على الله، والخوف من الله، والخشية لله، والرغبة إلى الله، والاستعانة به، وغير ذلك مما هو من خصائص الربِّ فإنه لا يجوز أن يُفعَل بمخلوق، لا الأنبياءِ ولا غيرِهم، ولا يُستثنَى من ذلك أحد.
وإذا كان الإقسامُ به منهيًّا عنه لا يَنعقِدُ به اليمينُ ولا يجبُ به الكفّارة، فالإقسام به على الله أولى أن يكون منهيًّا عنه، وكذلك الإقسامُ بسائرِ المخلوقات على الله.
المؤلف أيضًا استمر في مسألة اليمين قال: وقد تنازع العلماء في الصلاة عليه عند الذبيحة، فكره ذلك مالك، وأحمد، وغيرهما، يعني إذا جاء يذبح بسم الله اللهم صلي على محمد، كره مالك الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-وكذلك أحمد وغيرهما، الصلاة على النبي –صلى الله عليه وسلم-عند الذبح.
قال: لئلا يذكر على الذبيحة غير الله، فدل ذلك على أنه لا يشرك مع الله تعالى غيره حتى في الذكر، وإن كان الذكر مختلف، يعني بسم الله هو ذكر لاسم الله تعالى لتطيب الذبيحة، فذكر النبي –صلى الله عليه وسلم-هو دعاء الله تعالى أن يصلي عليه، لكن لما كان ذكرا في هذا الموضع، نهى عنه العلماء، خوفا من الإهلال بها لغير الله مع أن ذلك صلاة عليه، يعني وليس ذكرا له ولا إهلال باسمه عند الذبح.
فقوله: الصواب أنها مكروهة خوفا من الإهلال به لغير الله، مع أن ذلك صلاة عليه.
قال: ورخص في ذلك الشافعي وأبو إسحاق أي: رخص بالصلاة عليه قال: لأن الصلاة عليه من باب الإيمان.
يقول: وهذا بخلاف الإقسام به، فالإقسام به ليس إيمانًا به، إنما هو إقسام به فيما هو تسوية له بالله تعالى فيما لا يكون إلا له –جل وعلا-.
قال: فإن الإقسام بسائر المخلوقات شرك، والشرك به لا يجوز بحال سواء كان بنبي مرسل، أو بملك مقرب، أو بغير ذلك من المخلوقات.
ثم قرر هذا في قاعدة عامة أن كل ما كان من خصائص الله –جل وعلا-فلا يجوز أن يشرك معه فيها غيره، لا يجوز أن يشرك مع الله تعالى فيها غيره –جل وعلا-، لأنه المنفرد بها –سبحانه وبحمده-.
ثم قال: وإذا كان الإقسام به هذا استطراد، إذا كان الإقسام به منهي عنه لا ينعقد به اليمين في قول من؟
في قول جماهير العلماء، ولا يجب به الكفارة.
يقول: فالإقسام به على الله أولى أي: في المنع والنهي أن يكون منهيا عنه، وكذلك الإقسام بسائر المخلوقات على الله.
وكذلك التوسُّلُ بذوات الملائكة والأنبياء والصالحين أيضًا كذلك، فإن أعظم الوسائل للخلقِ إلى الله هو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأعظم وسائل الخلقِ إلى الله التوسّل بإيمانٍ به: بتصديقِه فيما أخبرَ، وطاعتِه فيما أوجبَ وأمرَ، وموالاةِ أوليائِه ومعاداةِ أعدائه، وتحليلِ ما حَلَّل، وتحريمِ ما حرَّم، وإرضائِه ومحبتِه، وتقديمِه في ذلك على الأهلِ والمال. فهذه الوسيلة التي أمرَنا الله بها في قوله: (اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ)(المائدة: 35). فالوسيلة ما يتوسَّلُ به، [و] هو ما يتوصَّل [به]، والتوسل والتوصل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقِه وطاعتِه، لا وسيلةَ للخلقِ إلى الله إلاّ هذه الوسيلة. ثمّ من آمن بالرسول إذا دَعا له الرسولُ وشفعَ فيه، كان دعاءُ الرسولِ وشفاعتُه مما يتَوسَّلُ به. فهذا هو التوسُّلُ بالرسول.
فأمّا إذا قُدِّر أن الرجلَ لم يُطِعْه، وهو لم يَدْعُ للإنسانِ، فنفسُ ذاتِ الرسول لا يَنفعُ الإنسانَ شيئًا، بل هو أعظمُ الخلقِ عند الله قَدْرًا وجاهًا، وذلك فضلُ الله عليه وإحسانُه إليه، وإنما يَنتفِعُ العِبادُ من ذلك بما يقومُ بهم من الإيمان به، أو ما يقومُ به من الدعاءِ لهم، فأما إذا قام بهم دعاؤُه والإقسامُ به فهذا لا يَنفعُهم.
هذا التوضيح يقول: وكذلك التوسل بذوات الملائكة والأنبياء والصالحين أيضًا، كذلك أي: مثل التوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم-في أنه لا يجوز، وأنه غير مشروع.
قال: فإن أعظم الوسائل للخلق إلى الله هو محمد، ومع ذلك لا يجوز، فغيره من باب أولى.
قال: وأعظم وسائل الخلق إلى الله التوسل بالإيمان به أي: بالإيمان بالنبي –صلى الله عليه وسلم-بتصديقه فيما أخبر، وطاعته فيما أوجب وأمر، وموالاة أوليائه ومعادة أعدائه إلى آخر ما ذكر.
قال: فهذه الوسيلة التي تقدمت التي أمرنا الله تعالى بها في قوله: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ﴾[المائدة: 35] هذا بيان للتوسل المشروع، بعد أن بين التوسل الممنوع، وقرر ذلك بالأدلة، والنقولات والشواهد، عاد إلى تقرير التوسل المشروع، وبين أن التوسل المشروع هو الإيمان به –صلى الله عليه وسلم-والتزام أمره، واتباع هديه، ومحبة ما أحبه، وبغض ما أبغض.
قال: فالوسيلة ما يتوسل به وهو ما يتوسل به، والتوصل إلى الله إنما هو بالإيمان بالرسول وتصديقه وطاعته.
يقول: لا وسيلة للخلق إلى الله إلا هذه الوسيلة، ثم من آمن بالرسول إذا دعا له الرسول وشفع فيه عند رب العالمين كان دعاء الرسول وشفاعته مما يتوسل به أي: مما يجعل وسيلة ووصيلة لحصول المطلوب، فهذا هو التوسل للرسول –صلى الله عليه وسلم-.
فأما إذا قدر أن الرجل لم يطعه، فلم يتحقق فيه الإيمان بالنبي –صلى الله عليه وسلم-أو أنه آمن به، ولكنه لم يتبع هديه –صلى الله عليه وسلم-ويلتزم منهجه.
قال: وهو لم يدعو للإنسان، أيضًا لم يدعو النبي –صلى الله عليه وسلم-لهذا الشخص، فنفس ذات الرسول لا تنفع الإنسان شيئا، الذات النبوية لا تنفع الإنسان شيئًا، إذا لم يهتدي بهدي النبي –صلى الله عليه وسلم-ولم يلتزم بسنته، ولم يدعو له النبي –صلى الله عليه وسلم-.
يقول: بل هو أعظم الخلق عند الله قدرًا وجاهًا، لكن هذا يختصه –صلى الله عليه وسلم-ويختصنا نحن إذا أمنا بذلك، فانتفعنا به.
ولذلك قال: وذلك فضل الله عليه وإحسانه لمن؟
إليه أي: إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، وإنما ينتفع العباد من ذلك أي: من هذا المتعلق الجاه والفضل، بما يقوم به من الإيمان به، أي الإيمان بالنبي –صلى الله عليه وسلم-وعظيم جاهه عند رب العالمين أو ما يقوم به من الدعاء لهم، ما يقوم بالنبي –صلى الله عليه وسلم-من الدعاء لهم، فأما إذا قام بهم دعائه، والإقسام به، فهذا لا ينفعهم.
إذًا النافع من الجاه هو الإيمان به لعظيم جاهه، وأن يدعو النبي –صلى الله عليه وسلم-للإنسان، فإذا لم يتحقق واحد من هذين، فإنه لا ينفع الإنسان أن يقول: اللهم إني أتوسل إليك بالنبي.
والدعاء من أفضل العبادات، ولم يَنقُل أحدٌ عنه أنه شَرَع لأمتِه الإقسامَ بأحدٍ من الأنبياء والصالحين على الله، فمن جَعَلَ ذلك مشروعًا -واجبًا أو مستحبًّا-فقد قَفَا ما لا عِلْمَ له به، وقال قولاً بلا حجةٍ، وشرع دينًا لم يأذَنْ به الله.
وإذا لم يكن ذلك واجبًا ولا مستحبًّا كان من فَعَلَه معتقدًا أنه واجبٌ أو مستحب مُخطِئًا في ذلك، وإذا كان مجتهدًا [أو] مقلِّدًا فله حُكْمُ أمثالِه من المجتهدين والمقلدين يُعفَى عنِ خَطَئِه. فأما إذا أنكرَ على غيره بلا علم، ورَدَّ الأقوالَ بلا حجةٍ، وذمَّ غيرَه ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئًا، فإن المجتهدَ المخطئَ غَفَر الله له خَطأَه، فكيف إذا كان المنازعُ له المصيبَ وهو المخطئُ؟!
هذا المقطع من كلام المؤلف –رحمه الله-هو جواب على سؤاله قال: والراد لهذه الأقوال، يعني أقوال الأئمة الطاعن عليها، المتقدم ذكرها والطاعن فيها إذا لم يكن عنده دليل شرعي قاطع، يدفع به هل يرضى عن ذلك ويزجر؟
هذا المقطع هو جواب لهذا السؤال.
يقول الشيخ –رحمه الله-: بعد أن قرر أن الدعاء أفضل العبادات، وأنه لابد من التزام هدي النبي –صلى الله عليه وسلم-وهذا صلة ما تقدم.
قال: وإذا لم يكن ذلك واجبا ولا مستحبا يعني ما تقدم من التوسل بالنبي –صلى الله عليه وسلم-كان من فعله معتقد أنه واجب أو مستحب مخطئ في ذلك، والخطأ هنا يقول: ما حكم هذا الخطأ؟
قال: وإذا كان مجتهدا أو مقلدا، فله حكم أمثاله من المجتهدين، والمقلدين يعفى عن خطأه، والله تعالى كريم قال: فأما إذا أنكر على غيره بلا علم، يعني أنكر على غيره من العلماء الذين ينهون عن هذا بلا علم يعني بدون حجة، ورد الأقوال بلا حجة، وذم غيره ممن هو مجتهد أو مقلد، فهو مستحق للتعزير والزجر، لأنه إذا كان مجتهدًا، فإن اجتهاده لا يلزم به غيره، وإذا كان مقلدًا، فالمقلد لا يجوز أن ينكر على غيره، وهذا ليس في هذه المسألة، في هذه المسألة وفي غيرها، لا يخرج الإنسان إما أن يكون مجتهدًا فيما يسوغ فيه الاجتهاد، وإذا كان كذلك فإن اجتهاده لا يلزم به غيره.
إذا لم يكن مجتهدا فهو مقلد، والمقلد لا يجوز له أن يلزم غيره بتقليد من قلده، بل وظيفته العمل والقبول لقول من قلد دون أن يلزم وأن ينكر على غيره في مسائل الاجتهاد.
ولذلك قال: فهو مستحق للتعزير والزجر، وإن كان المنازع له مخطئ، فإن المجتهد والمخطئ غفر الله له خطأه، فكيف إذا كان المنازع له المصيب، وهو المخطئ يعني المنكر هو المخطئ، الأمر يستوجب تعزيرا وردعًا أعظم في هذا المقام.
ولكنّ شأنَ أهل البدع أنهم يبتدعون بدعةً، ويُوالونَ عليها ويُعادُون، ويَذُمُّون بل يُفسِّقون بل يُكفرون من خالفهم، كما يَفعلُ الخوارجُ والرافضةُ والجهميةُ وأمثالُهم. وأما أهل العلم والسنة فيتبعون الحقَّ الذي جاءَ به الكتابُ والسنة، ويَعذُرونَ مَن خالفَهم إذا كان مجتهدًا مخطئًا أو مقلدًا له، فإنَّ الله سبحانَه وتعالى تجاوَز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، وقد قال في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا)(البقرة:286). وقد ثبتَ في الصحيح أن الله استجابَ هذا الدعاء، وقال: قد فَعلتُ.
والكلامُ على هذه المسائل قد بُسِطَ في مواضعَ غيرِ هذا، وصنّفت فيه مصنفات، وللعلماء في ذلك وما يتعلقُ به من الكلام ما لا يَتَّسِعُ له هذا الموضع.
والله أعلم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلَّم تسليمًا.
ختم المؤلف –رحمه الله-الجواب على السؤال السابع بذكر ملاحظة تتعلق بأهل البدع فقال: ولكن شأن أهل البدع سواء كانت البدع اعتقادية، أو عملية، أنهم يبتدعون بدعة، ويوالون عليها، ويعادون ويذمون، بل يفسقون، بل يكفرون من خالفهم، فهم يجمعون بين سوءتين، الإحداث في الدين، والمعاداة لعباد الله المتقين.
قال: كما يفعل الخوارج هذه نماذج، والرافضة والجهمية وأمثالهم.
قال: وأما أهل العلم والسنة، فيتبعون الحق الذي جاء به الكتاب والسنة، هذا حالهم.
قال: ويعذرون من خالفهم إذا كان مجتهدًا مخطئا أو مقلدًا، ولذلك يجمعون صفتين،
الصفة الأولى: تعظيم الحق.
الصفة الثانية: الرحمة للخلق.
هذا منهج أهل السنة والجماعة، يجمع هاتين الصفتين العظمتين، اللتين بهما تكتمل الرحمة، التعظيم للحق، والثانية الرحمة للخلق.
ولذلك يقول: ويعذرون من خالفهم إذا كان مجتهدا مخطئا، أو مقلدا له، فإن الله –سبحانه وتعالى-تجاوز لهذه الأمة عن الخطأ والنسيان، هذا بيان دليل هذا المسلك، وقد قال في دعاء النبي ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، وقد ثبت في الصحيح أن الله استجاب هذا الدعاء وقال: قد فعلت.
وبهذا يكون فرغ المؤلف –رحمه الله-من جواب السؤال الأخير، وهو السؤال السابع.
ثم قال: والكلام على هذه المسائل، قد بسط في مواضع غير هذا، وصنفت فيه مصنفات، والعلماء في ذلك وما يتعلق به من الكلام ما لا يتسع له هذا الموضع، لاقتضابه بكونه جواب سؤال.
قال: والله أعلم فختم هذا برد العلم إلى عالمه وهو الله –جل وعلا-.
قال: والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليمًا.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يغفر للشيخ شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-وأن يعلي درجته، وأن يجزيه عن الإسلام خيرًا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن يفتح لنا أبواب العلم، وأن يرزقنا فيه حسن الإدراك، وأن يتبع ذلك بحسن العمل.
وبهذا يكون قد انتهينا من قراءة هذه القاعدة، نسأل الله تعالى أن يجعل ذلك في الموازين يوم نلقاه على وجه نرضى به عن ربنا –جل وعلا-ويرضى به عنا.