المنظومة البيقونية

من 0202-05-25 وحتى 2036-08-25
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 173

التاريخ : 2024-08-29 08:00:03


قال الناظم عمر بن محمد بن فتوح البيقوني رحمه الله تعالىٰ:

بسم الله الرحمن الرحيم

أَبْدَأُ بالحمْــدِ مُصَلِّياً عَلى *** محمدٍ خَيْــرِ نَبيٍّ أُرْسِلا

وَذِي مِن أقْسامِ الحدِيثِ عِدَّهْ *** وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وَحَدَّهْ

أَوَّلُها الصَّحِيحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ*** إسْنادُه ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ

يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ *** مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ

 بسم الله الرحمـٰن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلىٰ يوم الدين.

أما بعد:

فهذا أول الدروس المتعلِّقة بشرح البيقونية.

والبيقونية متن مختصر من متون العلم المتعلقة بمصطلح الحديث.

وإنما وقع الاختيار على هذا المتن دون غيره لكونه متناً مختصراً ميسراً حوى أصول علم مصطلح الحديث التي لا غُنية لكل طالب علم عن الإحاطة بها ومعرفتها، فهي تمثل الحد الأدنى الذي ينبغي لطالب العلم أن يحيط به وأن يُحصِّله فيما يتعلق بهذا العلم.

وهي مشهورة بهذا الاسم (البيقونية) نسبة لصاحبها الذي نظمها وهو طه بن محمد البيقوني.

 واختلف في اسمه، فقيل: عمر بن محمد البيقوني، وعلى كل حال لم يكن هناك ما يرجع إليه في تحرير أي الاسمين هو لصاحب هـٰذه المنظومة.

هـٰذه المنظومة كما ذكرنا هي في مصطلح الحديث، ومصطلح الحديث علم يتناول دراسة الحديث من حيث الراوي والمروي؛ فهو من العلوم التي ينظر فيها إلىٰ حال الرواة وحال ما نقلوه ورووه، وله من القوانين والقواعد ما هو معروف في كتب أهل العلم، وقد أُلِّفَ وصنف في ذلك شيء كثير، فإن علم مصطلح الحديث من العلوم المخدومة التي كثر مصنفوها والمتكلمون في أنواعها.

والمراد أن نفهم أن علم الحديث الذي يتكلّم عنه العلماء ينقسم إلىٰ قسمين: علم دراية، وعلم رواية.

علم الرّواية: هو العلم المتعلق بنقل الحديث وضبطه وتحرير ألفاظه.

أما علم الدِّراية: فهو معرفة أحوال الراوي والمروي، الراوي الناقل، والمروي هو النص المنقول، وسواء كان ذلك النص لفظاً أو حكايةً عن عمل أو تقريراً، أو ما إلى ذلك مما ينقله الرواة.

إذاً من هـٰذا نعلم أن علم الحديث هو علم يتضمّن قواعد يُعرف بها أحوال السند والمتن من حيث صحتها وحسنها وضعفها، ومن حيث علو السند ونزوله، وكيفية التحمل والأداء، وصفات رجال الإسناد.

هـٰذا العلم بحر لا ساحل له، فإنه من العلوم التي توسّع فيها العلماء كثيراً.

ومما يندرج في علم الحديث، العلم بالقواعد التي تُرجَّح فيها الروايات، وتطبّق في القبول والرد.

وأول من صنف في هـٰذا العلم الرامهرمزي أبو محمد الحسن بن عبد الرحمـٰن الذي عاش إلىٰ قريب سنة 360هـ، في كتابه المحدث الفاصل؛ لكنه لم يستوعب. انظر نزهة النظر لابن حجر ص(38). -رحمه الله- في أوسط القرن الرابع، ثم تلاه من تلاه من العلماء كالحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن البيِّع صاحب المستدرك وغيره، المتوفى سنة 405هـ، لكنه لم يهذب ولم يرتب. والأصبهاني أبو نعيم أحمد بن عبد الله الصوفي صاحب حلية الأولياء وغيره، المتوفى سنة 430هـ  وغيرهما.

 ثم أتى أبو بكر الخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت صاحب تاريخ بغداد وغيره، المتوفى سنة 463هـ. رحمه الله وفتح في هـٰذا العلم فتحاً مبيناً حيث كتب فيه ما لم يكتبه غيره صنف في قوانين الرواية كتاباً سماه (الكفاية)، وفي آدابها كتاباً سماه (الجامع لآداب الشيخ والسامع). فكل من جاء بعده فهو مستفيد منه، منطلق مما أسسه رحمه الله. قال الحافظ أبو بكر بن نقطة: كل من أنصف علم أن المحدثين بعد الخطيب عيال على كتبه.

وبعد ذلك انتشرت المؤلفات والمصنفات في هـٰذا العلم.

  

يقول رحمه الله افتتاحاً: (بسم الله الرحمـٰن الرحيم) فافتتح هـٰذه الرسالة بالبسملة، وهـٰذه سنة في كتاب الله عز وجل وفي كتب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اقتدى بها العلماء وتأسى بها المصنفون والمتكلمون.

فالبداءة بالبسملة سنة ماضية في كتاب الله عز وجل وفي سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ودرج عليها وأخذها أهل العلم في مؤلفاتهم ومصنفاتهم.

والبسملة الكلام فيها مشهور مكرور، خلاصته أن البسملة جملة تامة: إما اسمية وإما فعلية، والاختلاف بين القولين يرجع إلىٰ أي شيء؟ إلىٰ الاختلاف في التقدير:

فمن قدّر المضمر بالفعل جعلها جملة فعلية.

ومن قدّر المضمر بالاسم جعلها جملة اسمية.

والأمر في هذا قريب كما تقدم؛ ولكن يبقى أن يقال: إن المقدَّر يلاحظ فيه أن يكون مناسباً، فإنه لا يسوغ أن يجعل المتعلق -متعلق البسملة- في كل الموارد لفظاً واحداً، إنما يُجعل في كل مورد ترد فيه هـٰذه الكلمة حسب ما يناسب، فإن كانت في القراءة فيقدر ما يتعلق بالقراءة، وإن كانت في الكتابة يقدر ما يتعلق بالكتابة وهلم جرّاً.

ويناسب أن يكون هـٰذا المقدر مؤخراً، والسر في التأخير:

·       التيمن بالبداءة بذكر الله عز وجل، هـٰذا أولاً.

·       وثانياً الحصر؛ فإن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر.

والباء في قوله: (بسم الله) من العلماء من قال: إنها للمصاحبة.

ومنهم من قال: إنها للاستعانة. وهو الذي يظهر أنها للاستعانة التي تصاحب الإنسان في كل الفعل.

فقراءته: (بسم الله) مصاحبة واستعانة.

وأما ما في البسملة من الأسماء فهو معروف مشهور: فيها من أسماء الله عز وجل (الله الرحمـٰن الرحيم) والكلام على هـٰذه الأسماء مشهور معروف.

بعد ذلك بدأ المؤلف رحمه الله بقوله: (أَبْدَأُ بالحمْدِ مُصَلِّياً) فابتدأ بعد البسملة بالحمد.

والحمد: هو الإخبار بمحاسن المحمود على وجه المحبة والتعظيم.

وقد فسره جماعة من العلماء بأنه الثناء على الجميل الاختياري. قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن حسن في فتح المجيد ص(13): (الحمد لله) معناه الثناء بالكلام على الجميل الاختياري، على وجه التعظيم. وهـٰذا تعريف فيه قصور؛ لأن قصر الحمد على الجميل الاختياري لا ينبئ عن ما تضمنه الحمد من عظيم المحبة للمحمود وعظيم التعظيم له أو وكبير التعظيم له، فإن حمد الله جل وعلا يتضمن هذين المعنيين: يتضمن الإخبار بمحاسن الله عز وجل على وجه المحبة له، والتعظيم له سبحانه وبحمده.

وقد جاءت في البسملة والحمدلة أحاديث عديدة في ذم البداءة بغير حمد الله وبغير البسملة؛ لكن لا يصح منها شيء على وجه الانفراد، إلا أن المجموع يدل على أن البداءة مطلوبة.

ويكفي في هـٰذا السنة الماضية الجارية من هدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حيث كان يبتدئ كتبه ورسائله بالبسملة، ويبتدئ خطبه بالحمدلة.

  

(أَبْدَأُ بالحمْدِ مُصَلِّياً)، (مُصَلِّياً) حال، وهي جملة خبرية يُقصد بها الإنشاء، فإن قوله: (مُصَلِّياً) هـٰذا خبر وليس إنشاء؛ لكن من الجمل الخبرية ما يفيد الإنشاء.

فالمقصود أنني أبتدئ حامداً الله عز وجل مصلياً على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ أي قائلاً: اللهم صل على محمد. طالباً الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اختلف العلماء في معناها:

فمنهم من قال: إنها الرحمة.

ومنهم من قال: إن معنى الصلاة الثناء على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الملأ الأعلى.

ومنهم من قال: إنه طلب خير عظيم للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون تحديد؛ أي دون تحديد نوع هـٰذا الخير.

وهـٰذا المعنى الأخير معنى جيد؛ لأنه ليس هناك ما يدل على أن الصلاة هي الثناء على النبي في الملأ الأعلى تحديداً، سوى ما نقل البخاري عن أبي العالية رحمه الله في "صحيحه" صحيح البخاري: كتاب التفسير، باب قوله تعالىٰ: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًاالأحزاب:56، قال أبو العالية: صلاة الله ثناؤه عليه عند الملائكة وصلاة الملائكة الدعاء.  ومثل هـٰذا يحتاج إلىٰ توقيف، وأبو العالية ليس من الصحابة حتى نقول: إن قوله رحمه الله في حكم المرفوع.

قوله: (خَيْرِ نَبيٍّ أُرْسِلا) أي أخير نبي أرسل، فخير بمعنى أخير، فهي اسم تفضيل، حُذف منه الهمز، وهـٰذا شائع سائغ في لسان العرب أن تحذف همزة أفعل في مثل خير وشر، فإذا قلت: (هـٰذا خير) أي هـٰذا أخير من كذا، وإذا قلت: (هذا شر)، كان معناه: هـٰذا أشر من كذا. فهي من أفعل التفضيل الذي حذفت فيه الهمزة تخفيفاً لكثرة الاستعمال.

مثل الناس فإن أصلها أناس حذفت الهمزة تخفيفاً، فحذف الهمز تخفيفاً دارج.

ومثل الله أصلها الإلـٰه حذفت الهمزة تخفيفاً. انظر بدائع الفوائد تحت فائدة: هل اسم الله مشتق، (1/26)، وانظر تيسير العزيز الحميد ص15.

(خَيْرِ نَبيٍّ أُرْسِلا) فلا شك أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خير الأنبياء، ففي الصحيح قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر)) سنن ابن ماجه: كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، حديث رقم (4308). قال الشيخ الألباني: صحيح. وأوله في صحيح مسلم: كتاب الفضائل، باب فضل نسب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حديث رقم (2278).. وولد آدم فيهم الرسل والأنبياء، فإذا كان سيد ولد آدم جميعاً فهو خيرهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ سَلَّمَ، وهـٰذا وصف لا إشكال فيه، دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة وأجمع عليه أهل العلم.

لكن الذي يقع فيه الإشكال وصفه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه خير الخلق، فإن من الناس من يتوقف في مثل هـٰذا ويقول: هـٰذا وصف لم يرد، وإذا كان كذلك فالواجب أن لا نزيد في وصف النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أكثر مما أخبر به الله عز وجل أو أخبر به رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ.

ولكن الصحيح أن هـٰذا الوصف سائغ وجائز ودلت الأدلة عليه، أما الأدلة فحديث عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الصحيح أنه دخل على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد اتكأ على حصير حتى أثّر في جنبه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هـٰذا أنت يا رسول الله؟ أنت صفوة الله من خلقه. مسلم: كتاب الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، حديث رقم (1479). واللفظ (صفوته). والصفوة هو الخيرة وهو المصطفى المختار، (من خلقه) أي من جميع خلقه، خلق مضاف ومضاف إليه فيفيد العموم؛ مفرد مضاف يفيد العموم، وقد جرى أهل العلم على إطلاق هـٰذا الوصف في حق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، فلا وجه للتوقف في وصفه بذلك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

ثم من حيث الدّلالة اللازمة، إذا كان أفضل الخلق هم بنو آدم وهو سيد ولد آدم فيكون صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل الخلق.

ثم بعد هـٰذا الافتتاح بالثناء والحمد شرع المؤلف رحمه الله في المقصود من هـٰذه المنظومة فقال:

وَذِي مِنَ أقْسامِ الحدِيثِ عِدَّهْ ***وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وَحَدَّهْ

(وَذِي) الواو هنا للاستئناف، استأنف بها مقصوده، وقوله: (ذِي) اسم إشارة بمعنى هـٰذه، والإشارة هنا لموجود في الذهن؛ لأن المؤلف لما كتب هـٰذا البيت لم يكن قد ذكر الأقسام بعد، فإنه سابق لذكر الأقسام، فالمشار إليه في الذهن، وهـٰذا أمر درج عليه العرب أن يشيروا إلىٰ ما قد هيؤوه في نفوسهم وزوّروه في خواطرهم أن يتكلموا به أو أن يكتبوه أو أن ينشئوه، ولا حرج في هـٰذا.

  

قوله: (وَذِي مِنَ أقْسامِ الحدِيثِ عِدَّهْ) بين المؤلف رحمه الله أن ما سيأتي في هـٰذه الرسالة هو بيان لأقسام الحديث، والحديث: هو ما أضيف إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله سَلَّمَ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.

مثال القول: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: ((بني الإسلام على خمس)) في حديث ابن عمر في الصحيحين. البخاري: كتاب الإيمان، باب قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((بني الإسلام على خمس))، حديث رقم (8).

مثال الفعل: ما في الصحيح من قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) البخاري: كتاب الأذان، باب الأذان للمسافر، حديث رقم (631). هـٰذا قول أو فعل؟ هـٰذا قول حقيقته قول؛ لأنه أمر صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن يتأسى الناس به في صلاته، ونظيره أيضاً قوله: ((خذوا عني مناسككم)). مسلم: كتاب الحج، باب استحباب رمي جمرة العقبة يوم النحر راكباً وبيان قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لتأخذوا عني مناسككم))، حديث رقم (1297). لكن في هذا أن فعله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ محل للتأسي.

وأما الفعل كما في الصحيحين من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أتى زمزم في حجه في طواف الإفاضة وشرب من الماء قائماً. البخاري: كتاب الحج، باب ما جاء في زمزم، حديث رقم (1637). فهـٰذا حكاية فعل.

وكذلك ما أخبرت به عائشة في الصحيحين من أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كان إذا أوى إلى فراشه جمع يديه ونفث فيهما ثلاثاً، وقرأ الإخلاص والمعوذتين ثم مسح بهما رأسه وما استطاع من جسده، وكان يفعل ذلك كل ليلة. البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب فضل المعوذات، حديث رقم (5017). ولم أجده في مسلم. هـٰذا فعل، والأمثلة لهذا كثيرة جدّاً، إنما مقصودنا التمثيل الذي يحصل به فهم المعنى.

التقرير، مثاله: ما أخبرت به عائشة في الصحيحين البخاري:  كتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل، حديث رقم (5190). من أنها قالت رَضِيَ اللهُ عَنْها: لقد رأيتني ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسترني ينظر وأنا أنظر إلى الحبشة يلعبون في المسجد.

فهـٰذا تقرير، وجه التقرير: أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقر عائشة في نظرها إلىٰ من يلعب من الرجال.

الثاني: أنه أقر الحبشة في لعبهم في المسجد في يوم العيد، فهـٰذا تقرير منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والتقرير: هو أن يُفعل بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعل أو يصدر قول ولا ينكره.

فإذا صدر قول أو وقع فعل بين يدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم ينكره دل ذلك على أي شيء؟ على أنه أقره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ.

أو صفة، المقصود بالصفة هنا صفة فعل أو صفة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ المقصود صفاته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

أما الأفعال فقد تقدمت في قولنا في تعريف الحديث: ما أضيف إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول أو فعل؛ لكن المقصود بالصفة هنا صفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ، سواء أكانت الصفة العامة كصفات بدنه وهيئته، أو الصفات الخاصة في أحوال معينة، كالحديث الذي في الصحيح أخرجه البخاري (6929)، ومسلم (1792) أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدث أصحابه عن نبي ضربه قومه فأدموه، وجعل صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكي فعل النبي المضروب؛ أي يصور هيئة النبي المضروب. فهـٰذا ذكر صفة خاصة.

كذلك صفته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في شربه وفي قيامه وقعوده، هـٰذه صفات خاصة تندرج في قول العلماء في تعريف الحديث: (أو صفة).

لكن إذا كانت هـٰذه فعلاً فإنها تندرج في الفعل.

وعلى كل حال المقصود بالصفات أولاً الصفات البدنية والصفات الخَلقية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والصفات الخاصة التي قد تكون في ظروف خاصة أو في قصص خاص من سيرته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

إذاً عرفنا الحديث، الحديث هو ما أضيف إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قول أو فعل أو تقرير أو صفة.

لماذا ذكر العلماء رحمهم الله القول قبل غيره؟ لأن الأصل في الاحتجاج بالقول؛ ولأن أقوى ما يكون في الدّلالة القول، بخلاف الفعل والتقرير والصفة، فإن القول ما يرد عليه من احتمال أقل من غيره؛ ولذلك قُدِّم القول على غيره.

قال رحمه الله: (وَذِي مِن اقْسامِ الحدِيثِ عِدَّهْ) فهمنا من هـٰذا أن أقسام الحديث متعددة.

واعلم أن العلماء رحمهم الله في تقسيم الحديث سلكوا مسالك شتى:

فمنهم من يجمل في التقسيم ويقول: الحديث من حيث الأصل ينقسم إلى قسمين: إلىٰ حديث صحيح، وحديث ضعيف. وهـٰذا أخصر ما يكون من الأقسام. قاله ابن كثير في الباعث الحثيث في النوع الأول.

ومنهم من يقسم الحديث تقسيماً ثلاثيّاً، فيقول: الحديث صحيح، وضعيف، وحسن.

ومنهم من يقسمه تقسيماً أكثر من هـٰذا فيبلغ به عدداً كبيراً من الأقسام.

والحقيقة أن الأقسام لا تعدو اثنين أو ثلاثة، وما عداها من أقسام الحديث فهي أنواع وليست أقساماً؛ أي أنواع تندرج، فالضعيف أنواع، والحسن أنواع، والصحيح أنواع.

فبالنظر إلىٰ الأنواع يكون أقساماً عديدة.

وبالنظر إلىٰ الإجمال نجد أنه ينقسم إلىٰ قسمين أو إلىٰ ثلاثة أقسام.

فقول المؤلف رحمه الله: (وَذِي مِنَ اقْسامِ الحدِيثِ عِدَّهْ) فيه تجوّز؛ وجه التجوز أنه أراد بالأقسام هنا الأقسام الأصلية وما يندرج تحتها، فالأقسام الأصلية: صحيح وضعيف، أو صحيح وحسن وضعيف، وما يندرج تحتها من أقسام سيأتي ذكرها. فالضعيف له أنواع.. وهلم جرًّا.

واعلم أن الأصل في سائر أنواع الحديث وأقسامه أنه اختل فيها شرط من شروط الحديث الصحيح.

إذاً أصل الأقسام هو الحديث الصحيح، فكلما اختل وصف من أوصاف الحديث الصحيح، انفرد، فكان نوعاً من الأنواع، فجميع الأقسام تنبثق وتتفرع عن الحديث الصحيح.

ولذلك تجد أن غالب المؤلفين في علوم الحديث إنما يذكرون أولاً الحديث الصحيح، ويجعلونه كالقاعدة التي يُبنى عليها غيره، والأصل الذي يؤسَّس عليه غيره.

فسائر الأنواع إنما هي أنواع اختل فيها وصف من أوصاف الحديث الصحيح، ولذلك اعتنِ بفهم الحديث الصحيح ليتبين لك سائر الأنواع، ويتضح لك بقية الأصناف.

يقول رحمه الله:

وَذِي مِنَ أقْسامِ الحدِيثِ عِدَّهْ ***وَكُلُّ واحدٍ أَتَى وَحَدَّهْ

أي كل واحد يذكره المؤلف رحمه الله من أقسام الحديث في هـٰذه المنظومة فإنه يذكره ويذكر معه حدَّه، والحد هو التعريف، والبيان والتوضيح.

فالمؤلف رحمه الله يذكر الحديث ويذكر حدّه -أي تعريفه الذي يتبين به- وهو بهذا قد أحسن غاية الإحسان؛ لأنه بيّن القسم وبيّن لنا معنى هـٰذا القسم، فلم يذكره مجرّداً عن معناه.

ابتدأ المؤلف رحمه الله في ذكر أقسام الحديث بذكر أعلاها وأشرفها وأصلها وأسها والمقصود الذي من أجله يدرس هـٰذا الفن، المقصود الذي من أجله يدرس هـٰذا الفن هو أن نصل إلى الحديث الصحيح، الذي به نعرف ما ثبت عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من القول أو الفعل أو التقرير أو الصفة.

  

أَوَّلُها الصَّحِيحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ*** إسْنادُه ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ

يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ *** مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ

فقال رحمه الله: (أَوَّلُها) أي أول الأقسام التي وعد بها المؤلف رحمه الله الصحيح، وسمي صحيحاً لسلامته من الآفات التي يزول بها وصف الصحة، فهو خالص من الآفات والأمراض التي توهنه وتضعفه.

الصحيح قال فيه المؤلف رحمه الله في بيانه

..... وَهْوَ ما اتَّصَلْ*** إسْنادُه ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ

يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ *** مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ

فهذان البيتان حويا تعريف الصحيح، ويمكن أن يتلخص لنا من تعريف الصحيح أنه ما اتصف بخمسة أوصاف، أو ما توفرت فيه خمسة شروط.

واعلم أن هـٰذه الأوصاف وهـٰذه الشروط مجمع عليها بين أهل العلم، فلا خلاف بينهم في هـٰذه الشروط.

قبل أن نلج في كلام المؤلف رحمه الله لمعرفة ما ذكره من الشروط يتبادر سؤال: من أين أتى العلماء رحمهم الله بهذه الأقسام؟

معلوم أن الأئمة الكبار الذين ألفوا المؤلفات، وعنهم نقلت الأحاديث وميزوا الرجال، لم يتكلموا بهذا الكلام، لم يقسموا الحديث من حيث التصنيف إلى صحيح وضعيف وحسن ومنقطع ومرسل ومعضل وما سيأتينا من الأقسام.

أيضاً على أي شيء نعتمد في قولنا: إن العلماء أجمعوا على شروط الصحيح الخمسة، أو على أن الحسن ما قل فيه هذا الوصف من أوصاف الصحيح، أو أن الضعيف ما فات فيه شرط من شروط الصحيح؟ الجواب: أن هـٰذا من عمل الأئمة الذين نظروا في أقوال أهل العلم وأعمالهم وطريقة تعاملهم مع الأحاديث النبوية.

فمن خلال نظرهم فيما نقل عن الأئمة -في قبول الأحاديث وردها، وفي توهينها وتقويتها؛ سواء عملاً أو قولاً- عُلم من ذلك كله هـٰذا التصنيف.

ثم إن هـٰذا التصنيف اصطلاحي، معنى اصطلاحي: أي إنه اتفق عليه العلماء المتأخرون، وعليه فلا يسوغ في مثل هـٰذا أن نحكم على كلام المتقدمين من أهل العلم باصطلاح المتأخرين، فإن كثيراً من الخطأ الذي يقع فيه فئة من طلبة العلم -سواء فيما يتعلق بمصطلح الحديث أو بغيره من فنون العلم- أنهم يحكمون على كلام المتقدمين باصطلاحات المتأخرين، وهذا خطأ، فإنه يجب أن يُراعى اصطلاح المتقدم.

فعلى سبيل المثال: الإمام أحمد يطلق على بعض الأحاديث وصف الضعف، وإذا أجرينا اصطلاح المتأخرين في الضعيف على كلام الإمام أحمد اضطرب الميزان؛ لأن الإمام أحمد يقول: ضعيف ثم يعمل بالحديث أو يحتج به.

فهل هـٰذا يدل على أن الحديث الضعيف يحتج به في الأحكام والعقائد والفضائل وغيرها؟

الجواب: لا؛ لأن الإمام أحمد عنده اصطلاح في الحديث ليس عند غيره، فالحديث الضعيف عند أحمد يقابل الحسن في اصطلاح المتأخرين، فما وصفه بالضعف فهو حسن فيما اصطلح عليه متأخرو علماء هـٰذا الفن.

المقصود الذي نريد أن نصل إليه أن هـٰذه القواعد وهـٰذه الشروط وهـٰذه التقسيمات اصطلاحية؛ فينبغي لنا أن نعرف متى اصطلحوا عليها، وأن نفهم أنها قد تختلف من عالم لآخر، وهـٰذا هو الذي ينشأ عنه اختلاف العلماء في التصحيح والتضعيف.

سيأتي إن شاء الله تعالىٰ بقية الكلام في الدرس القادم.

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق