يقول رحمه الله في بيان الحديث الصحيح:
أَوَّلُها الصَّحِيحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ*** إسْنادُه ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ
يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ*** مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ
هـٰذا تعريف الحديث الصحيح ذكره المؤلف رحمه الله في بيتين.
فقال في تعريف الحديث الصحيح: (وَهْوَ ما اتَّصَلْ). الحديث الصحيح ما اتصل إسناده، فنحتاج إلى أن نعرف ما هو الإسناد، ونعرف ما هو الاتصال.
أما الإسناد فهو رجال الحديث، أو هو سلسلة الرواة الذين تصل من خلالهم إلىٰ نص الحديث الذي هو المتن.
إذاً الإسناد يُطلق ويراد به رجال الحديث، ويمكن أن يقال: الإسناد هو سلسلة الرواة الذين من خلالهم تصل إلىٰ المتن؛ أي من طريقهم تصل إلىٰ متن الحديث.
وأما قوله: (ما اتَّصَلْ) أي أن لا يكون في هـٰذه السلسلة انقطاع؛ بل تكون متصلة، فكل من يحدث ينقل عن من سمع منه، فيرويه كل واحد من الرواة عن شيخه إلىٰ أن يصل إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ. هـٰذا هو معنى قول المؤلف رحمه الله: (وَهْوَ ما اتَّصَلْ إسْنادُه).
إذاً أول شروط الحديث الصحيح اتصال الإسناد، فيخرج بهذا الشرط أنواع من الحديث ستأتينا كالمنقطع والمرسل والمعضل، وسيأتي بيان كل هـٰذه الأنواع فيما نستقبل إن شاء الله تعالىٰ.
ثم ذكر ثاني أوصاف الحديث الصحيح أو شروط الحديث الصحيح أو أركان الحديث الصحيح فقال: (ولمْ يَشُذَّ) أي ولم يكن فيه شذوذ، والشذوذ هو: أن يعتري المتن ما يخالف به الراوي من هو أوثق منه وأكبر، أو من هم أكثر منه عدداً، ويشترط في هـٰذا أن يكون الراوي لا تُحتمل منه هـٰذه المخالفة، وهـٰذا قيد مهم.
إذاً الشذوذ هو أن يخالف الراوي من هو أوثق منه أو من هم أكثر منه عدداً، وفي الحال الثانية يشترط أن يكون الراوي ممن لا تحتمل مخالفته؛ لأن من الرواة من إذا انفرد قُبل انفراده واحتمل، سواء كان هـٰذا الانفراد بأن انفرد برواية هـٰذا الحديث، أو بأن يكون الحديث قد استقل بزيادة أو بمعنى لم يأت به بقية الرواة، فكلا الأمرين مما قد يوصف بالشذوذ: فإذا استقل الراوي بما لم يروه من هم أوثق منه ولم يشتهر فإنه يرد. وقد احتملت الأمة رواية جماعة من الحفاظ الأئمة الذين عرفوا بالضبط والإتقان مع انفرادهم، من أمثال هؤلاء: الزهري، وسعيد بن المسيب، وسفيان بن عيينة... وغيرهم من الأئمة.
لكن من الرواة من لا مطعن في حفظه، لكن لا تُحتمل مخالفته ولا يحتمل انفراده، من أمثال هٰؤلاء: سفيان بن حسين، ومن أمثالهم أيضاً جعفر بن برقان، فهذان ممن لم يطعن في حفظهم؛ لكنه لا تحتمل مخالفتهم، فالأول سفيان بن حسين روى له البخاري في المتابعات، وجعفر بن برقان روى له مسلم في صحيحه، ومع ذلك لا تحتمل مخالفتهما، فهما يعدان من رجال الصحيح؛ لكن لا يحتمل انفرادهما عن غيرهما بالرواية.
إذاً يمكن أن نقول: الشاذ من الحديث هو ما خالف فيه الراوي من هو أوثق منه أو من هم أكثر منه عدداً، أو انفرد برواية الحديث وكان ممن لا يحتمل انفراده.
وهـٰذا الأخير قل من ينبه إليه ممن يتكلم في بيان الشاذ.
أما ثالث أوصاف الحديث الصحيح فأن يسلم من العلة، ولذلك قال: (ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ) أي أن لا تكون فيه علة تقدح فيه. والعلة حقيقتها سبب غامض خفي يوهن الحديث ويضعفه، ولا يعني هـٰذا أن العلة الظاهرة لا توهن الحديث؛ بل توهن الحديث، لكنها لا تدخل في العلة في اصطلاح المتأخرين من المحدثين.
إذاً العلة سبب خفي غامض يورث الحديث ضعفاً ويرفع عنه وصف الصحة. وسيأتي إن شاء الله تعالىٰ مزيد بيان للحديث الشاذ والحديث المعلل فيما نستقبل إن شاء الله تعالى من أقسام الحديث وأنواعه.
قال رحمه الله: (يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضابِطٌ) إذاً الوصف الرابع من أوصاف الحديث الصحيح أن يكون رواته عدولاً، فيشترط في الرواة العدالة.
والعدالة يقول أهل الاصطلاح في تعريفها: إنها ملكة تحمل الإنسان على التقوى واستعمال المروءة. هكذا يعرفونها: ملكة تحمل الإنسان على التقوى على ملازمة التقوى واستعمال المروءة.
ففهم من هـٰذا أن العدالة وصف يقوم بالراوي يحمله على التقوى، والتقوى لا تحصل للإنسان إلا بأن يسلم من الشرك، وأن يسلم من البدعة، وأن يسلم من الفسق.
وثاني ما تكمل به العدالة أن يكون مستعملاً للمروءة، والمروءة حقيقتها تدور على أن يكون الراوي متجنباً لما يعاب، متخلياً عن سيئ الخلق، فاستعمال المروءة أي أن لا يفعل ما يعاب وينكر عليه، أو أن لا يصدر عنه ما يعاب وينكر عليه من قول أو عمل، وقد نظم بعض العلماء شرط العدالة فقال:
والعدل من يجتنب الكبائرا ***ويتقي في الغالب الصغائرا
وهـٰذا في الحقيقة اقتصار على طرف مما يتعلق بالعدالة، وهو ما يتعلق بالتقوى؛ لأن اجتناب الكبائر وعدم الوقوع في الصغائر هما تقوى الله جل وعلا التي ذكرها العلماء في تعريف العدالة.
المراد أن العدالة شرط من شروط صحة الحديث، فيشترط في الراوي أن يكون عدلاً، وتنخرم عدالة الرواة بواحد من أمور خمسة:
الأمر الأول: الكذب، فمن كان كذاباً فإنه ليس بعدل، ولا تقبل روايته ولا كرامة.
الثاني من خوارم العدالة: التهمة بالكذب، أي أن يتهم بالكذب ولو لم يكن كذاباً، فإذا اشتهر عند العلماء اتهامه بالكذب فإنه من مسقطات العدالة، ولو لم يكن كذاباً في واقع الأمر، فالتهمة كافية في إسقاط العدالة.
الثالث: الفسق، والفسق هو الوقوع في الكبائر، أو الإصرار على الصغائر. هـٰذا هو الفسق.
الرابع من الأوصاف التي تنخرم بها العدالة: الجهالة؛ بأن يكون مجهولاً: إما جهالة مطبقة كجهالة العيب، أو جهالة نسبية كمن لم يشتهر بالرواية. فهـٰذا وصف تنتفي به العدالة؛ لأن المجهول لا يمكن أن يوصف بأنه عدل.
الخامس من الأوصاف التي تنخرم بها العدالة: البدعة، على أن رواية المبتدع فيها خلاف بين العلماء، وقد يأتي بيان ذلك.
المراد أن هـٰذه الخمسة كلها مما يخرم العدالة، أضف إلىٰ ذلك من خوارم العدالة عدم استعمال المروءة، فإن من لم يستعمل المروءة فليس بعدل. يكون سادساً.
أما الوصف الأخير الذي ذكره المؤلف رحمه الله للحديث الصحيح فهو قوله: (ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ) فاشترط الضبط، والضبط حقيقته الإتقان، فتقول: ضبط فلان كذا أي أتقنه وأحاط به، ولذلك يسمي العلماء ما يجمع مسائل عديدة ويندرج تحته فروع كثيرة في الأبواب، يسمونه ضوابط؛ لأنه يجمع ويحيط بالمسائل المتفرقة.
فالضبط هو الإحاطة والإتقان، وهو نوعان:
ضبط صدر.
وضبط كتاب.
وأيهما وجد في الراوي كفى، يعني لا يلزم اجتماع هذين في الرواة؛ بل وجود أحدهما في الراوي يكفي في وصف حديثه بالصحة.
أما ضبط الصدر فهو حفظ القلب ووعيه لما يحفظ، ضبط الصدر: حفظ القلب ووعيه لما يحفظ.
ويعرفه بعض أهل العلم بأنه: تمكن الراوي من استحضار محفوظه –يعني ما حفظه- عند طلبه أو متى شاء.
أما ضبط الكتاب فهو: حفظه من أن يناله تعديل أو تغيير أو تبديل أو زيادة أو نقص، هـٰذا معنى ضبط الكتاب: حفظه من أن يناله زيادة أو نقص أو تبديل أو تغيير. وذلك أن من العلماء الرواة من كان يحرص على كتابة ما يسمع فاعتمدت كتبهم، وهـٰذا لا يعارض ضبط الصدر، فقد يكون ضابطاً في قلبه حافظاً لما يتلقى؛ لكن يوثق ذلك بالكتابة، كما كان حال الإمام أحمد رحمه الله؛ فإن الإمام أحمد -مع جلالة قدره وقوة حفظه- ما كان يُحدِّث من رأسه، إنما كان إذا حدّث حدث من كتاب، حتى إنه كان إذا خرج إلىٰ الناس في الإفتاء والتعليم كان يخرج معه بكتابين: كتاب الأيمان والأشربة، فلما قيل له في ذلك قال: أكثر ما يسأل الناس عن الأيمان والأشربة.
فضبط الكتاب لا ينافي ضبط الصدر، وإنما اشترط العلماء ضبط الكتاب لأنه وقع من بعض الرواة تفريط في حفظ كتبهم التي سجلوا فيها الأحاديث أو نقلوا فيها ما سمعوه من أشياخهم، فدخل عليهم الخلل من هـٰذا الطريق.
فتجد مثلاً أن قيس بن الربيع -وهو من الأئمة في الدين من حيث الديانة والاستقامة، وقد وثقه جماعة من المحدثين- إلا أنه يضعّف من قِبل أن ابنه أدخل عليه في كتابه، فكان يحدث من هـٰذا الكتاب الذي أدخل فيه ابنه أشياء ليست منه، فأدخل عليه في حديثه.
ولذلك قال أبو داوود الطيالسي: إنما أتي قيس من قِبَل ابنه.
ومن أمثلة ذلك أيضاً سفيان بن وكيع، فإنه كان يكتب الحديث الذي يسمعه، إلا أنه أتي من قبل وراق كان يكتب له، فكان يدخل عليه في حديثه ما ليس منه، فيحدث فيظن أنه حديثه وهو ليس بحديثه، فجاءه الإمامان أبو حاتم وأبو زرعة الرازيان أتيا سفيان بن وكيع- فقالا له: إنه قد أُدخل عليك كذا وكذا. فأبى، فقال: من أين ذلك؟ قالا: من كاتبك؛ من الوراق. فقال: كيف أصنع؟ قالا له: نحن نكفيك، بالتمييز نميز ما أدخل عليك فلا تحدث به وما لم يدخله تحدث به. وطلبا منه أن يبعد الكاتب؛ لكنه رحمه الله لم يستجب، فتركا حديثه وتكلما فيه، ومن بعدهما تكلم فيه الأئمة.
هـٰذا ما الذي فات فيه؟ هل فات فيه ديانة وتقوى؟ الجواب: لا، إنما فات فيه ضبط الكتاب.
إذاً من شروط الراوي أن يكون ضابطاً إما ضبط صدر أو ضبط كتاب أو ضبط الصدر والكتاب جميعاً.
هـٰذه شروط الحديث الصحيح، أو أركان الحديث الصحيح، أو أوصاف الحديث الصحيح، خمسة جمعها المؤلف رحمه الله في هذين البيتين اختصاراً:
أَوَّلُها الصَّحِيحُ وَهْوَ ما اتَّصَلْ*** إسْنادُه ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ
يَرْوِيهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ*** مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ
وقوله رحمه الله: (مُعْتَمَدٌ في ضَبْطِهِ ونَقْلِهِ) تأكيد للشرط الأخير.
هـٰذه الشروط -أيها الإخوة- هل هي متوافرة في الرواة على مستوى واحد، أم تتفاوت درجاتهم فيها؟ الجواب: أن درجاتهم تتفاوت في هـٰذه الصفات، لاسيما في صفة الضبط، ونتيجة هـٰذا التفاوت تفاوتت مراتب الصحيح، فإن الصحيح ليس على مرتبة واحدة.
ولذلك تسمعون من الكلام المنقول عن الأئمة أن أصح الأسانيد كذا وكذا، كما نقل عن البخاري رحمه الله قوله: أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر. فهـٰذه السلسلة تسمى سلسلة الذهب، وجاء عن غيره أقوال أخرى في أصح الأسانيد، فجاء عن بعض الأئمة أن أصح الأسانيد: ما رواه الزهري عن سالم عن ابن عمر. وقد اختلف العلماء رحمهم الله في أصح الأسانيد، فبعضهم زاد وبعضهم نقص، وقد جمعها ابن حجر رحمه الله فيما يقارب عشرين طريقاً.
لكن الصحيح في هـٰذا أنه ليس هناك إسناد يقال إنه أصح إسناد مطلقاً؛ يعني على وجه الإطلاق، إنما لابد من تقييد:
إما تقييده بالرواة، فيقال: أصح الأسانيد عن فلان كذا.
وإما تقييده بالبلدان، فيقال: أصح أسانيد أهل المدينة كذا، وأهل الكوفة كذا، وأهل الشام كذا، وأهل العراق كذا.
أما أن يسلك مسلك الإطلاق فإنه يورد عليه ما يورد من الانتقادات.
المراد أن تفاوت الرواة في هـٰذه الأوصاف لا يخرج الحديث عن كونه صحيحاً.
ومن الأمثلة التي تذكر في مثال الحديث الصحيح: ما رواه البخاري عن عبد الله بن يوسف القعنبي عن مالك عن نافع عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الحديث المشهور في صلاة الجماعة حيث قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة)) البخاري: كتاب الأذان، باب فضل صلاة الجماعة، حديث رقم (645). فهـٰذا حديث اجتمعت فيه شروط الحديث الصحيح كلها: ففيه اتصال الإسناد، فيه عدم الشذوذ، فيه عدم العلة، فيه عدالة الرواة، فيه ضبطهم.
وقبل أن نفرغ من الحديث الصحيح نقول: إن المؤلف رحمه الله بدأ في عد الشروط -عدّ شروط الصحيح أو أركان الصحيح- بدأ بالاتصال لأنه أهمها، فإن ما انقطع فقد انخرم اتصاله، لا يعلم ثبوته عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثم بعد ذلك ذكر شرطين مهمين يغفل عنهما كثير ممن يشتغل بتصحيح الأحاديث، لا سيما في الأزمنة المتأخرة، وهما الشذوذ والعلة، ولذلك قال: (ولمْ يَشُذَّ أو يُعَلْ).
ثم ذكر ما هو عمل أكثر المصححين المتأخرين، وما يلاحظه أكثر من يشتغل بالتصحيح من المتأخرين، فقال: (يَرْوِيْهِ عَدْلٌ ضابِطٌ عَنْ مِثْلِهِ).
الآن كل الذين يصححون يهتمون بالدرجة الأولى بما يتعلّق بالعدالة والضبط والاتصال، فإذا رأوا الحديث قد اتصل إسناده ورواه العدل الضابط عن مثله اكتفوا بهذا في إطلاق الصحة على الحديث، وهـٰذا خطأ كبير؛ لأنه لا بد من استكمال بقية الشروط، وهي عدم الشذوذ وعدم العلة.
ولذلك ينبغي لمن يطالع تصحيحات المتأخرين -لاسيما من لم يصلب عوده حتى لو كثر محفوظه أو كثر تأليفه- ينبغي أن يتأنى في قبول التصحيح.
العجيب أن كثيراً من الذين يتكلمون في التصحيح والتضعيف يهمل قول الإمام أحمد وقول البخاري وقول يحيى بن معين وأمثال هٰؤلاء الجبال الكبار في علم الحديث، ويقتصر على أقوال المتأخرين من العلماء أو حتى بعضهم المتأخرين من صغار طلاب العلم، فيقول: صححه فلان، ويغفل تضعيف من ضعفه من الأئمة الكبار.
ولذلك ينبغي لنا أن نتروّى في مسألة التصحيح والتضعيف، فرق بين أن يقال: إسناده صحيح. وبين أن يقال: حديث صحيح.
فالإسناد قد يقال: إنه إسناد قوي، أو إسناد ضعيف وفيه انقطاع. بينما لا يطلق على الحديث أنه حديث صحيح حتى يُنظر فيه إلى سائر الشروط التي يجب توافرها في الحديث الصحيح التي ذكرها العلماء رحمهم الله.
مما فاتنا ذكره خوارم الضبط، ما هي خوارم الضبط؟
خوارم الضبط:
الغفلة، بأن يكون الراوي كثير الغفلة، فإذا كثرت غفلة الراوي دل ذلك على قلة ضبطه وضعفه.
الثاني: كثرة غلطه، فإذا كثر غلطه كان ذلك دليلاً على عدم ضبطه.
من قوادح الضبط وخوارمه الوهم، فإن من كان كثير الوهم دلّ ذلك على ضعف ضبطه.
أيضاً من خوارم الضبط: سوء الحفظ، فإن هـٰذا يخرم الضبط.
أيضاً من خوارم الضبط: مخالفة الثقات، هـٰذا يتصل بالشذوذ؛ لكنه في الحقيقة يدل على أن الضبط ضعيف؛ لأنه إذا جرى من الراوي مخالفة لمن هم أوثق منه فإنه يستدل بذلك على ضعف ضبطه ويوصف الحديث بأنه شاذ، فهـٰذه تتصل بالشذوذ وتتصل أيضاً بخفة الضبط.
إذاً خوارم الضبط:
واحد: كثرة الغفلة. الثاني: الوهم. سوء الحفظ. كثرة الغلط. مخالفة الثقات.
وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف رحمه الله اختصاراً فيما يتعلق بالحديث الصحيح.
ننتقل إلىٰ ما ذكره ثانياً، الحديث الحسن قال رحمه الله:
والحَسَنُ الْمَعْرُوفُ طُرْقاً وَغَدَتْ *** رِجَالُهُ لا كَالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ
عرف المؤلف رحمه الله الحسن بأنه ما عُرفت طرقه، أي ما كانت طرقه معروفة (وَغَدَتْ) أي صارت (رِجَالُهُ) أي رجال إسناده، (لا كَالصَّحِيحِ اشْتَهَرَتْ) يعني كان حال رجاله دون حال رجال الصحيح، وظاهر كلام المؤلف رحمه الله في نظمه أن نزول مرتبة رجال الحسن عن رجال الصحيح في جميع الأوصاف السابقة التي اشترطت في الحديث الصحيح، ما عدا الاتصال؛ لأنه لا بد منه حتى يكون الحديث صحيحاً.
وهـٰذه مسألة اختلف فيها المحدثون على قولين:
هل الحسن يفوت فيه وينقص من أوصاف الحديث الصحيح: العدالة، والضبط، وعدم الشذوذ، وعدم العلة، أم أنه فقط فيما يتعلق بالضبط؟
جمهور المحدثين ممن كتب في المصطلح جعل الفارق بين الحسن والصحيح خفة ضبط رواة الحديث الحسن، فجعل الفارق بين الحديث الصحيح والحديث الحسن في صفة الضبط فقط، فمن نزلت مرتبته في الضبط دون مرتبة الصحيح ولم يصل إلىٰ حد الضعف فإنه يكون حسناً.
ومنهم من قال: إنه يدخل النقص في أكثر من الضبط، فيدخل في ضعف العدالة، أي أن تنزل العدالة دون مرتبة الصحيح، وأيضاً في الشذوذ والعلة، فالنقصان الذي اعتبر في الحسن يطال جميع الصفات عدا الاتصال.
وأما قول أكثر المحدثين فهم يقصرون النقصان على خفة الضبط، ولذلك استدرك عبد الستار أبو غدة على الناظم فقال:
والحسن الخفيف ضبطاً إذْ غدت
ليمشي بهذا على سنن أكثر أهل الاصطلاح.
ماذا قال الناظم في ضابط الحسن؟ قال: (والحَسَنُ الْمَعْرُوفُ طُرْقاً وَغَدَتْ) عبد الستار أبو غدة أدخل تعديلاً على هـٰذا البيت بما يوافق قول أكثر المحدثين فقال:
والحسن الخفيف ضبطاً إذ غدت *** رجاله لا كالصحيح اشتهرت
اشتهرت في الضبط، هـٰذا ما ذكره أهل العلم رحمهم الله في مسألة الفارق بين الحديث الحسن والحديث الصحيح.
إذاً الفارق عند أكثر المحدثين: الضبط، سواء كان ضبط كتاب أو ضبط صدر.
وأما عند جماعة من المحدثين فالفارق ليس فقط في الضبط، في الضبط وفي غيره من الصفات.
طيب ما هو تعريف الحديث الحسن؟ المؤلف رحمه الله عرفه بقوله:
والحسن الخفيف ضبطاً إذ غدت *** رجاله لا كالصحيح اشتهرت
الحقيقة أن هـٰذا التعريف لا يفي ببيان الحسن، إذ إنه لا يفهم منه إلا أن الحسن أنزل درجة من الصحيح؛ لكن هـٰذا يصدق حتى على الضعيف.
فالضعيف رجاله أنزل درجة من الصحيح؛ لكن ما الحد الذي يعتبر فيه الحديث في درجة الحسن ويخرج عن الضعيف؟ يعني هو ميز الحسن عن الصحيح لكنه لم يميز الحسن عن الضعيف.
وقد تنوعت كلمات العلماء رحمهم الله في تعريف الحديث الحسن، ما سبب هـٰذا التنوع؟ سبب هـٰذا التنوع أن الحسن مرتبة ومنزلة بين طرفين: بين الحديث الصحيح الذي يحتج به، وبين الحديث الضعيف الذي لا يحتج به.
فالحسن فيه من أوصاف الصحيح ما يلحقه به، وفيه من أسباب الضعف ما يجذبه إلىٰ الضعيف، فهـٰذا الاختلاط والاشتباه بكون الحديث بين هاتين المنزلتين جعله ملتبساً من حيث التعريف.
ولذلك تعددت كلمات العلماء رحمهم الله في تعريفه ليصلوا إلىٰ حد يضبط الحديث الحسن عن غيره، ولكن اجعلها عندك قاعدة الآن: أنه ما نزل عن رتبة الصحيح في الضبط ولم يبلغ درجة الضعيف.
وسيأتي إن شاء الله تعالىٰ بقية الكلام على الحديث الحسن في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.