قوله –رحمه الله-: ((وكفارة كدين وكذا: نذر مطلق، وزكاة، ودين حج وغيره؛ لأنه يجب قضاؤه، أشبه دين الآدمي؛ ولقوله عليه السلام: «فدَينُ اللهِ أحقُّ بالوفاءِ»، ومتى برئ، ابتدأ حولًا)).
أي: إن من عليه كفارة تنقص النصاب أو تستغرقه، فإنها تسقط عنه الزكاة في ذلك القدر، وكذا فيمن عليه نذر مطلق، أو زكاة أو دين حج، أو دين غير حج.
ووجهه أن ذلك كله دين يجب قضاؤه أشبه دين الآدمي، ويؤيده ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «أنَّ امْرَأَةً أَتَتْ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَقالَتْ: إنَّ أُمِّي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرٍ، فَقالَ: أَرَأَيْتِ لو كانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِينَهُ؟ قالَتْ: نَعَمْ، قالَ: فَدَيْنُ اللهِ أَحَقُّ بالقَضَاءِ» أخرجه البخاري (1953)، ومسلم(1148)، وفي قول لا تمنع الكفارة ونحوها وجوب الزكاة في المال، لأن الزكاة آكد لتعلقها بالعين، ولأن دين الآدمي تتوجه المطالبة به بخلاف دين الله من الكفارة، ولأن الكفارة بالمال لها بدل، وهو صوم بخلاف الزكاة.
قوله –رحمه الله-: ((وإن ملك نصابًا صغارًا، انعقد حوله حين ملكه لعموم قوله عليه السلام: «في أربعينَ شَاةً شَاةٌ». لأنها تقع على الكبير والصغير. لكن لو تغذت باللبن فقط، لم تجب؛ لعدم السوم)).
أي: أن حول نصاب من ملك شياه صغار ينعقد من حين ملك النصاب الذي تجب فيه الزكاة، وذلك أن الصغار إذا حال عليها حول من حين ملكها، تدخل في عموم الأحاديث الموجبة للزكاة كقوله –صلى الله عليه وسلم-: «في أربعينَ شَاةً شَاةٌ» أخرجه أبو داود (1568)، والترمذي (621)، وابن ماجه (1807)، حديث صحيح. غاية مأمول الراغب لابن الملقن(79). وكقوله في خمس من الإبل شاة، ولأن السخالة تعد مع غيرها، فتعد منفردة كالأمهات، فقد قال عليه الصلاة والسلام لساعيه: «عد عليهم صغيرها وكبيرها».
ويدل له أيضًا قول أبو بكر رضي الله عنه «لو مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ علَى مَنْعِهَا» أخرجه البخاري (1456، 1457)مفرقا، ومسلم (20) ، والعناق لا تجب في الكبار.
وفي رواية عن أحمد أن حول نصاب من ملك شياها صغارًا لا ينعقد حتى يبلغ سنًّا يجزئ مثله في الزكاة، لأن مصدق رسول الله –صلى الله عليه وسلم-قال: أمرني ألا آخذ من رابع شيئًا، إنما حقها في التبيعة والجزع، ولقوله –صلى الله عليه وسلم-: «ليس في السِّخالِ زكاةٌ» أخرجه ابن الجوزي معلقاً في (التحقيق)(2/29)، قال ابن قدامة: يرويه جابر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي مرسلاً. المغني(4/48) ، ولأن السن معنى يتغير به الفرد، فكان لنقصانه تأثير في الزكاة كالعدد، وأجيب عن هذا الخبر بأن الذي يرويه جعفر الجعفي وهو ضعيف عن الشعبي مرسلا، ثم هو محمول على أنه لا تجب فيها قبل حول الحول، والعدد تزيد الزكاة بزيادتها بخلاف السن.
قوله –رحمه الله-: ((لكن لو تغذت باللبن فقط، لا تجب لعدم السوم)).
أي: إن كان ما ملكهم من النصاب شياهًا صغارًا لا تأكل المرعى، بل تتغذى باللبن فقط، فإنه لا تجب فيها زكاة لعدم السوم الذي هو شرط لوجوب الزكاة في بهيمة الأنعام كما سيأتي.
وقيل: بل يجب فيها الزكاة وجوبها فيها تبعا للأمهات.
نقف على هذا والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
الحمد لله رب العالمين وأصلى وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد.
قوله –رحمه الله-: ((ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب، فالدين وإن لم يكن من جنس المال، مانع من وجوب الزكاة في قدره، ولو كان المال المزكى ظاهرًا كالمواشي والحبوب والثمار)).
هذا هو القسم الثاني من مسائل أثر الدين على زكاة الأموال، وهو أثر الدين في زكاة مال من عليه دين ينقص النصاب، والذي قرره المؤلف أنه لا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب، فالدين وإن لم يكن من جنس المال، مانع من وجوب الزكاة في قدره، ولو كان المال المزكى ظاهرًا.
وقوله –رحمه الله-: ((ولو كان المال المزكى ظاهرًا)) إشارة إلى أن الأموال الزكوية في الجملة نوعان:
أموال ظاهرة، وهي المواشي والزروع والثمار.
وأموال باطنة وهي الأثمان الذهب والفضة وقيم عروض التجارة.
والمؤلف –رحمه الله-سوى بين النوعين في الحكم، ويمكن الحديث عن أثر الدين على زكاة مال من عليه دين، بالنظر إلى نوع كل مال على وجه الانفراد.
النوع الأول: أثر الدين على زكاة الأموال الباطنة، فإذا كان الدين أو الحق ينقص النصاب أو يستغرقه، فإنه لا زكاة فيه، سواء أكان الدين من جنس المال أو من غير جنسه، فيسقط من المال بقدر الدين كأنه غير مالك له، ثم يزكي ما بقي.
ومثال ذلك من عنده نصاب ذهب عشرون دينارًا، وعليه دين بقدر خمسة دنانير، فلا تجب عليه زكاة فيها؛ لأن ما عليه من الدين ينقص النصاب، واستدل لذلك بقول عثمان رضي الله عنه «هذا شهرُ زكاتِكم، فمَن كان عليه دَينٌ فليؤدِ دينَه حتى تَخلُصَ أموالُكم، فتُؤَدُّون منها الزكاةَ» إسناده صحيح. البدر المنير لابن الملقن(5/505)، وقد قال ذلك بمحضر من الصحابة فدل على اتفاقهم عليه حيث لم ينكروه.
وجاء عن ابن عباس وابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- في رجل يستقرض، فينفق على ثمرته وأهله، قالوا: يبدأ بما استقرض، فيقضيه ويزكي ما بقي، ولأن الزكاة وجبت مواساة للفقراء وشكرا لنعمة الغنى، وحاجة المدين لوفاء دينه، كحاجة الفقير أو أشد، وليس من الحكمة تعطيل حاجة المالك لدفع حاجة غيره.
قال في المغني بعد حكاية هذا القول رواية واحدة، وقال في الإنصاف: ولا زكاة في مال من عليه دين ينقص النصاب، هذا المذهب إلا ما استثني وعليه أكثر الأصحاب.
وعنه -أي عن الإمام أحمد- لا يمنع الدين الزكاة مطلقا، وعنه -أي رواية ثالثة- يمنع الدين الحال خاصة، جزم به في الإرشاد وغيره.
النوع الثاني: أثر الدين على زكاة الأموال الظاهرة، فإن الدين يمنع وجوب الزكاة فيها، إذا كان ينقص النصاب على الأصح، ووجه ذلك إلحاقها بالأموال الباطنة؛ لأنها إحدى نوعي الزكاة، فيمنع الدين وجوبها كالنوع الآخر، ولأن المدين محتاج، والصدقة إنما تجب على الأغنياء لقوله –صلى الله عليه وسلم-: « تُؤْخَذُ مِن أغْنِيائِهِمْ فَتُرَدُّ علَى فُقَرائِهِمْ» صحيح البخاري (1458)، ومسلم(19) ، وقوله –صلى الله عليه وسلم-: « خَيْرُ الصَّدَقَةِ ما كانَ عن ظَهْرِ غِنًى»صحيح البخاري(5356).
وفي رواية عن أحمد: أنه لا يمنع الدين الذي ينقص النصاب أو يستغرقه وجوب الزكاة في الأموال الظاهرة؛ لأن النبي –صلى الله عليه وسلم-كان يبعث سعاته، فيأخذون الزكاة من رؤوس الأموال الظاهرة من غير سؤال عن دين صاحبه بخلاف الباطن؛ ولأن وجوب الزكاة في الأموال الباطنة أضعف من وجوبها في الظاهرة، بدليل أن للإمام حق في المطالبة في الظاهرة، ويجب الدفع إليه، فيصير كأنه قد تعلق بها حقان؛ حق الله تعالى، وحق للإمام نيابة عن الفقراء وهو الآخذ، وهذا المعنى معدوم في الأموال الباطنة، فكانت أضعف، فجاز أن يسقط الزكاة فيها لضعف سببها.
وفي رواية عن أحمد التفريق في سبب الدين، فإن كان ما استدانه لزرعه، فإنه يحتسبه في الأموال الظاهرة، وإن كان استدانه لأهله أو لمصالح أخرى لم يحسبه.
والعلة في التفريق بين ما استدانه لمؤونة زرعه، وما استدانه لأهله، أن ما استدانه لأهله ليس من مؤونة الزرع، فلا يحسبه على الفقراء.