الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
يقول المصنف –رحمه الله-: باب إخراج الزكاة.
هذا الباب تضمن بيان مسائل إخراج الزكاة، ودفعها إلى مستحقيها وما يتعلق بذلك، من حكم النقل والتعجيل وما أشبه ذلك.
والمراد بالزكاة في قوله: باب إخراج الزكاة زكاة الأموال السائمة والأثمان، وعروض التجارة، والخارج من الأرض.
أما زكاة الفطر فقد تقدم ذكر ما يتعلق بإخراجها، والأحكام المتصلة بذلك.
قوله –رحمه الله-: يجوز لمن وجبت عليه الزكاة الصدقة تطوعًا قبل إخراجهاأي إن من لزمته الزكاة الواجبة، فإنه يجوز له الصدقة تطوعًا قبل إخراج الزكاة، فتجوز صدقة النفل قبل إخراج الزكاة كالصدقة قبل قضاء الدين إن لم يضر بغريمه، وكالتطوع بالصلاة قبل أداء فرضها، وسواء كان ذلك قبل مضي الحول أو بعده، لأنه إن كان قبل مضي الحول، فإنه لم يكن عليه واجب، وإن كان بعده لم يؤثر حينئذ نقص النصاب لسبق الوجوب، وقد أجرى بعض أهل العلم الخلاف في هذه المسألة على مسألة حكم تقديم التطوع على أداء الفرض، فيحيل بعض الفقهاء حكم هذه المسألة إلى تلك.
ومعلوم أن ذلك مبني على طبيعة العبادة من جهة كونها الوقت فيها موسع أو مضيق ونحو ذلك من التفصيلات.
قوله –رحمه الله-: ويجب إخراج الزكاة على الفور مع إمكانه كنذر مطلق، وكفارة.
ثم قال: لأن الأمر المطلق يقتضي الفورية، فيجب إخراج الزكاة على الفور متى اكتملت شروط الوجوب، فلا يجوز تأخير إخراج الزكاة مع القدرة على أدائها، وهذا ما أشار إليه بقوله: مع إمكانه يعني مع وجود القدرة على الإخراج، ومثل له أو نذره بنذر مطلق وكفارة، ثم ذكر تعليل ذلك بقوله: لأن الأمر المطلق يقتضي الفورية.
ومراده بالأمر المطلق ما جاء من الآيات التي فيها الأمر بإيتاء الزكاة وإخراجها كقوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141]، وقوله تعالى: ﴿وَآتَوُا الزَّكَاةَ﴾ [التوبة: 5] فالزكاة بالآية في قوله: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾ [الأنعام: 141] الزكاة والأمر المطلق يقتضي الفورية، وإذا كان الوجوب على الفور لم يجز التأخير مع القدرة، وإن كان الإخراج، ولأن وجوب الزكاة معلق بشرط، فمتى وجد الشرط تعلق الحكم به.
قالوا أيضًا في تعليل ما ذكروا من وجوب الزكاة على الفور، قالوا: لو جاز التأخير لكان التأخير إما أن يكون لغاية أمد، وهذا منافي للوجوب.
وإما إلى غير غاية، ولا دليل عليه، ثم إن جعل الزكاة على التراخي ربما يفضي إلى سقوطها، إما بالموت أو بتلف المال، فيتضرر الفقير بذلك.
والمؤلف أيضًا ذكر في تعليل الوجوب على الفورية قال: وكما لو طالب بها الساعي.
أي أن طلب الشارع للزكاة في اقتضاء ذلك الفورية كما لو طلب الساعي، فإنه لو طلب الساعي الزكاة، الساعي الذي يبعثه الإمام لواجبات الزكاة إذا طلب الساعي الزكاة تعينت الفورية، فكذا بطلب الله تعالى كعين مغصوبة، العين المغصوبة يجب ردها على الفور، فكذلك الزكاة إذا وجبت.
قال أيضًا: ولأن حاجة الفقير ناجزة، والتأخير يخل بالمقصود أي حاجة الفقير حاضرة، والتأخير يخل بالمقصود أي يفضي إلى عدم أداء الزكاة في وقتها الذي تسد به الحاجة.
وقوله: ربما أدى إلى الفوات هو ما أشرت إليه في قول الفقهاء فيما يتعلق بأنه لو جاز التأخير لكان إما إلى غاية وهو منافي للوجوب.
وإما إلى غير غاية ولا دليل عليه، وربما أدى إلى السقوط إما بالموت، أو بتلف المال ونحو ذلك.
ومثل له بخوف رجوع الساعي، يعني إذا وجبت الزكاة وخاف أنه إن أخرجها فورا أن يأتيه السعي فيطلبه الزكاة، فتكون عليه الزكاة مضاعفة التي أخرجها أولًا، وما يطلبه الساعي إذا جاء من غيبته أو خاف على نفسه أو ماله لما في ذلك من ضرر.
ثم قال: وله تأخيرهاأي: تأخير إخراج الزكاة لأشد حاجة أي لمن هو أشد حاجة ممن هو غائب أو غير حاضر فينتظره، وقريب وجار.
قال: ولتعذر إخراجها من المال يعني أيضًا إذا تعذر إخراجها من المال، كأن يكون المال محجوزًا يحتاج وقت إلى تسيليه أو إلى إحضاره.
ولذلك قال: لغيبة ونحوها.
قال: فإن منعها أي الزكاة جحدًا.
منع الزكاة هو إمساكها وعدم بذلها، وللمنع حالان في الجملة بالنظر إلى ما يترتب على المنع.
الحالة الأولى: ما يترتب عليه وجوب الأخذ مع عقوبة المانع وهو فيما إذا منعها جحدًا وأشار إليه بقوله: فإن منعها جحدًا لوجوبها أي أنكر وجوب الزكاة كفر عارف بالحكم وأخذت منه وقتل، فرتب على المنع جحودًا ثلاثة أمور:
الأمر الأول: ثبوت حكم الكفر في حق المانع إذا كان عالمًا وقد أقيمت عليه الحجة.
الأمر الثاني: وجوب أخذ الزكاة فلا يسقطها جحوده.
الأمر الثالث: الذي ترتب على المنع جحودًا القتل.
أما الحالة الثانية من أحوال منع الزكاة، فهو ما يترتب عليه الأخذ مع عقوبة التعزير.
الأول عقوبة قتل، وهنا عقوبة تعزير، والقتل للردة وقد اختلف الفقهاء في القتل للردة هل هو للحد أو للردة وليست حدًا، وهذا يأتي فيما نستقبل من أبواب.
فقوله –رحمه الله-: أو بخلًا هذا إشارة إلى الحالة الثانية أي منعها بخلا من غير جحد، فهنا لا يثبت كفره، بل هو عاص وترتب عليه أن تؤخذ منه قهرًا وأن يعزر، أي يعاقب عقوبة تعزيرية والعقوبة التعزيرية يقدرها الإمام، فيأخذها الإمام ويضعها موضعها، ويعاقب المانع لإخراجها بما يراه مناسبًا في عقوبته.
وقيل: بل تكون العقوبة تعزيرية، ولكن لا يأخذ أكثر مما وجب في المال، فإن منعها معتقدًا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه، أخذها وعزر، والمذهب وهو قول أكثر أهل العلم لم يأخذ زيادة عليها يعني لا يأخذ أكثر مما وجب عليه.
والقول الثاني في المسألة أنه يأخذ شطر ماله للحديث الذي ذكرناه، فالرواية الأولى وهي المذهب أنه لا يأخذ منه إلا ما وجب عليه من دون الزيادة.
والقول الثاني أنه يأخذها ويعاقب بأخذ الزيادة.
فقوله –رحمه الله-: أخذت منه فقط قهرًاأي فقط من غير زيادة قهرًا أي جبرًا كدين الآدمي ولم يكفر أي ولا يترتب على ذلك كفر، وعزر على المنع إن علم تحريم ذلك.
وقوت إن احتيج إليه ولو لم يثبت حكم الكفر يقاتل ولو لم يكفر، ووضعها الإمام موضعها.
قال: ولا يكفر بقتاله للإمام لأن هذا نوع من الامتناع عما وجب في حقوق الإمام، ولكنه لا يكفر بذلك.
قوله –رحمه الله-: وتجب الزكاة في مال صبي ومجنون لما تقدم، فيخرجها وليهما في مالهما كصرف نفقة واجبة عليهما لأن ذلك حق تدخله النيابة، ولذلك صح التوكيل.
قوله –رحمه الله-: ولا يجوز إخراجها أي الزكاة إلا بنية من مكلفأي أنه يشترط لصحة إخراج الزكاة أن يكون بنية.
وقوله: بنية يعني نية مقارنة.
ولذلك قال: إلا بنية بمكلف لحديث «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ»صحيح البخاري(1) أي مقارنة لها.
قال: والأولى قرن النية بالدفع يعني أن تكون مصاحبة لأنه يتحقق بها قوله: «إنَّما الأعْمالُ بالنِّيّاتِ».
وله تقديمها بزمن يسير أي بزمن غير طويل نظير الصلاة، فينوي الزكاة أو الصدقة الواجبة ونحو ذلك، فلا يجزئ إخراج الزكاة من غير نية، سواء كانت زكاة مال، أو زكاة فطر.
والدليل على اعتبار النية ما ذكر من حديث وهو عام.
أما الخصوص فقوله تعالى: ﴿وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ﴾ [الروم: 39] فهي عبادة تفتقر إلى نية الصلاة، فلذلك كان لا بد أن يخرجها بنية، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم في المذهب وهو قول جماهير العلماء.
ولهذا لو أخرج شيئًا من المال من غير نية الزكاة، لم يجزئ، ولو تصدق بجميع ماله، وبهذا يتبين أنه إذا دفع المال ثم نوى، لم يجزئه ذلك في الزكاة، لأنه أخرجه من غير نية مقارنة، واستثنوا من ذلك ما إذا كان صاحب المال قد غاب غيبة يتعذر الوصول إليه كما لو كان محبوسًا ونحو ذلك، فإنه إذا أخذ الساعي من ماله أجزئ ظاهرًا وباطنًا.
وهذا فيما يظهر والله تعالى أعلم لأن الساعي يتصرف بإذن الإمام، ولم تعذرت النية من رب المال قام الإمام مقامه، فما أخذه الساعي يكون مجزئًا ظاهرًا وباطنًا، لأنه له ولاية أخذ ونية المالك متعذرة فيقوم مقامه.
ولذلك قالوا: أنه إذا منع الزكاة بخلا، فأخذ الإمام منه أجزئت عنه، ولو لم يكن قد نوى، وأخذت منه قهرًا، وهذا الصحيح من المذهب.
وقال أبو الخطاب في هذه الصورة فيما إذا أخذت منه قهرًا أنه لا يجزئه من غير نية، وصوبه شيخ الإسلام لأن أخذها في هذه الحال هو أخذ لها لتعلق حق أهل الزكاة بها.
وأما بالنظر إلى من أخذت منه إذا لم ينو، فإنه لم يأت بما يجب عليه مما تبرأ به ذمته، فالجهة منفكة.