صفحة جديدة 1
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
يقول المصنف –رحمه الله-: ويجب على الإمام: بعث السعاة قرب زمن الوجوب؛ لقبض زكاة المال الظاهر، كالسائمة، والزرع، والثمار؛ لفعله عليه السلام، وفعل الخلفاء رضي الله عنهم بعده.
أي أنه يجب على الأئمة أن يبعثوا السعاة إذا اقترب زمن وجوب الزكاة كل عام ؛ لقبض زكاة المال الظاهر.
المال الزكوي ينقسم إلى قسمين: مال ظاهر، ومال خفي.
والمال الظاهر هو السائمة من بهيمة الأنعام والزروع والثمار، لأنها مشاهدة ويراها الناس، وتتعلق بها نفوس ذوي الحاجات من الفقراء.
وأما المال الخفي فهو ما عدا السائمة والزروع والثمار، والأصل في ذلك فعل النبي ﷺ وفعل خلفاءه الراشدين رضي الله تعالى عنهم، حيث كانوا يبعثون السعاة؛ لتحصيل الزكاة، ولأن عدم البعث قد يكون سببًا للإهمال.
ولذلك علل الفقهاء بعث الأئمة للسعاة، بأن من الناس من لا يزكى إذا لم يأتيه الساعي، ومنهم من لم يعلم ما عليه، فيؤدي ذلك إلى إضاعة هذه الفريضة.
ومما يستدل له في ذلك ما جاء في حديث عبد الله بن الساعدي قال: «اسْتَعْمَلَنِي عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنْه علَى الصَّدَقَةِ، فَلَمَّا فَرَغْتُ منها، وَأَدَّيْتُهَا إلَيْهِ، أَمَرَ لي بعُمَالَةٍ، فَقُلتُ إنَّما عَمِلْتُ لِلَّهِ، وَأَجْرِي علَى اللهِ، فَقالَ: خُذْ ما أُعْطِيتَ، فإنِّي عَمِلْتُ علَى عَهْدِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ فَعَمَّلَنِي» أي أعطاني مقابل ذلك «فَقُلتُ مِثْلَ قَوْلِكَ، فَقالَ لي رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ: إذَا أُعْطِيتَ شيئًا مِن غيرِ أَنْ تَسْأَلَ، فَكُلْ وَتَصَدَّقْ» أخرجه مسلم (1045) وهذا يدل على أن النبي ﷺ كان يبعث السعاة؛ لتحصيل الزكاة.
وأن الخلفاء من بعده ومنهم عمر رضي الله تعالى عنه عمل بذلك.
وأما خلافة أبي بكر فهذا مشهور ظاهر، فإن القتال الذي كان بعد وفاة النبي ﷺ في زمن أبي بكر لصنفين من الناس، أهل الردة الذين تركوا الإسلام وارتدوا، ومن منع الزكاة من العرب وإن لم يكونوا قد ارتدوا، لكنهم امتنعوا من بذل الزكاة للإمام.
قوله –رحمه الله-: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل، لما روى أبو عبيد في الأموال بإسناده عن علي أن النبي ﷺ تعجل من العباس صدقة سنتينالأموال لأبي عبيد(1886).
قال –رحمه الله-: يعضده رواية مسلم وهي في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة لما منع العباس الزكاة لما طلبت منه قال النبي ﷺ في الاعتذار له قال: «فَهي عَلَيَّ، وَمِثْلُهَا»صحيح مسلم(983).
قيل: إن ذلك لأجل أنه قدم الزكاة سنتين، إلا أن تقديم الزكاة يجوز بشرط أن يكمل النصاب.
ولذلك قال: وإنما يجوز تعجيلها إذا كمل النصاب، لا عما يستفيده.
وسيأتي بيانه.
قوله –رحمه الله-: ويجوز تعجيل الزكاة لحولين فأقل أي لعامين، فلا يجوز لأكثر من ذلك، وسيأتي تفصيله والأقوال فيه.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد –رحمه الله-أنه لا يجوز تعجيل الزكاة لأكثر من حول، لأن الحول الثاني لم ينعقد، فيكون لم ينعقد سبب الزكاة، فيكون تقديم زكاة الحول الثاني قبل انعقاد سببه، والصحيح من المذهب هو جواز ذلك لما ذكر الشارح من تقديم العباس بن عبد المطلب زكاته، وأقر النبي ﷺ ذلك.
وقوله: لحولين فأقل أي إن تعجيل الزكاة لأكثر من حولين لا يجوز، والأصل في هذا الاقتصار على ما جاءت به السنة، فعلى المذهب لا يجوز تعجيلها لثلاثة أعوام فأكثر، وقد ذكر بعض الحنابلة أن ذلك رواية واحدة عن الإمام أحمد لا تختلف الرواية فيه اختصارًا عما ورد، إلا أنه ثبت عن الإمام أحمد رواية يجوز التعجيل لثلاثة أعوام أو أكثر، فتعجيل الزكاة من حيث المذهب له ثلاثة أقسام:
القسم الأول: التعجيل لحول واحد وهذا يجوز وهو المذهب وقيل بلا نزاع.
القسم الثاني: تعجيله لحولين فأقل وهذا يجوز وفي رواية أنه لا يجوز والصحيح من المذهب الجواز.
القسم الثالث: التعجيل لأكثر من حولين، فالمذهب أنه لا يجوز التعجيل لأكثر من حولين اقتصارًا على ما ورد.
والرواية الثانية أنه يجوز التعجيل لثلاثة أعوام فأكثر بناء على جوازه لعامين.
وقوله –رحمه الله-: وإنما يجوز تعجيلها إذا كمل النصاب.
أي أنه يشترط لجواز تعجيل الزكاة لحولين فأقل أن يبلغ المال المزكي نصابًا، وذلك أن النصاب سببًا لوجوب الزكاة، فلا يجوز تقديمها عليه من غير خلاف، كتقديم الكفارة على اليمين، فإنها لا تجزئ لأن السبب لم ينعقد.
ولهذا قالوا: فلو ملك بعض نصاب فعجل زكاة نصاب لم يجزئه، لأنه تعدل الحكم قبل سببه، وبناء على ما تقدم يكون لجواز تعجيل الزكاة قبل وقتها شرطان:
الشرط الأول: أن تكون في عامين فأقل.
والشرط الثاني: أن يكون قد كمل النصاب.
وقوله –رحمه الله-: وإنما يجوز تعجليها إذا كمل النصاب لا عما يستفيده أي أنه لا يجوز تعجيل الزكاة عما يستفيده النصاب يعني نماء النصاب، لأنه عجل الزكاة لشيء لم يملكه، ومن شروط وجوب الزكاة الملك فلم يوجد سبب الزكاة في المال.
وعن أحمد رواية أنه يجزئ تقديم الزكاة عما يستفيده النصاب أي ما ينتج عنه، لوجود سبب الزكاة في الجملة.
قوله –رحمه الله-: وإذا تم الحول والنصاب ناقص قدر ما عجله.
يعني إذا عجل الزكاة وتم الحول والنصاب ناقص بقدر ما عجله، صح تعجيله وأجزئ المعجل.
مثال ذلك: إذا كان عنده أربعين شاة فعجل واحدة عجل الزكاة أخرج شاة، وفي أثناء الحول ماتت واحدة، فيكون ما أخرجه مجزئ عما بقي.
هذا معنى قوله: إذا تم الحول والنصاب ناقص قدر ما عجله صح تعجيله، وأجزئ معجل لأن حكم المعجل حكم الموجود في ملكه يتم به النصاب، وإن نقص أكثر مما عجله كمن له أربعون شاة.
الصورة الأولى عنده إحدى وأربعون شاة عجل الزكاة فأخرج واحدة، وفي أثناء الحول ماتت من هذه الأربعين التي عنده شاة، فكم مجموع ما عنده الآن؟
الموجود عنده تسعة وثلاثون شاة فهل تجزئ هذه التي أخرجها؟
نعم تجزئ التي أخرجها لأنه يكمل بها النصاب قدر المال الذي عنده لم ينقص عن النصاب، فإن كان عنده أربعون شاة وعجل واحدة كم بقي؟
إذا عجل واحدة من الشياه، بقي تسع وثلاثين شاة، فإذا تلفت واحدة الآن نقص النصاب مع المعجل نقص النصاب، فيكون المال خرج عن كونه تجب فيه الزكاة لماذا؟
لأنه نقص عن النصاب.
إذًا عندنا الآن قوله: إذا تم الحول والنصاب ناقص قدر ما عجله صح وأجزئه هذا فيما إذا لم ينقص المال عن النصاب ومثلنا له بأن يكون عنده إحدى وأربعين شاة عجل زكاته، فأخرج شاة عن المال، وبقي معه أربعون قبل تمام الحول ماتت شاة، بقي تسعة وثلاثون شاة، ففي هذه الحال هل تجزئ هذه الشاة المقدمة عن زكاة المال؟
الجواب نعم لأن المعجل كالموجود في ملكه.
أما إذا كان قد نقص عن النصاب كأن يكون عنده أربعون شاة أخرج زكاته معجلًا، فبقي عنده تسعة وثلاثون شاة، في هذه الحال إذا ماتت شاة سيكون مجموع المال ناقص عن النصاب، فلا زكاة عليه.
وبالتالي ما أخرجه يكون صدقة، وليس زكاة، لأن المال خرج عن كونه تجب فيه الزكاة، ولهذا قالوا في هذه الصورة الثانية: إن زاد بعد ذلك بنتاج أو شراء، فإنه لا يحتسب المخرج عن زكاة هذا المال.
مثال ذلك: عنده أربعون شاة عجل الزكاة بإخراج شاة، بقي تسع وثلاثون ماتت شاة، نقص المال عن النصاب الآن، ثم نتجت الشياه التي عنده فصار عنده أكثر من أربعين، فهل يحتسب في الزكاة الشاة المخرجة سابقًا؟
الجواب: لا يحتسبها لماذا؟
لأنها أخرجت قبل وجود سبب الزكاة وهو ملك النصاب، إذ إنه بالنقص خرج المال عن قوله: تجب فيه الزكاة.
قوله –رحمه الله-: وإن مات قابض معجلة، أو استغنى قبل الحول: أجزأت، لا إن دفعها إلى من يعلم غناه فافتقر؛ اعتبارًا بحال الدفع.
أي إن مات قابض زكاة معجلة، أو استغنى قابض زكاة معجلة قبل مضي الحول الذي تعجلت زكاته أجزأت الزكاة عمن عجلها، لأنه أداها لمستحقها والعبرة بحال الدفع، وقد دفع إليه وهو من أهل الزكاة، فتبرأ ذمته.
قالوا: كدين عجله قبل أجله، فإن الذمة تبرأ بذلك، لا إن دفعها إلى من يعلم غناه فافتقر، أي لا تجزئه زكاة المعجل إن دفع إلى أن يعلم غناه حال الدفع، ثم طرأ عليه الفقر أو وصف من أوصاف مستحقي الزكاة عند الوجوب أو قبله، لأنه لم يدفعها لمستحقها اعتبارًا بحال الدفع، وهو في حال الدفع لم يكن مستحقًا.
وأما إن دفعها إليه ظانًا أنه فقير، وهو في الباطن غني، فهذه ملحقة بما سيأتي الكلام عليه فيما إذا دفع الزكاة إلى من لا يستحقها وهو يعلم.
ثم قال المصنف –رحمه الله-: ولا يستحب تعجيل الزكاة.
أي أنه لا يستحب تعجيل الزكاة، فليس في تعجيل الزكاة فضيلة، لأن الزكاة إنما تجب عند تمام الحول، فإخراجها قبل تمام الحول يجوز لما فيه من الرفق بالمالك.
وعدم الاستحباب لوحظ فيه إنه ربما ينقص النصاب أو يتلف المال قبل تمام الحول، فلا يكون في المال زكاة.
ولهذا قالوا: الأفضل ألا يعجلها، وقالوا أيضًا خروج من خلاف من لا يرى جواز التعجيل، فعللوا عدم الاستحباب للخروج من الخلاف.
وقال صاحب الفروع: يتوجه احتمال اعتبار المصلحة يعني في التعجيل مصلحة أو لا؟
فإن فيه مصلحة فهو مستحب، وإلا فلا.
قال في الإنصاف: وهو توجيه حسن وذلك أن النبي ﷺ قبل تعجيل الزكاة من العباس، فدل ذلك على الجواز، وقد يقال إنه إنما كان ذلك لمصلحة، والمصلحة هنا قد تكون لأهل الزكاة في التقديم والتعجيل لطرق حاجة أو ما أشبه ذلك.
قوله –رحمه الله-: ولمن أخذ الساعي منه زيادة أن يعتد بها من قابلة.
يعني من العام القادم.
قال الموفق: إن نوى التعجيل هذا بيان أنه إن أخذ السعي من المزكي فوق حقه، فإن لرب المال أن يحسبه من حول ثان.
وفي رواية عن الإمام أحمد أنه لا يحتسب الزيادة، لأن هذا غصب فلا يجزئ، وجمع الموفق بين الروايتين رواية الإجزاء وعدم الإجزاء.
قال –رحمه الله-: ويحتمل أن يجمع بين الروايتين فيحتسب بها إذا نوى صاحبه أي صاحب المال التعجيل، ولا يحتسب إذا لم ينوي ذلك، فرد الأمر إلى حال الباذل إن نوى أنها معجلة، فهي مجزئ، وإن لم ينوي فإنها لا تجزئ لأنها تكون أخذت منه قهرًا من غير نية، والزكاة لا بد فيها من نية.
وهذا الذي ذكره الموفق ذهب إليه المجد، فحمل رواية الجواز على أن الساعي أخذ الزيادة بنية الزكاة إذا نوى التعجيل، وهذا التوجيه سديد لأن الأعمال بالنيات، فإن نوى التعجيل جاز واحتسبت وإلا فلا، والله أعلم.