الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
ختم المؤلف رحمه الله كتاب الزكاة بباب أهل الزكاة فقال: باب أهل الزكاة.
هذا الباب تضمن بيان أهل الزكاة، وهم المستحقون لها الذين جعلهم الشرع محلا لدفع الزكاة إليهم كما تضمن بيان من يجزئ دفع الزكاة إليهم، ومن لا يجزئ، وتضمن أيضًا بيان شروطهم وقدر ما يعطاه كل واحد منهم، ثم ختم الباب ببيان أحكام صدقة التطوع.
قوله رحمه الله: وهم ثمانية أصناف لا يجوز صرفها في غيرهم إلى آخره.
أي إن أهل الزكاة المستحقين لها والذين تصرف إليهم وتدفع لهم ثمانية أصناف، وهم المذكورون في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60] فالآية الكريمة تدل على أن صرف الزكاة منحصر في هذه الأصناف الثمانية فقط، ووجه ذلك أن الآية اشتملت على عد ثمانية أصناف وحصر الصدقات فيهم، والمراد بالصدقات الزكاة، والحصر جاء بإنما التي تفيد الحصر، فتثبت الحكم في المذكور وتنفيه عما عداه، ومما يدل على حصر دفع الزكاة في هذه الأصناف الثمانية في الآية تعريف الصدقات بأل التي تفيد الاستغراق، فلو جاز صرف الزكاة إلى غير هذه الأصناف الثمانية لكان لهؤلاء الأصناف بعضها لا كلها، ويدل أيضًا على حصر دفع الزكاة في هذه الأصناف الثمانية حديث زياد بن الحارث الصدائي قال: «أتيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم فبايعتُه فأتاهُ رجلٌ فقال أعطني من الصَّدقةِ فقال إنَّ اللهَ لم يرضَ بحكمِ نبيٍّ ولا غيرِه في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها هو فجزَّأها ثمانيةَ أجزاءٍ فإن كانت من تلك الأجزاءِأعطيتُكَ» رواه أبو داودسنن أبي داود(1630)، قال الشوكاني:في إسناده عبد الرحمن بن زياد ابن أنعم الأفريقي وفيه مقال. الدراري المضية(166) .
فعلم بذلك أن الزكاة لا تصرف في غير هذه الأصناف الثمانية، وهذا مجمع عليه قال الموفق: لا نعلم خلافًا بين أهل العلم في انه لا يجوز دفع الزكاة إلى غير هذه الأصناف إلا ما روي عن عطاء والحسن أنهما قالا: ما أعطيت في الجسور والطرق فهي صدقة ماضية أي: زكاة مقبولة، وهذا مبني على تفسيرهما لقوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 60] هل المراد به الجهاد وما في معناه أم المراد به كل أوجه البر وأبواب الإحسان، والذي عليه الجمهور أن قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 60] المراد به الجهاد وما كان في معناه.
وقوله رحمه الله: لا يجوز صرفها في غيرهم من بناء المساجد والقناطر، وسد البثوق إلى آخر ما ذكر أي إنه لا يدخل في مصارف الزكاة التي تدفع فيها بناء المساجد والقناطر، وسد البثوق وهي الأماكن المنفتحة في جانبي النهر، وكذلك لا تدفع في تكفين الموتى، ووقف المصاحف، وغيرها فهذه المصارف وإن كانت من وجوه الخير وأبواب البر، لكن مصارف الزكاة عينها الله تعالى وسماها فلا تصرف فيما عدا ذلك.
قوله رحمه الله: أحدهم: الفقراء، وهم أشد حاجة من المساكين؛ لأن الله بدأ بهم، وإنما يبدأ بالأهم فالأهم فهم: من لا يجدون شيئا من الكفاية أو يجدون بعض الكفاية أي: دون نصفها.
هذا شروع في بيان أهل الزكاة المستحقين لها، وهم الأصناف الثمانية، وأول أصناف أهل الزكاة الذين ذكرهم الله تعالى هم الفقراء، والفقراء جمع فقير وقد بين المؤلف رحمه الله أن الفقراء غير المساكين وفرق بينهما بأن الفقراء أشد حاجة من المساكين، واستدل لذلك بأن الله بدأ بهم قبل غيرهم وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، ثم عرف من هم الفقراء بعد أن بين أن الفقراء يختلفون عن المساكين وبعد أن بين وجه الفرق بينهما، والفقراء في تعريف المؤلف قال: من لا يجدون شيئا من الكفاية أي لا يجدون شيئًا بالكلية، ويلحق بهم أيضًا من يجد شيئًا يسيرًا دون نصف كفايته سواء كان من كسب أو غيره، فيجدون ما لا يقع موقعًا من كفايتهم كمن يجد درهمين من عشرة، ومثل له الخرقي رحمه الله بالزمن والأعمى، لأنهما في الغالب كذلك واستدل بقوله تعالى: ﴿لِلفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 273].
وعلق صاحب الإنصاف فقال: فلعلهم أرادوا في الغالب أي أن التمثيل بالزمن والأعمى في كلام الخرقي ومن تبعه إنما هو بناء على الغالب، فالغالب في الزمن وفي الأعمى أن يكون فقيرًا، ولذلك قال: وإلا حيث وجد من ليس معه شيء أو معه، ولكن لا يقع موقعًا من كفايته فهو فقير سواء كان أعمى أو كان زمنًا أو لم يكن كذلك.
وقوله رحمه الله: أشد حاجة من المسكين لأن الله بدأ بهم وإنما يبدأ بالأهم فالأهم، أي إن الفقير في الآية غير مسكين كما تقدم، وعند التأمل في ترتيب الله تعالى لمن ذكره في الآية يتبين أنهم رتبهم على حسب حاجتهم فقدم الأشد حاجة سواء كانت الحاجة حاجته الخاصة أو الحاجة إليه، فرتبهم على حسب الحاجة، فالفقير أشد حاجة من المسكين وهلم جر.
فالثاني وهو المسكين أصلح حالًا من الأول، والثالث أصلح حالًا من الثاني، والرابع هكذا إلى نهاية من ذكر الله تعالى، ومما يؤكد أن الفقير غير المسكين العطف بالواو التي تدل على التغاير، وما ذكر من الفرق ظاهر، ومما استدلوا به على أن المسكين أحسن حالًا أن الله تعالى ذكر المساكين في سورة الكهف فقال: ﴿أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ﴾ [الكهف: 79] فأخبر أن المساكين لهم سفينة يعملون بها، ولأن النبي ﷺ سأل الله أن يحييه مسكينا كما جاء في حديث، وأن يميته مسكينًا وأن يحشره في زمرة المساكين، لكن فيما يظهر والله أعلم أن المسكين في هذا السياق ليس المقصود به من يحتاج إلى مال، إنما المسكين الذي يظهر فيه معنى السكون إلى الله تعالى، والافتقار إليه، والحاجة إليه، لكن يمكن أن يستدل بأن النبي ﷺ كان يستعيذ بالله من الفقر.
وعلى كل حال الأقرب هو ما تقدم في تقرير المؤلف من أن الفقير أشد حاجة من المسكين.
وقوله رحمه الله: وإن تفرغ قادر على التكسب للعلم، لا للعبادة، وتعذر الجمع، أعطي.
أي إن تفرغ قادر على التكسب والاكتفاء بهذا الكسب، تفرغ كليًا للعلم الشرعي لا للعبادة، وتعذر الجمع بين التفرغ اشتغالًا بالعلم والتكسب، فإنه يعطى من الزكاة لحاجته، وإن لم يكن العلم لازمًا له إذا كان مما يتعدى نفعه، وسئل شيخ الإسلام عمن ليس معه ما يشتري به كتبًا للعلم يشتغل فيها، فأجاب رحمه الله بأن من ليس معه ما يشتري به كتبًا، يشتغل بها بعلم الدين يجوز له الأخذ من الزكاة ما يشتري له به ما يحتاج إليه من كتب العلم التي لا بد لتعلم دينه أو دنياه منها.
وقد قال البهوتي في كشاف القناع: ولعل ذلك غير خارج عن الأصناف، لأن ذلك من جملة ما يحتاجه طالب العلم، فهو كنفقته.
أما إن تفرغ قادر على التكسب للعبادة، فإنه لا يعطى من الزكاة، وعلة ذلك أن العبادة نفعها قاصر عليه بخلاف العلم، فإن نفعه متعد، ولذلك يعطى من الزكاة وهو نوع من الجهاد.
قوله رحمه الله: والثاني المساكين الذين يجدون أكثرهاأي: أكثر الكفاية أو نصفها، فيعطى الصنفان تمام كفايتهما مع عائلتهما سنة.
أي إن ثاني أصناف أهل الزكاة المستحقين لها هم المساكين، والمساكين جمع مسكين من السكون وهو الذي أسكنته الحاجة، والمسكين هو من يجد معظم الكفاية أو نصفها من كسب أو غيره أي أنه يجد أكثر الكفاية النصف ما زاد لكنه لا يجد تمام الكفاية سواء من كسبه أو غيره، فيعطى المسكين تمام كفايته، وكفاية من يعوله سنة، وتقييد ذلك بالسنة لأن الزكاة تتكرر فهي فرض سنوي، فيعطى ما يكفيه السنة لعل الله أن يغنيه، فإذا جاءت السنة الأخرى ولم يكتفي أعطي من الزكاة بقدر ما يكفيه سنة.
قوله رحمه الله: ولو ملك ولو من أثمان ما لم يقوم بكفايته، فليس بغني أي إن وصف الغنى الذي يزول به وصف المسكنة لا يحصل بملك ما لا تحصل به الكفاية، لأن الغنى ما يحصل به الكفاية فإن كان محتاجًا فليس بغني، فلا تحرم عليه الزكاة وتحل له مسألتها، وإذا لم يكن محتاجًا حرمت عليه الزكاة، وإن لم يملك شيئًا، فمناط استحقاق الزكاة وجواز سؤالها هو قيام الحاجة.
ومن ملك ما لا تحصل له بها الكفاية، لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: أن يكون ما ملكه من غير الأثمان كمن كان في ملكه عروض للتجارة قيمتها ألف دينار مثلا أو أكثر من ذلك، لا يحصل له من ربحها أي من عائدها قدر كفايته، فإنه يجوز له أخذ الزكاة وهذا بلا نزاع كما قال في الإنصاف.
ومثله من له مواشي تبلغ نصابًا أو له زرع يبلغ خمسة أوسق، لكنه لا يقوم ذلك بجميع كفايته جاز له أخذ الزكاة لأنه لا كفاية له، فيدخل في قوله في حديث قبيصة «فَحَلَّتْ له المَسْأَلَةُ حتَّى يُصِيبَ قِوامًا مِن عَيْشٍ -أوْ قالَ: سِدادًا مِن عَيْشٍ»صحيح مسلم(1044) والسداد هو الكفاية.
قال الميموني: ذكرت أحمد فقلت: قد يكون للرجل الإبل والغنم تجب فيه الزكاة وهو فقير، ويكون له أربعون شاة، وتكون له الضيعة لا تكفيه يعطى من الصدقة قال: نعم، وذكر قول عمر أعطوهم وإن راحت عليهم من الإبل كذا وكذا، قلت: فلهذا قال الميموني يسأل أحمد فلهذا قدر من العدد أو الوقت؟ قال: لم أسمعه يعني ليس هناك تقدير في الوقت أو في العدد الذي يملكه إذا كانت الحاجة قائمة، وقال: إذا كان له عقار وضيعة يستغلها عشرة آلاف في كل سنة لا تقيمه أي لا تكفيه، فإنه يجوز أن يأخذ من الزكاة.
وقيل لأحمد: الرجل يكون له الزرع القائم، وليس عنده ما يحصده أيأخذ من الزكاة؟ قال: نعم يأخذ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وفي معناه ما يحتاج إليه لإقامة مؤونته يعني إقامة ما يكفيه، هذه هي الحال الأولى ممن ملك ما لا تحصل له به الكفاية، وهو أن يملك من غير الأثمان ما لا تحصل له به الكفاية.
أما الحال الثانية: أن يكون ما ملكه من أثمان لكن لا يقوم بكفايته، ومن يعول وكان ذلك ولو كثر أي ولو كان كثيرًا أن يكون ما ملكه من الأثمان لا يقوم بكفايته ومن يعول ولو كثر، فليس بغني هذا لا يوصف بالغنى، فله أن يأخذ تمام كفايته سنة من الزكاة، والأصل في ذلك ما تقدم أن النبي ﷺ جعل الكفاية غاية لحل المسألة فما لم توجد الكفاية جاز أخذ الزكاة وسؤالها.
وفي رواية عن أحمد أن من ملك خمسين درهمًا أي من الأثمان فأكثر، أو قيمتها من الذهب أو غيره كالعروض لا يقوم ذلك بكفايته، فإنه لا تحل له الزكاة.
وفي رواية عن أحمد أن من ملك خمسين درهمًا فأكثر أو قيمتها من الذهب أو قيمتها من غير الذهب كالعروض، وكان ذلك لا يقوم بكفايته، فإنه لا تحل له الزكاة، واستدل لذلك بما جاء عن النبي ﷺ عند أبي داود «من سأل الناسَ وله ما يُغنيه جاء يومَ القيامةِ ومَسْأَلُتُه في وجهِه خَموشٌ أو خدوش أو قدوح. قيل: يا رسولَ اللهِ وما يُغنيه؟ قال: خمسون درهمًا أو قيمتُها منالذَّهبِ» رواه أبو داودأخرجه أبو داود (1626)، والترمذي (650)، والنسائي (2592)، وابن ماجه (1840)، وأحمد (4440(، قال ابن حجر: في إسناده حكيم بن جبير وهو ضعيف. فتح الباري(3/400) وأجيب بأن هذا الحديث فيه ضعف، ثم يجوز أن تحرم المسألة فيكون هذا الحديث في تحريم المسألة لكن ليس فيه تحريم أخذ الزكاة لمن كانت حاجته قائمة، فالحديث في تحريم المسألة وليس في منع أخذ الزكاة وعدم استحقاقها، والأقرب من هذا التوجيه أن يقال: إنه لو صح الحديث لحمل ذلك على زمن النبي ﷺ، وأن خمسين درهمًا أو قيمتها من الذهب غنى في زمانه ﷺ، فإذا تغير الأمر كان الحكم دائرًا مع الوصف المعتبر في وجوب الزكاة وهو الحاجة، فإذا كانت الخمسون درهمًا أو قيمتها من الذهب لا تتحقق به الكفاية وترتفع به الحاجة، فإنه يجوز أن يأخذ من الزكاة، ولذلك قال: فيعطى الصنفان تمام كفايتهما مع عائلتهما سنة أي يعطى الفقير والمسكين من الزكاة ما يحصل به تمام الكفاية وسد الحاجة سواء كانت الحاجة له وكذلك الحاجة لعائلته، وذلك أن كل واحد من عائلتهما مقصود دفع حاجته، فيعتبر له ما يعتبر للمنفرد.
وأما قوله رحمه الله: سنة فإن ذلك لكون وجوب الزكاة يتكرر بتكرر الحول، فيعطى ما يكفيه إلى مثله، والله تعالى اعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.