الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
قوله رحمه الله: في باب أهل الزكاة
الخامس: الرقاب، وهم المكاتبون فيعطى المكاتب وفاء دينه؛ لعجزه عن وفاء ما عليه، ولو مع قدرته على التكسب، ولو قبل حلول نجم.
إلى آخر ما ذكر في هذا الصنف، هذا الصنف هو خامس أصناف أهل الزكاة المستحقين لها وهم الرقاب أي: ما يدفع في فك الرقاب، وقد ذكرهم الله تعالى في الآية المتقدمة فقال: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: 177] ولا خلاف في ثبوت سهم الرقاب في أهل الزكاة، فقد أجمع على ذلك أهل العلم، ويشمل هذا الصنف ثلاثة أنواع من الرقاب:
النوع الأول: المكاتبون الذين قد اشتروا أنفسهم من ساداتهم، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم فيعاون هؤلاء على ذلك من الزكاة، ويعطون بقدر ما يحصل به عتقهم، ولا فرق في ذلك كما ذكر المؤلف بين أن يكون المكاتب قادر على التكسب أو لا، وكذلك لا فرق بين أن يكون قد حل أجل نجم المكاتبة أي القسط المطلوب منه في الكتابة أو لا، وعللوا ذلك لئلا يحل ولا شيء معه، فيفضي إلى انفساخ الكتابة وهذا المذهب وبه قال الجمهور، والأصل فيه أن لفظ الرقاب في الآية يشمل المكاتبين، بدليل ما لو قال: أعتقت رقابي فإنه يعتق مكاتبوه وقد قال الله تعالى: ﴿فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ﴾ [النور: 33]، ولأنه ممن يملك المال على سيده، ويصرف إليه أرش جنايته فكان له أخذ الزكاة كالغريب، ولأنه مدين أشبه الغارب، ويستثنى منه المكاتب كتابة فاسدة، وكذلك الكافر المكاتب لأنه ليس من مصارف الزكاة، ولا يدفع إلى المكاتب بحكم الفقر شيء لأنه عبد، ومؤونته على سيده.
النوع الثاني: مما يدفع في الرقاب شراء رقبة لا تعتق عليه، فيعتقها لعموم قوله تعالى: ﴿وَفِي الرِّقَابِ﴾ [البقرة: 177] وهو ظاهر في تناول العبد الخالص، وهو ما يسمى عند الفقهاء بالقن، لأن الرقبة إذا أطلقت إن صرفت إليه كقوله تعالى: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾ [النساء: 92] وتقدير الآية وفي إعتاق الرقاب، فجاز صرف الزكاة فيه كدفعها في الكتابة، ولأنه الوارد عن عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه وعن أحمد رواية أنه لا يجوز دفع الزكاة في شراء الرقاب، وقيل: إنه رجع عن القول بالعتق قال في رواية صالح: كنت أذهب إلى أن يعتق ثم جبنت عنه، لأنه يجر ولائه يعني يدرك بذلك فائدة وهي الولاء، ويكون له منفعة، والراجح الرواية الأولى لعموم الآية.
والنوع الثالث: مما يدخل في الرقاب فكاك الأسير المسلم، فيجوز إعطاء الأسير من الزكاة لفكاكه من الأسير، لأن في ذلك فك رقبة من الأسر، فهو كفكاك رقبة من الرق، ولأنه في فكه إعزاز للدين، ولأن الحاجة داعية إلى ذلك، فإنه لا يؤمن عليه القتل أو الردة، وهو محبوس في إديم وهذا أشد من حبس العبد في الرق.
قوله رحمه الله: السادس الغارم وهو نوعان، أي إن سادس أصناف أهل الزكاة المستحقين لها هم الغارمون، والغارمون جمع غارم وهم المدنيون واحدهم مدين، وهو الذي عليه الدين ولا يجد له قضاء، لأن الغرم هو الخسران، فكأن الغارم خسر ماله، وليس الأمر على ما أطلق المؤلف في قوله الغارم، بل الغارمون المستحقون للزكاة نوعان بالنظر إلى سبب الغرم ذكرهم المؤلف.
قوله رحمه الله: أحدهما غارم لإصلاح ذات البينأي الوصل بأن يقع بين جماعة عظيمة كقبيلتين أو أهل قريتين إلى آخر ما ذكر رحمه الله أي إن نوعي الغارمين المستحقين للزكاة هم من غرم لإصلاح ذات البيت لقوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ﴾ [الأنفال: 1] أي وصلكم والبين الوصل، والمعنى يكون مجتمعين على أمر أبرم، والمراد أن تقع بينهم عداوة وضغائن يتلف بها نفس أو مال، فيتحمل إنسان حمالة لإطفاء الفتنة، وسكون النار التي كانت بينهم، ووزال الشر الذي وقع بين هؤلاء الجماعات، هؤلاء القبائل، فيخرج في القبائل بعد ذلك، فيسأل حتى يؤديها، لأنه تحمل شيئًا لمصلحة عامة فورد الشرع بإباحة المسألة في هذا الحال، وجعل لهم نصيب من الصدقة، وحديث قبيصة شاهد على ذلك، ففيه قال النبي ﷺ لقبيصة لما قال له: تحملت حمالة قال: «فقالَ أقِم يا قَبيصةُ حتَّى تأتيَنا الصَّدقةُ فَنَأْمرَ لَكَ بِها ثمَّ قالَ يا قَبيصةُ إنَّ المسألَةَ لا تحلُّ إلَّا لأحدِ ثلاثةٍ رجلٌ تحمَّلَ حِمالةً فحلَّت لَه المسألةُ فسألَ حتَّى يُصيبَها ثمَّ يمسِكُ»صحيح مسلم(1044) والحديث في مسلم، وهذا نص في دفع الزكاة لمن تحمل حمالة لإصلاح ذات البين.
قوله رحمه الله: النوع الثاني ما أشير إليه بقوله: أو تدين لنفسه في شراء من كفار أو مباح أو محرم وتاب مع الفقر، أي إن ثاني نوعي الغارمين المستحقين للزكاة هم من غرم لمصلحة نفسه، فيعطى وفاء دينه بلا نزاع كمكاتب لاندفاع حاجتهم لقوله تعالى: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ [التوبة: 60] فيعطى من غرم من صحة نفسه قدر غرمه مع فقره، وكذلك يعطى من غرم لمصلحة نفسه في مباح، وهو من استدان في نفقة نفسه أو عياله أو كسوتهم أو نحو ذلك في عموم قوله تعالى: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ [التوبة: 60] وكذلك يعطى من غرم لمصلحة نفسه في محرم، بشرط أن يكون تاب منه، لأنه يأخذ لتفريغ ذمته لا لمعصية فجاز، كعطائه لفقره لكن لا يدفع إليه قبل التوبة، لأنه لا يؤمن أن يستعين بها في المعصية.
وفي وجه ثان أن من غرم في معصية وتاب منها لا يعطى لأنه لا يؤمن عوده إلى المعصية، والأول أقرب للعموم في قوله: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ [التوبة: 60] ويعطى الغارم أي من عليه دين، ولو كان في ذوي القربى أي من آل النبي ﷺ، وذكر المؤلف احتمالًا بالمنع، ووجه ذلك بأنه إذا كان لا يعطى الغارم الكافر لوجود سبب المنع، فكذلك لا يعطى الغارم من ذوي القربى لوجود سبب المنع.
أما الغارم الميت فقضاء دين الميت إذا غرمه لمصلحة نفسه أو غيره، المذهب أنه لا يقضى من الزكاة، وعللوا ذلك بأن الميت ليس له أهلية قبول الزكاة، فلا يعطى من الزكاة في سداد غرمه.
وعن أحمد رواية أنه يجوز أن يوفى الدين الذي على الميت من الزكاة، لأن الله تعالى قال: ﴿وَالْغَارِمِينَ﴾ [التوبة: 60] ولم يقل وللغارمين، فالغارم لا يشترط تمليكه وعلى هذا يجوز الوفاء عنه، وأن يملك لوارثه ولغيره ما يقضى به دينه، ومن تحمل حمالة بسبب إتلاف مال أو نهب جاز له الأخذ من الزكاة، ومثله أيضًا إن ضمن عن غيره مالًا، وهما معسران جاز الدفع إلى كل منهما، وأما إن كان موسرين أو كان أحدهما موسرًا، فإنه لا يجوز عن صحيحه من المذهب.
وقيل: يجوز إذا كان الأصل معسرًا، والحميل أي الضامن موسرًا وهو احتمال ذكره بعض الأصحاب، وقيل: يجوز إن كان الأصل معسرًا، والحميل الضامن موسرًا وهذا احتمال ذكره بعض الحنابلة.
قوله رحمه الله: ويعطى وفاء دينه ولو للهأي: إن من غرم لنفسه في شيء، إما تقدم يعطى من الصدقة ما يقضى دينه سواء كان الدين لآدمي أو كان الدين لله تعالى، ككفارة ونذر، ولا يعطى مع الغنى لأنه يأخذ لحاجة نفسه، فلم يدفع إليه مع الغنى كالفقير، ولا يقبل قوله إنه غارم إلا ببينة، فإن صدقه الغريم أي ولو لم يكن بينة فعلى وجهين، أي والأقرب قبول قوله.
وقوله رحمه الله: ولا يجوز له صرفه في غيره، ولو فقيرًا وإن دفع إلى غارم بفقره جاز أن يقضي منه دينهأي إنه لو دفع إلى غارم ما يقضي به دينه أعطيت مدين مالًا ليوفي دينه، فإنه لا يجوز له صرفه في غير ما أخذه له وهو وفاء الدين، وإن كان فقيرًا، فلا يقضي به حاجة فقره، ولا يقضي به حاجة غير حاجة وفاء الدين، لأنه إنما يأخذ هذا المال أخذًا مراعي، وهو لوفاء الدين، ولو أن الفقير أخذ مالا لفقره، جاز له أن يدفعه في قضاء دينه، لأنه ملكه وهذا فارق بين الغارم وبين الفقير، بين الأخذ للغرم، وبين الأخذ للفقر هذا على الصحيح من المذهب، وحكى في الرعاية وجهًا أنه لا يجوز أن يدفع الفقير ما اخذه لفقره في سداد دينه، والأول أقرب إلى الصواب، وهذه المسائل مبنية على قاعدة في المذهب ذكرها المجد وغيره أن من أخذ بسبب يستقر الأخذ به وهو الفقر والمسكنة والعمالة والتالف صرفه فيما شاء كسائر ماله، لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة، فاللام للملك.
وأما إن لم يستقر الأخذ بذلك السبب، صرف المأخوذ فيما أخذه له خاصة، لعدم ثبوت ملكه عليه من كل وجه، وإنما يملكه ملكًا مراعى، والله تعالى قال: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [التوبة: 60] فهؤلاء يأخذونه أخذًا مستقرًا.
وأما بقية الأصناف الثمانية، فإنهم يأخذونه أخذًا مراعى، ولذلك قال: ﴿وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60] ففرق بين الصنفين، بين من يأخذ أخذا مستقرا يثبت له به الملك وتمام التصرف، وبين من يأخذ أخذًا مراعى، فإنه لا يستقر ملكه، وإنما يكون له صرفه فيما أخذه له كالمكاتب والغارم والغاز وابن السبيل، فالله تعالى أضاف إليهم الزكاة بفي وهي للظرفية.
ولهذا قالوا: يسترد المأخوذ زكاته من المكاتب والغارم والغاز وابن السبيل إذا استغنوا عن الزكاة كما لو برأ المكاتب أو الغارم، أو فضل مع المكاتب أو الغارم أو ابن السبيل شيء، فإنهم يردونه لأنهم أخذوه أخذًا مراعى، ويجوز للرجل دفع الزكاة إلى غريمه، ويجوز أخذها منه ما لم تكن حيلة بمعنى ألا يكون ذلك حيلة لرجوع الزكاة إليه.
قال أحمد: إن كان حيلة فلا يعجبني، وإن قصد نفعه بدفع الزكاة إليه لا التحيل برجوع المال إليه فلا حرج وهو مجزئ كما تقدم.
السابع من أصناف الزكاة في سبيل الله وهم الغزاة المتطوعة أي الذين لا ديوان لهم أو لهم دون ما يكفيهم، فيعطى ما يكفيه لغزوه ولو غنيًا هذا هو سابع أصناف أهل الزكاة المستحقين لها، وهم في سبيل الله لقوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [التوبة: 60] وذلك بأن يعطى من الزكاة الغزاة المتطوعة الذين لا رواتب لهم من بيت المال، لأن المراد بسبيل الله عند الإطلاق الغزو يدل له قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [البقرة: 190]، وقال تعالى: ﴿يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [المائدة: 55] وذكر ذلك في مواضع عديدة من كتابه، فيعطى من خرج جهادًا في سبيل الله ولو غنيًا، لأنه خرج لحاجة المسلمين فيعطى في سبيل الله من غزى ولو غنيًا ما يحتاج إليه لغزوه ذهابًا وإيابًا لأنه خرج لحاجة المسلمين فلا يحمل ولو كان غنيًا، ويعطون ما يشترون به السلاح والدواب، وما يحتاجون إليه من نفقة ونحو ذلك.
وقال في الفروع: ويتوجه أن الرباط كالغزو، فيعطى المرابطون في سبيل الله.
قوله رحمه الله: ويجزئ أن يعطى منها لحج فرض فقير وعمرتهأي: مما يدخل في سهم في سبيل الله إخراج الزكاة في حج فرض الفقير، وكذلك في عمرته الواجبة، فيعطى ما يحج به فقير عن نفسه، أو يعتمر أو يعينه فيهما واستدلوا لذلك بحديث أم معقل رضي الله تعالى عنها، وفيه قال النبي ﷺ: «فإن الحج في سبيل الله»أخرجه أبو داود (1989)، وأحمد (27107)، قال النووي: ضعيف. المجموع(6/212).
ولما صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: الحج في سبيل الله، وعن أحمد رواية أنه لا يعطى منها في الحج، لأن السبيل عند الإطلاق ينصرف إلى الجهاد، ولأن كلما في القرآن ذكر سبيل الله، فالمراد به الجهاد، فوجب حمل هذه الآية على ذلك، ولأن الزكاة إنما تصرف إلى أحد رجلين إما إلى محتاج كفقير ومسكين ومكاتب وغارم، وإما إلى من يحتاج إليه المسلمون كعامل وغازٍ وغارم لإصلاح ذات البين والحاج ليس من هؤلاء، لأن النفع فيه لنفسه، وليس لعموم المسلمين.
وقوله رحمه الله: لا أن يشتري منها فرسًا يحبسها، أو عقارًا يقفه على الغزاة.
أي: إن مما لا يجزئ في إخراج الزكاة أن يشتري منها فرسًا يحبسه في سبيل الله، أو عقارًا يقفه على الغزاة، ولا دارًا وضيعة للرباط أو يقفها على الغزاة، لعدم الإيتاء المأمور به، فهنا ليس ثمة إيتاء، والله تعالى قد قال: ﴿وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ﴾ [المائدة: 55] فالإيتاء إعطاء، وليس في هذه الصورة إعطاء هكذا قالوا.
قوله رحمه الله: وإن لم يغزو رد ما أخذه نقل عبد الله إذا خرج في سبيل الله أكل من الصدقة، أي إن لم يغزو من أخذ فرسًا أو غيره من الزكاة، فإن الواجب عليه ردها، لأنه أعطي لسبب ولم يقل به، بناء على ما تقدم من أن قاعدة المذهب أن من أخذ الزكاة لمعنى لم يحصل بأخذه للزكاة وجب ردها، لأن الله تعالى أضاف إليهم الزكاة بـ (في) وهي للظرفية كما تقدم.
قوله رحمه الله: الثامن ابن السبيل وهو المسافر المنقطع به إلى آخر ما ذكر رحمه الله، أي إن ثامن أصناف أهل الزكاة المستحقين لها هو ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع بغير بلده هذا معنى قوله: المنقطع به يعني الذي انقطع به سفره، وليس به ما يرجع به إلى بلده، والأصل فيه الآية، حيث قال تعالى: ﴿وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60] فإن كان السفر في الطاعة أعطي بلا نزاع بشرطه وهو أن يكون محتاجًا منقطعًا، وكذلك يعطى إن كان السفر مباحًا، كالسفر في التجارة على الصحيح من المذهب، وقيل: لا بد أن يكون سفر طاعة، فلا يعطى في السفر المباح، ولا يعطى منقطع في سفر نزهة لأنه لا حاجة إليه، وفي وجه آخر يعطى المنقطع في سفر نزهة، لأنه من أقسام المباح في الأصح، وهو ظاهر كلام كثير من الأصحاب.
أما السفر المكروه فظاهر كلام جماعة من الأصحاب أنه لا يعطى، لأنه لا حاجة إلى هذا السفر، وظاهر كلام كثير من الأصحاب أنه يعطى المنقطع في سفر مكروه لعموم الآية، وقد علله غير واحد بأن السفر المكروه ليس بمعصية، فدل على أنه يعطى في سفر مكروه، وهو نظير إباحة الترخص فيه، كما أنه يجوز له الترخص في السفر المكروه برخص السفر، فكذلك يعطى من الزكاة إن انقطع به سفره.
وأما سفر المعصية، فإنه لا يعطى فيه قطع به أكثر الأصحاب، لأنه إعانة على المعصية، وظاهر ما قاله في الفروع أن هذه المسألة نظير إباحة الترخص فيه، فيجري فيه الخلاف، فشيخ الإسلام اختار جواز الترخص في سفر المعصية كما هو مذهب الحنفية، ورجحه ابن عقيل في بعض المواضع، وابن السبيل الآيب إلى بلده، فيدخل فيه ابن السبيل إذا كان منقطعًا في سفر المعصية، إذا كان ذلك لرده لا لإعانته على سفره المحرم.
أما إن تاب في سفر المعصية، فإنه يعطى لأن التوبة تجب ما قبلها.
قوله رحمه الله: دون المنشئ للسفر من بلده إلى غيره، لأنه ليس في سبيل، لأن السبيل هو الطريق فسمي من لزمه ابن السبيل إلى آخر ما ذكر، أي إن المنشئ للسفر من بلد إلى غيرها، لا يدخل في ابن السبيل فلا يعطى في الزكاة، وذلك أن ابن السبيل لا يتناوله حقيقة كما ذكر الشارح في بيان وجه التسمية، فإنها تقتضي أن يكون ابن السبيل مسافرًا لا منشئ، لأن المنشئ للسفر يصير ابن سبيل في ثاني الحال بخلاف الأول، فإن ابن سبيل في الحال فلا يتناول المنشئ حقيقة، فلا يكون مرادًا، لأن الأصل إرادة الحقيقة، ولأنه لا يفهم من ابن السبيل إلا الغريب دون من هو في وطنه ومنزله، فوجب أن يحمل المذكور في الآية على الغريب دون غيره، ويعطى ولو كان له يسار في بلده، لأنه عاجز عن الوصول إليها والانتفاع بهذا اليسار فهو كالمعدوم في حقه.
وعن أحمد رواية أن المنشئ للسفر من بلده يعطى من الزكاة أيضًان والأقرب هو الأول.
قوله رحمه الله: فيعطى ابن السبيل ما يوصله إلى بلده ولو وجد مقرضًا إلى آخر ما ذكر، أي إن ابن السبيل يعطى من الزكاة بقدر ما يوصله إلى غرضه، ثم يرجعه إلى بلده لأن فيه إعانة على بلوغ الغرض الصحيح، لأنه إنما جاز له الأخذ من الزكاة، ليتوصل إلى بلده، فلا يجوز أن يأخذ أكثر مما يدفع به ذلك كما لا يجوز أن يأخذ الفقير أكثر مما يدفع به فقره، فإن كان ابن السبيل فقيرًا في بلده، أعطي لفقره وكونه ابن سبيل لوجود الأمرين فيه.
وقوله رحمه الله: ولو وجد مقرضًا أي إن ابن السبيل يعطى من الزكاة، ولو وجد مقرضًا يقرضه ما يبلغه بلده، ولو كان موسرًا في بلده، ووجه ذلك أن الله تعالى أطلق فقال: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60] وهذا هو الصواب.
فابن السبيل لو قدر على الاقتراض، فإنه يعطى من الزكاة، وفي قول: أن ابن السبيل لو قدر على الاقتراض فإنه لا يجوز له الأخذ من الزكاة، وبه أفتى المجد، والأول أقرب إلى الصواب.
قوله رحمه الله: ولو قصد بلدًا واحتاج قبل وصوله إليها، أعطي ما يصل به إلى البلد الذي قصده وما يرجع به إلى بلده أي إنه فيما إذا قصد ابن السبيل بلدًا، واحتاج قبل وصوله إلى مال، فإنه يعطى ما يوصله إلى البلد الذي قصده، وما يرجع به إلى بلده على الأصح لعموم الآية وهو ظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله في ابن السبيل المنقطع يريد بلدًا آخر.
ويعطى أيضًا ما يوصله إلى منتهى مقصده، ولو اجتاز عن وطنه، لأن الظاهر إنما فارق وطنه لمقصد صحيح، وهو قول عامة الأصحاب كما قال الزركشي وظاهر رواية صالح وغيره أنه لا يعطى وهو ظاهر كلام أبي الخطاب، واختاره الموفق، والأقرب هو الأول لوجود الوصف المثبت للاستحقاق في قوله تعالى: ﴿وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ﴾ [التوبة: 60].
قوله رحمه الله: وإن فضل مع ابن السبيل أو غاز أو غارم أو مكاتب شيء رده وغيره يتصرف بما شاء لملكه له مستقرا.
أي إن أهل الزكاة المستحقين لها، ينقسمون باعتبار صفة ملكه من الزكاة إلى صنفين كما تقدم، الصنف الأول: من كان ملكه لما يعطه من الزكاة غير مستقر وهم ابن السبيل، والغازٍ، والغارم، والمكاتب، فهؤلاء إن بقي شيء من الزكاة في أيديهم بعد قضاء حاجتهم، فإنه يجب إرجاعه إلى من دفعه من إمام أو غني، لأنهم لا يملكون ذلك من كل وجه، بل يملكونه ملكًا مراعى، ولأن السبب زال، فيجب رد الفاضل بزوال الحاجة، ولأنهم يأخذون لغنى لا يحصل بأخذ الزكاة، فافترقوا.
فعلى هذا لو أخذ الغارم شيئا، فوفى غرمه وبقي معه فضلة ردها، ولو أخذ الغازٍ ففضلت فضلة بعد غزوه ردها وهلم جر.
وفي قول للخرقي لا يلزمه الرد، لأنه عند أخذه فقير أشبه الفقير.
الصنف الثاني: من يكون ملكه لما يعطه من الزكاة مستقرًا، وهم الفقراء والمساكين والعاملون عليها والمؤلفة قلوبهم هؤلاء يتصرفون في الفاضل كيفما شاءوا، لأنه سبحانه أضاف الزكاة إليهم، فهم يأخذون لحاجتهم، فلهم أن يتصرفوا فيه كيفما شاءوا.