"وقال لصاحب الطعام الذي أخفى عيبَ طعامه:«مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟»، قال:أصابته السَّماءُ يا رسولَ الله، قال:«أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟»، ثم قال -صلى الله عليه وسلم-:«مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه مسلم (102) .
فهذا الحديث عامٌّ في النَّهي عن ((الغِشِّ في المعاملات كلِّها، من التِّجارةِ والإجارة والمشاركة وكلِّ شيء، فإنَّه يجب في المعاملات الصِّدقُ والبيان، ويحرُم فيها الغِشُّ والتَّدليس والكتمان)).
والضَّابط الكلِّيُّ لما يجب في المعاملات من الصِّدق والأمانة: ((ألَّا يُحِبَّ لأخيه إلاما يحبُّه لنفسه؛ فكلُّ ما لو عومل به شَقَّ عليه، وثقُل على قلبه، فينبغي أن لا يُعامِل غيرَه به)).
وقد فصَّل الغزاليُّ هذا الضابط الكلِّيَّ، فقال: ((فأما تفصيله، ففي أربعة أمور: أن لا يُثني على السلعة بما ليس فيها، وألَّا يَكتُم مِن عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا أصلًا، وألَّا يكتُم في وزنها ومقدارها شيئًا، وألَّا يكتُم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه)). وهذا تفصيلٌ جامع لكلِّ ما ينبغي مراعاته من الصدق، والبيان، والأمانة في المعاملات. فالواجب تمام الصدق والأمانة؛ ولذلك منع الإمام أحمد -رحمه الله-المعاريض في الشراء والبيع؛ لما فيها من التدليس، وعدم البيان الواجب. وهذا ليس خاصًّا بالبيع والشراء، بل عامٌ في جميع المعاملات؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((كلُّ ما وجب بيانُه، فالتعريضُ فيه حرام؛ لأنه كِتمانٌ وتدليس، ويدخل في هذا الإقرارُ بالحقِّ، والتعريض في الحلِف عليه، والشَّهادة على المعقود عليه، ووصف المعقود عليه))".
هذا هو الأصل السادس من الأصول التي ينبغي أن تراعى في المعاملات، وهو: الصدق والأمانة.
ومقصود الصدق والأمانة: الامتناع عن التدليس، والغش، وسائر ما يكون من الأعمال التي تروِّج السلعة وتُمضي العقد على وجهٍ لا يرتضيه أحد الأطراف لو علم الحقيقة.
والصدق هو: الإخبار المطابق للواقع، هذا تعريف الصدق: الإخبار المطابق للواقع.
وأما الأمانة: فالأمانة تُطْلَقُ على كل ما يفيد سكون القلبوطمأنينته، وذلك بأن يُبْعِد عن كل ما يمكن أن يكون مشوِّشًا للقلوب مُنَفِّرًا لها في المعاملات.
ضابط الصدق والأمانة في المعاملات، بعد أن ذكر الأدلة على وجوب الصدق والأمانة في المعاملات من الكتاب والسنة، عاد إلى بيان ما الذي يجب من الصدق؟ وما هي الأمانة المطلوبة في المعاملة؟
قال -رحمه الله-: (والضَّابط الكلِّيُّ)، يعني العام الشامل لكل ما ينبغي أن يُرَاعى فيما يتصل بالمعاملات على وجه العموم، والمعاملات المالية على وجه الخصوص، الضابط الكلي لما يجب في المعاملات من الصدق والأمانة: ألا يحب لأخيه إلا ما يحب لنفسه، وهذا من خصال الإيمان، فقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، كما في الصحيحين من حديث أنس بن مالك -رضي الله تعالى عنه- أخرجه البخاري (13)، ومسلم (45) .
فإذا استعمل الإنسان هذا في معاملاته المالية، أن يُعَامِل الناس بما يحب أن يعاملوه به، كان ذلك ضمانةً من أن يقع في غشٍّ، أو تدليسٍ، أو كذبٍ، أو مخالفةٍ لمقتضى الأمانة؛ ولهذا ينبغي أن يَجعل الإنسان هذا ضابطًا في معاملاته كلها، ومنها المعاملات المالية.
قال: ((فكلُّ ما لو عومل به شَقَّ عليه، وثقُل على قلبه، فينبغي أن لا يُعامِل غيرَه به)).
كل ما يشق عليك لو علمت به في المعاملة، أو ثقل على قلبك وقلت: لماذا ما علَّمني؟ لماذا ما قال لي؟ لماذا ما بين لي؟ فينبغي ألا تُعامِل به غيرك.
هذا ضابط مُريح، ويختصر عليك شيئًا كثيرًا من التفصيل، «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ».
أحيانًا تأتي بعض السلع ويكون فيها نوع من الخلل، أو تعرضت لنوع من الأذى، لا يعلمه المشتري، فإذا جاء يشتري هذا الجهاز لم يظهر على ظاهره شيءٌ من التأثُّر بما مرَّ عليه مما يمكن أن يؤثِّر على جودته، أو على صلاحيته، فلا يُخْبِر بذلك البائع؛ بناءً على أن السلعة ظاهرها السلامة والصحة، وليس فيها ما يظهر منه العيب، فيسكت ويكتم عن الإِخبار بذلك، ويُمضي البيع كاتمًا ما يمكن أن يكون مؤثِّرًا، هنا يُقال له: يا أخي هل لو بِيع عليك هذا الجهاز بهذه الصورة ترضاه لنفسك أو لا ترضاه؟ إن قال: لا أرضاه لنفسي، ويثقل عليه ذلك قيل: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» فيجب عليك أن تبيِّن ذلك للمشتري، والرزق على الله، ولن يجلب ذلك تنفيق سلعة بحلف كاذب أو بإخفاء، بل ما يترتب على الكسب الحرام من المحق أعظم مما يُؤمِّلُه من الربح والنفع بالكسب المُحَرَّم؛ فإن الله تعالى قد قال: ﴿يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا﴾[البقرة: 276] وهذا وعيدٌ لكل صاحب كسبٍ محرَّم، أن كسبه ممحوق، فزيادة الأرصدة والأرقام بالمكاسب المحرَّمة لا تعني حصول النفع، فإن الله يمحق بركة ذلك، ولا ينتفع به صاحبه ولو زادت الأرقام وعلت الأرصدة؛ لذلك ينبغي أن يستعمل الإنسان هذا الضابط فيما يجب من الصدق والأمانة في المعاملات المالية وغيرها.
كل ما لو عومل به شقَّ عليه يعني صَعُب عليه وثقُل على قلبه فينبغي ألا يعامل به غيره، وقد فصل هذا الضابط الغزالي - رحمه الله - فيما يتعلق بالبياعات فقال:"فأما تفصيله، ففي أربعة أمور" يعني في المعاملات المالية:
· "أن لا يُثني على السلعة بما ليس فيها"، هذا واحد. لا يُثني على السلعة بما ليس فيها.
· ثانيًا: "ألَّا يَكتُم مِن عيوبها وخفايا صفاتها شيئًا أصلًا"، بل يُخْبِر بعيبها إن وُجِد وبوصفها الحقيقي المطابق للواقع.
· الثالث: "ألَّا يكتُم من وزنها ومقدارها شيئًا"، بل يُخْبِر بالوزن الحقيقي، فإن ذلك من التطفيف، والبخس الذي نهى الله تعالى عنه.
· الرابع مما يتحقق به الصدق والأمانة في البياعات: "ألَّا يكتُم من سعرها ما لو عرفه المعامل لامتنع عنه". مثال ذلك: أحيانًا يُحَصِّل الإنسان شيئًا بسعرٍ بخس؛ لا لأمرٍ خارج إنما لأنه السعر الحقيقي، فيأتيه شخص لا يعرف الأسعار فيُخفي عنه السعر الحقيقي، وقد اشتراه بثمنٍ بخس، ثم يبيعه بثمنٍ عالٍ؛ لأن المشتري لا يعلم حقيقة الأثمان، لكن لو أن شخصًا حصَّل شيئًا رفيع الثمن بثمنٍ بخس كأن يشتري من أبيه مثلًا سيارةً عاليةَ الثمن لكن حاباه والده؛ فباعها إياه بثمنٍ بخس، هنا لا يحتاج أن يخبر بالثمن، ما يقول: هذه دخلت عليَّ بكذا؛ لأن الخبر في هذه الحال ليس له تأثير؛ إذ إن هناك محاباةً من والده في الثمن، لكن إذا كان الثمن بخسًا في ذاته، وخَفِي على المشتري حقيقة هذا الثمن البخس، عند ذلك لا يجوز، لابد من أن يُخْبِر بحقيقة الثمن.
هذا ما يتصل بضابط الصدق والأمانة الذي ذكره المؤلف -رحمه الله-، وأما ما يتعلق بالتطبيقات فقد ذكر تطبيقًا فقال: