قوله رحمه الله: "بَابُ الْحَائِضِ تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاَةَ"، هذا بيان أن الحائض يُشرع لها ترك الصوم والصلاة، وذلك على وجه الوجوب؛ فإنه لا يصح من الحائض صوم ولا صلاة، وهذا محل اتفاق، لا خلاف بين العلماء فيه.
قوله رحمه الله: "وَقَالَ أَبُو الزِّنَادِ: إِنَّ السُّنَنَ" يعني الآثار التي أتت عن النبي صلى الله عليه وسلم، "وَوُجُوهَ الْحَقِّ" أي: وجوه ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، "لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ" أي: تأتي على خلاف القياس، هذا معنى قوله، أو على خلاف ما يتبادر إلى ذهن المُكلَّف، "فَمَا يَجِدُ الْمُسْلِمُونَ بُدًّا مِنْ اتِّبَاعِهَا؛مِنْ ذَلِكَ" مثال لما تقدم "أَنَّ الْحَائِضَ تَقْضِي الصِّيَامَ وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ" مع أن كليهما واجب عليها، فكيف أُمرت بقضاء هذا دون هذا؟
الجواب: أولًا: قول أبي الزناد رحمه الله: "إِنَّ السُّنَنَ وَوُجُوهَ الْحَقِّ لَتَأْتِي كَثِيرًا عَلَى خِلَافِ الرَّأْيِ" هذا اجتهاد منه، والصواب أنه ما من شيء في السنن، ولا في وجوه الحق، إلا ولا بد أن يوافق العقل، كما هي القاعدة؛ أن صحيح المنقول لا يُعارض صريح المعقول. فلا تأتي الشريعة بما تُحيله العقول، أو تمنعه العقول، لكن تأتي الشريعة بما تحار فيه، ولا تدرك عِلته أو حِكمته، لكن لا يمكن أن تأتي الشريعة بما تمنعه العقول، وتتفق العقول على عدم قبوله، هذا لا يمكن أن يأتي، فينبغي أن يُحمَل قوله على هذا.
وقد يكون العالم لا تبدو له فيظن أن هذا مُخالف لِمُقتضى القياس، فيقول: هذا خلاف القياس، ويكون الإشكالية لا في الأثر المنقول، إنما الإشكالية في فهم من قال هذا الكلام.
على كل حال، هناك فرْق بين الصيام وبين الصلاة، من رحمة الله بالحائض أنه لم يأمرْها بقضاء الصلاة لكثرة ما يكون، في اليوم الواحد خمس صلوات، وإذا كانت تحيض سبعة أيام فهذا يعني خمسًا وثلاثين صلاة، هذا في المعتاد؛ ثلاثون أو خمس وثلاثون صلاة في حيضها في الغالب، وفي هذا مشقة أن تقضي هذا العدد، فدفعًا للمشقة لم يأمرها.
وعائشة رضي الله عنها لما قيل لها كما سيأتي: "ما بال الحائض تقضي الصيام، ولا تقضي الصلاة؟ قالت: كنا نُؤمر بذلك". فأعادت الأمر إلى أمر النبي صلى الله عليه وسلم.
فالحائض لا تقضي الصلاة بالاتفاق، ولكنها تقضي الصيام؛ لأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما أنها لا تصوم فذلك لقوله: «أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ تُصُلِّ وَلَمْ تَصُمْ، فَذَلِكَ نُقْصَانُ دِينِها». وهذا النقصان نقصان لا تؤاخَذ به المرأة.
نُقصان الدين نوعان:
- نوع يؤاخَذ به المكلَّف.
- ونوع لا يؤاخذ به، بل يُعذَر به.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «نُقْصَانُ دِينِها» هذا على وجه الاعتذار لها، لا على وجه تنقُّصها كما يفهمه بعض الناس، النقصان هنا لا نقص فيه على الْمُكَلَّف، ولا تثريب عليه فيه، بل هو من مقتضى الجِبلَّة الذي هو من مقتضيات التخفيف، فالنبي ساق ذلك على وجه الاعتذار لها، لا على وجه التعييب، كما يفعله بعض من لا يفهم معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِذِي لُبٍّ مِنْ إِحْدَاكُنَّ»مسلم (79)