الطهارة من منهج السالكين 1441

من 1441-01-02 وحتى 1441-04-02
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 2087

التاريخ : 2019-09-15 09:46:00

طباعة الصفحة   

 

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أمَّا بعد:

فكنَّا قد شرعنا في مقدمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي، في كتابه «منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين»، وقفنا على قوله رحمه الله: (وإذا كانت المسألة خلافية، اقتصرتُ على القول الذي ترجح عندي، تبعًا للأدلة الشرعية).

ثم بعد ذلك بعد أن شرح المصنف رحمه الله ما يتعلق بطريقته، وسمات هذا الكتاب، وموضوعه، كما تقدم في المقدمة، حيث تضمنت ثلاثة أمور: موضوع الكتاب، ميزاته، طريقة المؤلف فيه.

 فموضوع الكتاب مختصرٌ في الفقه، وميزاته جمع فيه المسائل والدلائل، واقتصر على أهم الأمور، وأعظمها نفعًا، ثم بعد ذلك ذكر طريقته رحمه الله في هذا الكتاب فقال: (وأقتصر على الأدلة المشهورة خوفًا من التطويل. وإذا كانت المسألة خلافيةً اقتصرت على القول الذي ترجح عندي، تبعًا للأدلة الشرعية).

 

    

 

بعد ذلك في المقدمة أيضًا، تكلم المؤلف رحمه الله عن الأحكام الخمسة التكليفية، فقال: (والأحكام خمسةٌ).

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا، محمد وعلى آله وصحبة أجمعين، أما بعد:

اللهم اغفر لنا ولشيخنا والحاضرين وجميع المسلمين.

قال الإمام السَّعديُّ رحمه الله تعالى: (الأحكام خمسة:

الواجب: وهو ما أثيب فاعله وعوقب تاركه.

والحرام: ضدُّه.

والمكروه: ما أثيب تاركه ولم يُعاقب فاعلُه.

والمسنون: ضدُّه.

والمباح: وهو الذي فعله وتركه على حدٍّ سواء.

ويجب على المكلف أن يتعلَّم منه كلَّ ما يحتاج إليه في عباداته ومعاملاته، قال رسول الله صلى الله عليه: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» متفق عليه).

 

    

 

قوله رحمه الله: (الأحكام خمسة) هذا العدُّ عُلم بالاستقراء، فلو قيل: ما الدليل على أن الأحكام خمسة؟، الجواب: أن دليل ذلك الاستقراء، ومعنى الاستقراء هو أنَّ العلماء رحمهم الله تتبَّعوا أنواع الأحكام التكليفية التي جاءت بها الشريعة، وانتهوا إلى أنها خمسة، وهذا يستعمله الفقهاء كثيرًا، بل يمكن أن يقال: "إنَّ كلَّ معدود في الفقه فدليله الاستقراء".

فمثلًا: أركان الصلاة، واجباتها، شروطها، مسنوناتها، كذلك الزكاة، الحج، الصوم، البيع، فعندما يذكر الفقهاء عددًا، فدليل هذا العدد هو الاستقراء، أي: ما تتبَّعه الفقهاء من النصوص الشرعية واستخلصوه، وإلا فليس هناك ما يدل على هذه الأعداد بالنص، فليس في الكتاب، ولا في السنة، أن شروط البيع سبعة مثلًا، أو أن أركان الصلاة أربعة عشر، بهذا النص، إنما هذا بالجمع، والتتبع، والاستقراء، نتج عنه هذا العدد الذي يذكره الفقهاء رحمهم الله.

من ذلك الأحكام الخمسة، وهي الأحكام التكليفية التي فيها أمرٌ أو نهيٌ أو تخيير، فالأحكام الخمسة ترجع إلى الأمر، وإلى النهي، وإلى التخيير. وقد تقدم في تعريف الحكم بأنه "خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً، ومنعًا، وتخييرًا".

 

    

 

يقول رحمه الله في عدِّ هذه الأحكام: الأول (الواجب) ثم عرَّفه بقوله: (وهو ما أثيب فاعله وعوقب تاركه). هذا تعريف (الواجب) وهذا تعريفٌ للواجب ببعض ما يدلُّ عليه، أو يُعرَّف به، وتعاريف العلماء رحمهم الله يسلكون فيها مسالك عدة، فمنهم من يعرِّف الشيء بذكر حقيقته، وهذا قليل نادر، ومنهم من يعرِّف الشيء بذكر بعض أحكامه، وهذا كثير، ومنهم من يعرِّف الشيء، بذكر مثاله، وصورته، وهذا أيضًا كثير.

وكلُّ هذه الأنواع من التعريفات تصبُّ في غرضٍ واحدٍ، ومقصودٍ واحدٍ، ما هو؟، هو تقريب معاني هذه الألفاظ إلى الأفهام، وبالتالي إذا كان هذا هو المقصود فلا مشاحة، ولا إشكال في أن يكون التعريف ببيان حقيقة الشيء، أو بيان بعض أحكامه، أو بيان مثالٍ له، وصورةٍ من صوره؛ لأن المقصود هو التقريب، وبيان حقيقة المعرَّف.

 

    

 

فقوله رحمه الله: (الواجب، وهو ما أثيب فاعله وعوقب تاركه). وهذا ما جرى عليه أكثر الأصوليين، وهو تعريفٌ بالرسم لا بالحد، كما ذكر ذلك الأصوليون، و(ما أثيب فاعله) دخل فيه المندوب، (وعوقب تاركه) خرج به (المندوب)، و(المباح)، و(المحرم)، و(المكروه).

فعُرف بذلك أن هذا الحد ميَّزَ (الواجب) عن غيره من الأحكام:

فقوله رحمه الله: (ما أثيب فاعله) أخرج ماذا؟، (المباح)؛ فالمباح لا يثاب فاعله، كذلك (المكروه) لا يثاب فاعله، كذلك (المحرم)، لا يثاب فاعله.

(وعوقب تاركه) أخرج ماذا؟، أخرج (المندوب)، فالمندوب لا يعاقب تاركه، كذا (المحرم) لا يعاقب تاركه، أما (المكروه) فهو فعلٌ وليس تركًا.

 

    

 

قوله رحمه الله: (والحرام: ضدُّه) أي: ما عوقب فاعله، وأثيب تاركه، هذا ضد ما تقدم.

قوله رحمه الله: (والمكروه: ما أثيب تاركه، ولم يعاقب فاعله) فيثاب تاركه، ولا يعاقب فاعله، وهو دون المحرم؛ فإنه لا يعاقب فاعله كما في المحرم.

قوله رحمه الله: (والمسنون: ضده) وهو ما أثيب فاعله، ولم يعاقب تاركه.

أما (المباح) فعرَّفه بقوله: (وهو الذي فعله وتركه على حدٍّ سواء) أي: يستوي فيه الفعل والترك، فليس فيه إثابةٌ، ولا عقابٌ. (المباح) ما خلا من الإثابة والعقاب على فعله أو تركه، هذا بيان للأحكام الخمسة.

 

    

 

والسبب في تقديم المؤلف - رحمه الله - لهذه الأحكام بين يدي الفقه، أن الفقه تقدم تعريفه، بأنه: (معرفة الأحكام الشرعية الفرعية بأدلتها من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح) فاحتاج أن يبين التعريف، فما هي الأحكام الشرعية؟، بيَّنها، لكن الأحكام الشرعية لا تقتصر على هذا، إنما تكون في هذه الأحكام الخمسة، وهي الأحكام التكليفية. وأيضًا القسم الثاني من الأحكام الشرعية وهي:

 

    

 

الأحكام الوضعية، وهي: ما جعله الشارع سببًا لشيء، أو شرطًا له، أو علةً له، وهي: الصحيح، والفاسد، والشرط، والسبب، والمانع، خمسة أحكام، وبهذا تكون الأحكام الشرعية بقسميها، عشرة أحكام؛ خمسة تكليفية، وخمسة وضعية، ومعنى وضعية أي: أن الشارع وضعها لأمرٍ؛ إما سببًا، أو شرطًا، أو مانعًا، أو ما إلى ذلك من الأمور التي وضعها الشارع؛ لإفادة أحكام بعلامات.

وإنما اقتصر على ذكر الأحكام التكليفية؛ لأنها أهم، ولأنها يدور عليها الفقه، والأحكام الوضعية في الغالب تابعة.

 

    

 

قوله رحمه الله: (ويجب على المكلف أن يتعلم منه) أي: من الفقه، فالضمير يعود إلى الفقه، (كل ما يحتاج إليه في عبادته، ومعاملاته، وغيرها) هذا المقطع من كلام المؤلف، بيان للقدر الواجب علمه من الفقه، فلو سأل سائل: ما القدر الذي يجب تعلمه من الفقه؟، فالجواب هو: ما يحتاج إليه المكلف في عباداته ومعاملاته وغيرها من المسائل التي تتعلق بها الأحكام.

الفقه قسمان:

والفقه في الغالب يقسمه العلماء إلى قسمين:

• عبادات.

• ومعاملات.

فالعبادات هي ما يتعلق بصلة العبد بربه، والمعاملات ما يتعلق بصلة الإنسان بالخلق، سواءً كانت صلته في المعاملات المالية، أو أحكام الأسرة، العلاقات الزوجية، أو في الخصومات، أو في الحدود والقضاء، أو الحدود والجنايات، أو فيما يتعلق بما يحل له أكله في الأطعمة، وما يلحق بها، كل هذا مما يتعلق بعلاقة الإنسان بما حوله، يندرج هذا كله تحت مسمى المعاملات.

ومن الفقهاء، بل جمهور الفقهاء، يخصون المعاملات بما يتصل بالمعاوضات المالية؛ من البيع، والإجارة، والشركة ونحو ذلك.

فقوله رحمه الله في ضابط العلم العيني الذي يجب تعلمه على كل مسلم من الفقه: (يجب على المكلف أن يتعلم منه) أي: من الفقه، (كل ما يحتاج إليه في عبادته، ومعاملاته، وغيرها) أي: مما لا يندرج في المعاملات عند الجمهور؛ كالقضاء، والشهادات، والجنايات، والحدود، وما أشبه ذلك مما يحتاج إلى تعلمه.

 

    

 

قوله رحمه الله: (قال صلى الله عليه وسلم) أي: في بيان فضل هذا العلم وشرفه (قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» متفق عليه) هذا الحديث رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما، من حديث معاوية رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»؛ أي: يرزقه الفقه في الدين، والفقه هو الفهم.

 

    

 

والمقصود بالفقه في الدين هنا هو العلم الذي يثمر عملًا صالحًا، وهذا قال به جماعة من أهل العلم.

وبالتأكيد أن من يوفق إلى هذا النوع من العلم، العلم الذي يثمر عملًا صالحًا، قد وفق إلى خيرٍ كثير، أما العلم المجرد فلا يدخل في هذا الحديث، العلم الذي لا يثمر عملًا، لا يدخل في هذا الحديث، كما ذكر ذلك جماعة من أهل العلم، والسبب قالوا: إن من يعلم ولا يعمل، فإن ما علمه حجةٌ عليه، وليس حجةً له؛ كما جاء في الصحيح في حديث أبى مالك، أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»؛ حجَّة لك إذا عملت به بعد فهمه، وحجَّة عليك إذا علمته ولم تعمل به.

والذي يظهر - والله أعلم - أن هذا القول أقرب إلى الصواب في معنى الحديث، لكن من رزق العلم، فإنه من دلائل الخير فيه أن يوفق إلى العمل، ويكمن الخير بأن يعطف عليه العمل، أما العلم في ذاته فهو خير.

وأما تخلف العمل عن العلم، فهذه سوأة أخرى، وليست لها علاقة بالتعلم، لكن مَن أبصر خيرٌ ممن لم يبصر؛ ولذلك قال بعض أهل العلم: قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»: أي: يرزقه العلم بالدين؛ بغضِّ النظر عمل به، أو لم يعمل به، لكن إن عمل به كان نورًا على نور، وإن لم يعمل به كان حجةً عليه.

ولا ينفي أن يكون ما علمه خيرًا؛ لأن علوم الشريعة كلها خير، أشار إلى هذين القولين ابن القيم رحمه الله، كأنه يميل إلى المعنى الأول الذي ذكرته، وهو أن  قوله: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ»؛ أي: يرزقه علمًا يثمر عملًا، وليس فقط العلم الذي هو الإدراك والمعرفة دون عمل، هذا ما يتصل بالمقدمة، ولا نطيل الحديث حوله نقاط عديدة، لكن من المهم أن يعرف أن ما ذكره المؤلف هنا لبيان شريف العلم.

 

    

 

ولكن ما يفهمه بعض الناس من أن «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ». أن المقصود بذلك علم الفقه الاصطلاحي، معرفة الأحكام الشرعية الفرعية، من أدلتها  التفصيلية، هذا ليس بصحيح، بمعنى أن هذا الحديث ليس لفضل الفقه فقط، فيخرج التفسير، ويخرج العلم بالحديث، لا، إنما الفقه في الدين الذي أراده النبي صلى الله عليه وسلم هو المفهوم العام للفقه، وهو فهم الدين، وأعلى مراتب فهم الدين: العلم بمعاني كلام الله عز وجل، وفهم مقاصد النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أعلى مراتب الفقه في الدين، وهذا لا يسمى فقهًا على الاصطلاح المتأخر، فالاصطلاح المتأخر الذي تواتر عليه الفقهاء، أن الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية العملية الفرعية من أدلتها التفصيلية التي هي الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس الصحيح، إلى آخر الأدلة.

فهذا الحديث يندرج فيه الفقه، ولكن ليس حصرًا للفقه، فمن يستدل به على فضل الفقه بمعناه الخاص، قصر دلالة الحديث، الحديث أوسع دلالة، ففَهْمُ التفسير، فَهْمُ كلام الله عز وجل، والاشتغال بالتفسير يندرج في الحديث، فَهْمُ الحديث ومعاني كلام النبي صلى الله عليه وسلم يندرج في الحديث، فالحديث أوسع دلالةً من أن يقصر على فهم الفقه فقط، بل هو لكل علوم الشريعة؛ لأن كل علوم الشريعة تؤدي إلى الفقه في الدين؛ فالفقه في الدين هو فهم كلام الله، وفهم كلام رسوله صلى الله عليه وسلم. وهذا أوسع من تعريف الفقه الاصطلاحي.

إذًا هناك فرق بين الفقه الخاص، والفقه العام، الحديث يتكلم عن أي نوعي الفقه؟، الفقه العام أو الفقه الخاص؟، الفقه بمفهومة العام الذي يعني فقه كلام الله، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، بكل ما جاء فيه، بما يتعلق بالأصول والفروع.

 أما الفقه الخاص فهو يتعلق فقط بالأحكام العملية الفرعية، وهو مندرج في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» .

 

    

 

بعد هذه المقدمة، شرع المصنف رحمه الله في مقصوده من الكتاب، وبدأه بذكر حديث عبد الله بن عمر: («بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان».

فشهادة أن لا إله إلا الله: علم العبد، واعتقاده، والتزامه أنه لا يستحق الألوهية والعبودية، إلا الله وحده لا شريك له.

فيوجب ذلك على العبد: إخلاص جميع الدين لله تعالى، وأن تكون عباداته - الظاهرة والباطنة - كلها لله وحده، وأن لا يشرك به شيئًا، في جميع أمور الدين، وهذا أصل دين جميع الرسل وأتباعهم، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ}.

وشهادة أن محمدًا رسول الله: أن يعتقد العبد أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم  إلى جميع الثقلين - الإنس والجن - بشيرًا ونذيرا، يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته بتصديق خبره، وامتثال أمره، واجتناب نهيه.

وأنه لا سعادة ولا صلاح في الدنيا والآخرة إلا بالإيمان به وبطاعته، وأنه يجب تقديم محبته على محبة النفس والولد والناس أجمعين، وأن الله أيده بالمعجزات الدالة على رسالته، وبما جبله الله عليه من العلوم الكاملة، والأخلاق العالية، وبما اشتمل عليه دينه من الهدى والرحمة والحق، والمصالح الدينية والدنيوية.

وآيته الكبرى: هذا القرآن العظيم، بما فيه من الحق في الأخبار والأمر والنهي، والله أعلم).

سبب افتتاح المؤلف كتابه بهذه المقدمة:

هذه المقدمة بين يدي ذكر الأحكام التفصيلية للطهارة، هي إشارة من المصنف رحمه الله إلى أنه بنى هذا التأليف على هذا الحديث، فالإسلام الذي هو دين الله عز وجل الذي تنقاد القلوب والجوارح له، لا يتحقق إلا بهذه الأركان الخمسة، الدعائم الخمسة: «بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله»، وهاتان وإن كانتا كلمتين، إلا أنهما مقترنتان، لا انفكاك لإحداهما عن الأخرى؛ ولذلك عُدَّا ركنًا واحدًا؛ لأنه ركنٌ مكونٌ من أصلين، لا يتم الإيمان ولا يحصل الإسلام إلا بهما.

وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان» وهذا فيما يتعلق بحقوق الله عز وجل الخالصة، فحقوق الله الخالصة تبنى على هذه الخمسة أركان، على صلاح الباطن بالشهادتين، وعلى صلاح العمل بالأركان الخمسة، وهى صلاح الظاهر بـ «إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان».

بدأ المؤلف - رحمه الله - بالإشارة إلى الركن الأول من أركان الإسلام، وهذا لم يجر عليه عمل الفقهاء، فغالب الفقهاء في تصنيفاتهم يبتدئون في الفقه بذكر الأحكام العملية مباشرةً، ابتداءً بالطهارة، ولا يتكلمون عما يتعلق بأعمال القلوب والعقائد؛ لأن ذاك له مؤلفات تخصه، وهي ما كتبه العلماء قديمًا وحديثًا في بيان العقائد وما يجب لله تعالى من الإيمان به، وبملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره.

فيما يتعلق بهذا الكتاب، لما كان للمبتدئين، ذكر المؤلف نبذة  عن الشهادتين؛ لأن بهما صلاح كل عمل، فلا تقبل عبادة بلا توحيد، بلا شهادتين، فعرفهما تعريفا مختصرًا في بداية حديثه عن العبادات، وإلا فهذا محله كتب العقائد.

لكن من الفقهاء من ذكر في مقدمة كلامه شيئًا مما يتعلق بالعقائد، كما في رسالة ابن أبي زيد القيرواني رحمه الله، فإنه قدَّمها بذكر جملة من العقائد، ثم بعد ذلك انتقل إلى بيان الأحكام العملية، لكن هذا خلاف ما جرى عليه عمل أهل الفقه، على اختلاف مذاهبهم، من أنهم يبتدئون بكتاب الطهارة، ولا يتطرقون في مؤلفاتهم إلى مسائل الاعتقاد.

 

    

 

قوله رحمه الله: (فشهادة أن لا إله إلا الله: علم العبد، واعتقاده، والتزامه، أنه لا يستحق الألوهية، والعبودية إلا الله وحده لا شريك له). قوله: (علم العبد والتزامه) وهذان عليهما تقوم الشهادة، فالشهادة علم، والتزام، ويضاف إليهما بيان، وإظهار، فعلم، والتزام، وإظهار، على هذا دارت كلمة العلماء في تفسير معنى الشهادة؛ ولذلك لو علم والتزم دون أن ينطق ويتكلم، لم تنفعه الشهادة، بل لابد أن يقول، والقول إظهار.

قوله رحمه الله: (علم العبد، واعتقاده، والتزامه، أنه لا يستحق الألوهية) أي: أن يكون إلهًا، والعبودية أن يُعبد ويُقصَد بالعبادة؛ (إلا الله وحده لا شريك له)، هذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.

وخلاصة ذلك: أن يعتقد العبد أنه لا يستحق أحد العبادة غيره - جل وعلا -؛ فكل ما عبد من دونه باطل، هذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله، وأنه هو الإله الحق، الذي لا حق سواه، {فَذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ}.

قوله رحمه الله: (فيوجب ذلك على العبد) أي: هذا العلم المتقدم (يوجب) أي: يترتب عليه ويثمر، وينتج عنه (إخلاص جميع الدين لله تعالى) أي: إخلاص كل العمل، فالدين مقصود به العمل الظاهر، والباطن، (وأن تكون عباداته الظاهرة، والباطنة، كلها لله وحده، وأن لا يشرك به شيئًا في جميع أمور الدين).

قوله رحمه الله: (وهذا أصل دين جميع المرسلين) أي: هذه القضية المتعلقة بمعنى الشهادة، تواترت عليها جميع الرسل، فكل الرسل جاءوا بهذا، دعوا أقوامهم إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك لله له، (كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ}وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: «الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ». دينهم واحد؛ فهم متفقون فيما دعوا إليه من عبادة الله وحده لا شريك له.

ثم بعد ذلك فسر الشهادة للنبي بالرسالة فقال: (وشهادة أن محمدًا رسول الله)، أي: معناها ومقتضاها، (أن يعتقد العبد أن الله أرسل محمدًا صلى الله عليه وسلم، إلى جميع الثقلين الإنس والجن، بشيرًا ونذيرًا) وهذا اعتقاد رسالته، وأن رسالته عامة، ليست خاصة بجنس، ولا بزمان، ولا بفئة من الناس، بل هي عامة للثقلين الإنس والجن.

قوله رحمه الله: (يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته، بتصديق خبره) أي: يعتقد أن النبي بعث لعامة الناس داعيًا إلى التوحيد، كما هو شأن من تقدمه من الرسل، ولا يتحقق الإيمان به إلا (بتصديق خبره) أي: ما أخبر به عن الله، (وامتثال أمره) أي: التزام ما أمر به فعلًا، وما نهى عنه تركًا؛ ولذلك قال: (وامتثال أمره، واجتناب نهيه).

قوله رحمه الله: (وأنه لا سعادة، ولا صلاح في الدنيا والآخرة، إلا بالإيمان به، وطاعته) وهذا من مقتضيات الشهادة له بالرسالة، أن من اتبعه فقد هُدِيَ، ورشد، وسعد في الدارين، وأن من تنكب عن طاعته، فقد ضل وغوى.

قوله رحمه الله: (وأنه يجب تقديم محبته على النفس، والولد، والناس أجمعين) هذا مما يتعلق بالإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومن حقوقه، محبته صلى الله عليه وسلم، وتقديم محبته على محبة كل محبوب: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».

 

    

 

قوله رحمه الله: (وأن الله أيده بالمعجزات الدالة على رسالته) أي: أن الله قد أظهر صدقه بما أمده به من الآيات والبراهين، الدالة على صدق ما جاء به صلى الله عليه وسلم، وآياته متعددة، معجزاته متعددة، بل لم يؤتَ نبي من الأنبياء آية آمن الناس على مثلها، إلا وقد أوتي النبي صلى الله عليه وسلم ما هو نظيرها، وأعظم منها.

وكل من تأمل الآيات، التي عبر عنها المصنف بالمعجزات، كل من تأمل الآيات النبوية يوقن أن الله ميز النبي صلى الله عليه وسلم بآيات لم يسبق بمثلها، والسبب في هذا عموم رسالته، وامتداد زمانها إلى آخر الزمان، وأنه خاتم المرسلين.

 فكان من مقتضيات ذلك أن يعطيه - الله تعالى - من الآيات الدالة على صدقه، ما يؤمن على مثله البشر، وما لم يسبق أن أعطيه أحد من الأنبياء، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌ إِلاَّ أُعْطِىَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ». أي: الذي خصني به  دون سائر المرسلين «وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ» ثم ذكر ثمرة هذا، فقال: «فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وهذا الرجاء العظيم هو ثمرة هذه الآية التي أعطاه الله إياها، وهي هذا القرآن العظيم، الذي هو آية مستمرة، ممتدة، لا يحصرها زمان، ولا مكان، ولا حال، بل آياته تتجدد على مر العصور؛ كما قال الله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}. الضمير قيل: يعود إلى القرآن، وقيل: يعود إلى الله، وقيل: يعود إلى الرسول، والمعنى واحد، سواءً قيل: إنه عائد على هذا، أو على ذاك، أو على القرآن فإنه مؤدٍّ إلى معنىً واحد، وهو أن الله أعطاه ما يتبيَّن به صدقه صلى الله عليه وسلم.

فمن الإيمان به صلى الله عليه وسلم، أن يعتقد العبد (أن الله أيده بالمعجزات الدالة على رسالته) أي: صدق رسالته.

 

    

 

(وبما جبله) - الله تعالى- (عليه من العلوم الكاملة) به -  جل في علاه - وبالطريق الموصل إليه، فالعلوم التي جاء بها العلم بالله، والعلم بالطريق الموصل إليه.

(والأخلاق العالية) وهى متعلقة بصلاح ما بينه وبين الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صَالِحَ الأَخْلاَقِ»

(وبما اشتمل عليه دينه من الهدى، والرحمة، والحق)، (الهدى) ضد الضلال، (والرحمة) ضد العنف، (والحق) ضد الباطل، وكلها سمات جاءت في الشريعة، فالله تعالى أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم يهدي إلى صراط مستقيم، وأخبر أنه رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}، وأخبر أنه الحق، {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ}.

(والمصالح الدينية والدنيوية) أي: إنَّ هذا القرآن، وما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، والدين الذي جاء به، به تصلح الدنيا، وبه تصلح الآخرة، على وجه تتكامل فيه الدنيا مع الآخرة، لا تنافر بين الدنيا والآخرة في هذه الشريعة، كما لا هدم لأحدهما على حساب الأخرى، بل بهما، بهذا الدين تقوم الدنيا وتصلح الآخرة.

 

    

 

قوله رحمه الله: (وآيته الكبرى) أي: معجزته، وعلامة صدقة الكبرى، (هذا القرآن العظيم بما فيه من الحق في الأخبار) أي: ما تضمنه من أخبار عن الأمم المتقدمة، وعن الله، وعن سائر ما أخبر به مما سيكون.

(والأمر والنهي) أي: والتشريع.

فما جاء في القرآن أخبار وشرائع؛ فالأخبار صدق، والأحكام والتشريع عدل، كما قال الله تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا}؛ صدقًا في الأخبار، وعدلًا في الأحكام.

قوله رحمه الله: (والله أعلم) بهذا تمت المقدمة التي قدم بها المصنف رحمه الله كتاب الطهارة، فيما يتعلق بتفسير الشهادتين، أما ما يتعلق  ببقية أركان الإسلام، فقد فصل فيها المؤلف رحمه الله تفصيلًا بينًا، فيما ذكره من المسائل التي سنمر عليها إن شاء الله تعالى في قراءتنا.

 

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق