الطهارة من منهج السالكين 1441

من 1441-01-02 وحتى 1441-04-02
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 2672

التاريخ : 2019-10-05 08:17:47

طباعة الصفحة   

أحكام إزالة النجاسات:

بسم الله الرحمن الرَّحيم، الحمد لله ربِّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبيِّنا محمد وعلى آله وصحبة أجمعين.

أمَّا بعد:

 اللهم غفر الله لنا ولشيخنا وللحاضرين وجميع المسلمين.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (ويكفي في غسل جميع النجاسات - على البدن، أو الثوب، أو البقعة، أو غيرها - أن تزول عينها عن المحل؛ لأن الشارع لم يشترط في جميع غسل النجاسة عددًا إلا في نجاسة الكلب، فاشترط فيها سبع غسلات إحداها بالتراب. في الحديث المتفق عليه، والأشياء النجسة: بول الآدمي وعذرته والدم، إلا أنه يعفى عن الدم اليسير).

الحمد لله ربِّ العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين... أمَّا بعد: فيقول المصنف رحمه الله: (فصل) وثمة عنوان: (إزالة النجاسة والأشياء النجسة).

فهذا الفصل يتناول ما يتعلق بإزالة النجاسة وما هي الأشياء النجسة؟ ابتدأ المصنف رحمه الله بإزالة النجاسة، ثم عطف على ذلك ذكر الأعيان النجسة، فهذا الفصل تضمن أمرين:

الأمر الأول: كيفية إزالة النجاسة.

والأمر الثاني: ما هي الأشياء النجسة؟

مناسبة هذا الباب لما قبله:

أما مناسبة هذا الباب لكتاب الطهارة؛ فقد تقدم أن الطهارة نوعان: رفع حدث وإزالة خبث؛ وهذا الفصل مما يتعلق بإزالة الخبث.

    

وإزالة الخبث من البدن والبقعة والثوب شرط لصحة الصلاة؛ فقد أمر الله تعالى بذلك في قوله  جل في علاه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} سورة المدثر: الآية 4، وهذا نص في وجوب تطهير الثياب، وتطهير الأبدان من باب أولى؛ لأنه إذا أُمر بتطهير الثوب وهو منفصل فتطهير البدن أولى وأحرى، وأما تطهير البقعة فهو من لازم تطهير الثوب؛ ذاك أن تطهير البقعة به يتحقق تطهير الثوب؛ فإن البقعة إذا كانت نجسةً تنجس الثوب ولم يتحقق التطهير، فهذه الآية دالة على وجوب تطهير الثوب وتطهير البقعة وتطهير البدن؛ أما تطهير الثوب فبالنص، وأما تطهير البدن فبالأولوية، وأما تطهير البقعة فباللازم.

    

يقول رحمه الله في هذا الفصل: (فصل: إزالة النجاسة والأشياء النجسة) ثم قال: (ويكفي في غسل جميع النجاسات - على البدن، أو الثوب، أو البقعة، أو غيرها أن تزول عينها عن المحل)، (يكفي) أي: يُجزئ أن تزول العين النجسة عن المكان الذي أصابته في بدن، أو ثوب، أو بقعة لحصول التطهير؛ فتطهير المتنجس من البقاع، ومن الثياب، ومن الأبدان هو بغسل ذلك حتى تزول عينها حتى تزول عين النجاسة؛ وذلك بأن تذهب سواء كانت النجاسة نجاسة من نجاسات الآدمي أو غيرها من النجاسات التي سيأتي ذكرها، وسواء كانت على البدن، أو كانت على الثوب أو كانت على البقعة، أو على غيرها كأن تكون على  الأواني أو الأغراض ونحوها، فالمؤمن مأمور بإزالة النجاسة ويتحقق ذلك بأن تزول عين النجاسة عن الموضع الذي أصابته.

    

وقوله رحمه الله: (يكفي في غسل جميع النجاسات على البدن، أو الثوب، أو البقعة، أو غيرها أن تزول عينها) أي: دون ملاحظة عدد، فلا يشترط في غسل النجاسات في الثياب أو البقاع أو الأبدان عددٌ؛ ولذلك قال رحمه الله: (لأن الشارع لم يشترط في جميع غسل النجاسات عددًا)، وهذا تأكيد للمعنى الذي فهم من العبارة السابقة من أن غسل النجاسة الأصل فيها أن يتحقق إزالتها وتطهيرها بزوال عينها دون نظرٍ إلى شرط عدد أو نية أو غيرهما، فلا يشترط أن ينوي، ولا يشترط أن يستعمل عددًا من الغسلات، بل إذا حصلت النجاسة في مكان وزالت سواء كانت بنفسها أو زالت بعاقل أو زالت بفعل مقصود، أو بفعل غير مقصود؛ فإنها تطهر بالزوال، فإنها تطهر بزوال عينها؛ لماذا؟ لأن النجاسة وصفٌ متى وجد وجدَ حكمه ومتى ارتفع ارتفعَ حكمه، فالنجاسة وصفٌ وهو الخبث الشرعي الذي يطلب إزالته، فإذا زال ذلك الوصف زال الحكم سواء بغسله ثلاثًا أو سبعًا، أو أقل أو أكثر ما دام أنَّ المحل طهر فإنه يكفي في حصول المطلوب، يدلُّ لذلك فعل النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أنس: «وَأَهْرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ - أَوْ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ» صحيح البخاري: باب قَوْلِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: «يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا», حديث رقم: 6128 ولم يذكر تكرارًا ولا عددًا في إزالة نجاسة الأعرابي التي أصابت الموضع الذي تبوَّل فيه، وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: في دم الحيض لما سئل عنه قال: «تَحُتُّه ثم تَقْرُصُه بالماءِ ثم تنضحُه ثم تصلي فيه» صحيح مسلم: باب نجاسة الدم وكيفية غسله, حديث رقم: 110 ولم يذكر النبي صل الله عليه وسلم عددًا لا مرةً، ولا مرَّتين، ولا ثلاثًا، ولا سبعًا ولا غير ذلك، فإذا حصل زوال النجاسة بأي عدد فإنه يكفي في إزالة النجاسة، فقوله رحمه الله: (يكفي في غسل جميع النجاسات - على البدن، والثوب، والبقعة، أو غيرها - أن تزول عينها عن المحل) أي: في حصول التطهير.

    

ويفيد كلامه أيضًا أنه لا حاجة في ذلك إلى نية؛ فإنه إذا زال الخبث زالت النجاسة من غير نية؛ كأن يأتي سيل فيغسل المكان الذي أصابته النجاسة، أو ينسكب ماء على موضع النجاسة فيزيل عينها؛ فإنه إذا زال الوصف الذي ثبتت به النجاسة زال حكمها، فلا يشترط في ذلك نية، والقاعدة في هذا أن إزالة النجاسة من باب التروك، ومعلوم أن باب التروك  لا تقصد لا تطلب فيه النيات، وإنما تكون النية نافعة فقط في الإثابة والأجر، وهذا ملحظ يغفل عنه الكثير، نحن نقول: لا تشترط النية ولكن لو نوى إزالة النجاسة هل يثاب؟ نعم، يثاب على نيته، ولو أزالها من غير نية زال حكمها ولكن لا إثابة، هذا الفرق بين أن ينوي إزالة النجاسة في ثيابه أو في بقعته، أو في بدنه، وبين أن تزول النجاسة من غير فعل منه، وقوله رحمه الله: (لأن الشارع لم يشترط في جميع النجاسات عددًا) هذا بالاستقراء؛ فإن فعل الشارع في النجاسات أنه متى زال الوصف الذي ثبتت به النجاسة زال حكمها.

    

ثم قال رحمه الله: (إلا في نجاسة الكلب، فاشترط فيها سبع غسلات إحداها بالتراب في الحديث المتفق عليه) هذا استثناء مما تقدم، وهو استثناء من عدم اشتراط العدد فما تقدم يشمل كل النجاسات بلا استثناء إلا نجاسة الكلب فإنه لابد في إزالتها من مراعاة العدد؛ وذلك بأن تكون سبع غسلاتٍ إحداهن بالتراب، وهذا الحكم خاص بنجاسة الكلب، وهو الكلب المعروف المعهود من أي نوع كان، سواء كان متوحشًا أو كان أهليًّا، سواء لحرث أو زرع يجوز اقتناؤه أو لا يجوز اقتناؤه، كل ذلك يكفي في إزالته سبع غسلات إحداهن بالتراب وقد جاء ذلك في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: «طُهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ أُولاَهُنَّ بِالتُّرَابِ» صحيح مسلم: باب حُكْمِ وُلُوغِ الْكَلْبِ, حديث رقم: 677 وفي رواية: «إحداهن بالتراب»، وفي حديث عبد الله بن مغفل ذكر الثامنة بالتراب، والمقصود بالثامنة أي إحدى السبع على الصحيح من قولي العلماء.

    

وقوله رحمه الله: (إلا في نجاسة الكلب) قَصَرَ الحكم على الكلب دون غيره، وقد ألحق بعض أهل العلم بالكلب الخنزير فقالوا: إلا في نجاسة الكلب والخنزير. وقد نص على ذلك المؤلف رحمه الله؛ الشيخ عبد الرحمن السعدي في بعض مؤلفاته.

وقيل: بل نجاسة الخنزير لا يحتاج فيها إلى عدد، بل هي كسائر النجاسات تغسل كما تغسل بقية النجاسات، وبهذا قال أكثر أهل العلم، وقد رجحه المصنف رحمه الله في بعض مؤلفاته، وهذا هو الأقرب إلى الصواب أن العدد إنما يشترط ويطلب فقط في نجاسة الكلب دون غيرها من النجاسات؛ فذاك ورد به النص وما ورد به النص يقصر عليه، لعدم وجود العلة الجامعة؛ فإنه لا تعلم ما العلة التي في سؤر الكلب التي أوجبت هذا الذي ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في تطهيره من كونه يستعمل فيه سبع غسلات.

    

ثم قال المصنف رحمه الله بعد هذا: (والأشياء النجسة: بول الآدمي وعذرته والدم) وذكر جملة من النجاسات على وجه التعيين؛ فقوله رحمه الله: (والأشياء النجسة) شروع في تعديد النجاسات، والذي دعاه إلى هذا التعداد هو أن إثبات حكم النجاسة هو خلاف الأصل، فالأصل الطهارة كما تقدم فيما مضى من كلام المؤلف رحمه الله، حيث قال: (والأصل في الأشياء الطهارة والإباحة) فاحتاج إلى أن يذكر ما خرج عن هذا الأصل بالنص، والعلماء في ذكر الخارج عن الأصل؛ أصل الطهارة من النجاسات يسلكون مسلكين:

1- منهم من يسلك مسلك العد.

2- ومنهم من يسلك مسلك الحد.

فمنهم من يعد النجاسات عدًّا، ومنهم من يحدها، ومنهم من يجمع بين العد والحد، وبالتأكيد أن العد أسهل في الإحصاء وأجمع في المعرفة، والحد هو المعنى المشترك الذي يمكن أن يدخل فيه ما عدا المعدود؛ ما سار عليه المصنف رحمه الله في غالب ما ذكر هو العد، فقال رحمه الله في الأشياء النجسة: (بول الآدمي).

    

وقبل أن نذكر ما يتعلق بما ذكره المؤلف من النجاسات ينبغي أن يعلم أن النجاسات على ثلاثة أقسام من حيث غلظ النجاسة:

القسم الأول: نجاسات مغلظة كنجاسة الكلب التي لابد فيها من سبع غسلات.

القسم الثاني: نجاسات مخففة وهي ما يكفي فيه الرش والنضح دون الغسل؛ وذلك كنجاسة بول الغلام وكذلك ما يعفى عنه من النجاسات.

القسم الثالث: النجاسة المتوسطة، وفي هذا القسم تندرج غالب النجاسات، وهو ما يكفي في إزالته زوال عينه دون عددٍ مشترط.

وعلى هذا التقسيم تجري الأنواع التي سيذكرها المصنف رحمه الله، فمنها ما هو نجاسة مغلظة، ومنها هو نجاسة مخففة، ومنها هو نجاسة متوسطة، وغالب ما سيذكره هو مما يندرج في المتوسط.

    

قال رحمه الله: (بول الآدمي)؛ بول الآدمي هو الماء الخارج من الذكر أو من القبل، من ذكرٍ أو أنثى، وهو نجس بالإجماع، لا يُعفى عن يسيره، ودليل ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ؛ أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ» صحيح البخاري: باب الْجَرِيدِ عَلَى الْقَبْرِ, حديث رقم: 1361 وقوله: «أما أحدهما فكان لا يستتر من البول» أي: لا يتنزه عنه، والمقصود بالاستتار هنا التوقي من أن يصيبه والاستبراء منه بالتطهر منه، وقد جاء بإسناد لا بأس به من حديث أبي هريرة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عَامَّةُ عَذَابِ الْقَبْرِ مِنَ الْبَوْلِ» سنن الدار قطني: باب نَجَاسَةِ الْبَوْلِ وَالأَمْرِ بِالتَّنَزُّهِ مِنْهُ وَالْحُكْمِ فِي بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ, حديث رقم: 476 أي: بسبب البول؛ فبول الآدمي ذكرًا كان أو أنثى صغيرًا أو كبيرًا نجس بالإجماع، وبعضهم يقول في ذكر النجاسات هنا: (الخارج من السبيلين) وهذا عدٌّ أو حدٌّ؟ هذا حدٌّ، والمؤلف سلك مسلك العد، فهذا الفرق بين العد والحد، فمن يقول في النجاسة: (الخارج من السبيلين) فقد حدَّها؛ لأنه يشمل البول، والمذي، والودي، والعذرة، وأما من يقول: (بول الآدمي وعذرته)، فهذا سلك مسلك العد.

    

ولم يذكر المؤلف رحمه الله مما يخرج من الذكر إلا البول فقط، ويُلحق به خارجان لم يذكرهما المصنف: الودي، والمذي، وهما في الحكم كالبول بالإجماع، فهما نجسان، لكن يختلف المذي عن البول في أنه يخفَّف في تطهيره، فيما إذا كان ممن يكثر منه المذي، لحديث عليٍّ رضي الله عنه: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال له: «فَاغْسِلْ ذَكَرَكَ وَتَوَضَّأْ» سنن أبي داود: باب فِي الْمَذْيِ, حديث رقم: 206.

حكم عذرة الآدمي:

ثم قال رحمه الله: (وعذرته) هذا ثاني ما ذكره عذرة الآدمي، والمقصود به الغائط، والعذرة والغائط اسمان يطلقان على الخارج من الدبر، وهما من أسماء الكناية؛ فإن الغائط يطلق في اللغة على المكان المنخفض، فلما كان الإنسان يقصد المكان المنخفض لقضاء الحاجة سميت الحاجة بمكان قضائها فسمي غائطًا، وكذلك العذرة في اللغة هي فناء البيت؛ وذلك أن الناس كانوا في الزمن السابق لا يستخدمون المراحيض في بيوتهم إنما في الأفنية وخارج البيوت، فسمي الخارج من الدبر باسم المكان الذي يفعل فيه سواء كان غائطًا أو عذرةً، وهذا متفق عليه بالإجماع أن العذرة نجسة لا يعفى عن قليلها، ويجب التخلي منها والتطهر، ولأجل ذلك شرع الاستجمار والاستنجاء.

    

حكم دم الآدمي: ثم قال رحمه الله: (والدم) وهذا ثالث ما ذكره من النجاسات، والمراد بالدم هنا دم الآدمي وليس مطلق الدم، إنما المراد دم الآدمي، ودم الآدمي هو روح الإنسان وقوته وغذاؤه، وهو نجس عند كثيرٍ من أهل العلم، والمراد بنجاسته فيما إذا خرج وبان من الإنسان، أما في حال جريانه في العروق فإنه في معدنه؛ ولذلك لا يوصف بالنجاسة، إنما يكون نجسًا فيما إذا خرج وبان من الإنسان، سواء كان خروجه من السبيلين، أو كان خروجه من سائر أجزاء البدن، لكنه بالاتفاق: إذا كان خروجه من السبيلين فإنه نجس. واختلفوا فيما إذا كان خارجًا من غير السبيلين. وجه الفرق أنَّ الدم الخارج من السبيلين، لا يُعفَى عن يسيره، وهو نجسٌ بالاتفاق، والخارج من غير السبيلين مختلَفٌ في نجاسته، وعلى القول بنجاسته فالاتفاق منعقدٌ على أنه يُعفى عن يسيره، هذا الفرق بين الدم بالنسبة لموضع خروجه. يقول رحمه الله: (إلا أنه يُعفى عن الدم اليسير) هذا بيان ما تميز به الدم عن النجاستين السابقتين؛ بول الآدمي وعذرته، فهما من النجاسة المتوسطة، وأما الدم فهو من النجاسة المخففة؛ لأنه يُعفى عن يسيره، لذا ذكر أنه يعفى عن الدم اليسير؛ أي الذي لا يفحش كثرةً، ووجه العفو عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يأمر الصحابة رضي الله عنهم بتوقِّي ما يصيبهم من دماء في جراحاتهم في الجهاد وغيره، ولو كان ذلك مما يجب توقِّيه لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا نفسه هو الدليل الذي استدلَّ به القائلون على أن دم الإنسان طاهر، قالوا: لا دليل على نجاسته، والاستدلال بالنص العام لا يكفي في إثبات الحكم: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} سورة الأنعام. الآية 145 فهذا لا يدخل فيه دم الإنسان؛ لأن دم الإنسان ليس طعامًا معتادًا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الصحابة بتوقي ما يصيبهم من دماء، وهي مسألة تحتاج إلى إيضاح وبيان، ولقد حكى غير واحدٍ من أهل العلم الإجماع على نجاسة الدم، لكن ليس هناك دليل بيِّن ظاهر سوى ما يحكى من إجماع، وعندما تتأمل الإجماع تحتاج إلى أن تتريث في قبوله، فكثير مما يحكى فيه الإجماع إذا فتشت وجدت خلافًا، وجدت أنهم قد يجمعون على مسألة ويقصدون بالإجماع حكاية الأكثر والأغلب في أقوال أهل العلم، وليس أنه محل اتفاق لا خلاف فيه بين أهل العلم؛ ولذلك قال الإمام أحمد رحمه الله:  "من ادعى الإجماع فقد كذب" وهذا ليس إنكارًا لحجية الإجماع، إنَّما بيان صعوبة حصوله لاسيَّما بعد انتشار العلماء، وتفرُّقهم في الأمصار وكثرة الخلاف بينهم، فقوله رحمه الله: (إلا أن يعفى عن يسير الدم) هذا محل اتفاق بين أهل العلم أنه يُعفى عن يسيره، ووجه ما ذكرتُ من سكوت النبي صل الله عليه وسلم  عما كان يُصيب الصحابةَ من الدماء في المعارك، وفي جراحاتهم دون تنبيه.

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق