قوله –رحمه الله-: ((ويجب العشر أو نصفه على مستأجر الأرض دون مالكها، كالمستعير؛ لقوله تعالى:﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾[الأنعام: 141] ))
هذا بيان أن زكاة الحبوب والثمار تجب على المستأجر دون المالك، إذا كان قد استأجر الأرض.
ومثله الآن استئجار النخل، فإن الزكاة تجب على المستأجر؛ لقوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾[الأنعام: 141]، فالخطاب لمن يحصد، والمستأجر هنا هو الذي يحصد، وهو الذي يجني الثمار، ولعموم قوله: «فيما سقَتِ السَّماءُ العُشرُ»[صحيح البخاري(1483)]وإنما هذا في حق من يملك الناتج مما سقي.
قال في الإنصاف: "بلا خلاف أعلمه" فما تقدم بما يتعلق بوجوب الزكاة على مستأجر الأرض لا خلاف فيه على المذهب، وما حررت هل في غير المذهب قول آخر أو لا؟
لكن هنا يقول: بغير خلاف أعلمه، وفي المبدع يقول: "في قول الأكثر" فلعله بلا خلاف في المذهب.
قوله –رحمه الله-: ((ويجتمع العشر والخراج)).
العشر واضح، المقصود بالعشر ما يجب في الحبوب والثمار والزكاة، سواء كان عشرًا أو نصف عشر.
والخراج وهو: ما يجعل على الأرض من غلتها، والخراج يؤخذ على ما فتح عنوة من الأراضي، ويقر أهلها عليها، فلا تقسم، فالأراضي الخراجية تشمل ما فتح عنوة ولم تقسم، وتشمل ما جلى عنها أهلها خوفًا من أهل الإسلام، وتشمل ما صولحوا عليها على أنها لنا يبقون فيها ويدفعون الخراج، هذه الأراضي تسمى الأراضي الخراجية.
وهي المرادة بقوله هنا: ((ويجتمع العشر والخراج في أرض خراجية))، فالأرض الخراجية هي ما فتح عنوةً ولم تقسم، وما جلا عنها أهلها خوفًا منها، وما صولحوا عليها على أنها لنا نقرهم فيها مع أخذ الخراج عليهم، فإذا كانت الأرض خراجية، ونتج فيها حبوب أو ثمار، فإنه يجتمع في هذه الأرض العشر أي ما وجب في الزكاة، وما وجب في الخراج، لكن لا زكاة في قدر الخراج بمعنى أنه إذا كانت هذه الأراضي عليها خراج مائة صاع، فإنه في الزكاة يستثنى زكاة مائة صاع، فلا يزكى ما يؤخذ في الخراج، لأنه خارج إلى بيت المال، ولا ملك لهم عليه.
ومن شروط وجوب الزكاة في المال، هو الملك، ((ولا زكاة في قدر الخراج إن لم يكن له مال آخر)) ، لأن هذا من مؤنة الأرض كنفقة زرعه.
زكاة العسل:
((وإن أخذ من ملكه)) إن أخذ الرجل أو الإنسان ((من ملكه أو مواتٍ كرؤوس الجبال من العسل))هذا انتقال إلى ثاني أنواع الخارج من الأرض الذي تجب فيه الزكاة، وهو العسل، فإذا أخذ ((من ملكه أو مواتٍ كرؤوس الجبال من العسل مائة وستين رطلًا عراقيًا: ففيه عشره))، هذا هو المذهب.
واستدلوا لذلك: بحديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ بعشور نحل له، وكان قد سأل النبي ﷺ أن يحمي له واديًا، فحمى النبي ﷺ له ذلك الوادي، فلما ولي عمر رضي الله عنه فكتب الوالي لعمر يسأله عن زكاة ذلك الوادي، «فَكَتبَ عمرُ، إن أدَّى إلي ما كانَ يؤدَّى إلى رسولِ اللَّهِ مِن عُشورِ نحلِهِ فاحمِ لَهُ سلبَه ذلِكَ، وإلَّا فإنَّما هوَ ذُبابُ غَيثٍ يأكلُهُ من شاءَ»[سنن أبي داود(1600)، وصحح إسناده الألباني في إرواء الغليل(810)] يعني فلا حق له فيه، فلا يحمى له، وفي رواية أنه ﷺ أخذ من العسل العشر، وهذا هو المذهب استنادًا إلى هذا الحديث، وهو من مفردات المذهب، إذ إنه قد خالف في ذلك الأئمة الثلاثة، ولم ينقل عن الإمام أحمد رواية غير هذه الرواية وهي أن في العسل العشر، سواء أخذ من موات أو من ملك، فهي رواية واحدة.
وأما النصاب، فنصاب العسل، أي: القدر الذي تجب فيه الزكاة مائة وستون رطلًا عراقيًّا هذا هو النصاب، ومائة وستون رطلًا عراقيًّا بحسابها في الكيلوجرامات، قريب من اثنين وستين كيلو، واحد وستين كيلو ومائتين جرام تقريبًا، وإنما قدر النصاب بهذا القدر لما جاء عن عمر -رضي الله تعالى عنه- أنه لما أتاه أهل اليمن يسألونه عن زكاة وادٍ فيه نحل في جهاتهم فقال: فإن عليكم في كل عشرة أفارق فرقًا يعني العشر، وهذا تقدير من عمر رضي الله تعالى عنه، وهو له سنة متبعة.
وأما تقدير هذا بمائة وستين رطلًا، فهذا مبني على حساب الفَرْق، فالفرق مكيال معروف في المدينة ضخم، وهو في الأصل من مكاييل أهل العراق، وقد تكلم الفقهاء في قدر الرطل وما إلى ذلك، والتقدير الذي ذكرناه تقدير بعض أهل العلم وهو واضح، قريب من واحد وستين كيلو ومائة غرام.
والفرق فيه وجهان: بالتسكين، وفيه وجه بالفتح، فالأمر في هذا واسع.
قال: ((ولا زكاة فيما ينزل من السماء على الشجر، كالمن والترنجبيل)).
أي لا تجب الزكاة فيما ينزل من السماء على الشجر، كالمن والترنجبيل، المن كل طل ينزل من السماء على شجر أو حجر يحلو وينعقد عسلًا، ويجف جفاف الصمغ.
والترنجبيل أو الترنجيل نوع من المن، هذا لا زكاة فيه لعدم النص، هذا هو المذهب وهو ظاهر كلام كثير من أهل العلم.
وقيل: تجب فيه الزكاة كالعسل، والأقرب عدم وجوب الزكاة فيه لعدم الدليل والقياس على العسل محل نظر؛ لأن العسل مختلف فيه من حيث الأصل هل تجب فيه زكاة أو لا؟
قال المؤلف: ((وإن زكى ما ذكر من المعشرات مرة، فلا زكاة عليه بعد؛ لأنه غير مرصد للنماء)) هذا إشارة إلى أنه لا يجب تكرار الزكاة في هذه المعشرات، فلا زكاة فيها إلا عند حصدها لقوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾[الأنعام: 141] فلا حق فيه بعد الحصاد، فلا تتكرر زكاة المعشرات، ولو بقيت أحوالًا سواء في الحبوب أو الثمار أو العسل.
بعد أن فرغ من بيان القدر الواجب، ذكر وقت وجوب الزكاة، فقال: وإذا اشتد الحَب هذا في الحبوب، وبدا صلاح الثمر هذا في الثمار، وجبت الزكاة، واشتداد الحب هو أن يقوى ويصلب، وإذا اشتد انتفع الناس فيه بالأكل والاقتيات، فاشتداد الحب علامة صلاحه.
وأما الثمر فأنيط الحكم ببدو صلاحه أي ظهوره، وبدو الصلاح علامة على ظهور نضجه، وطيب أكله، فإذا اشتد الحب وبدا صلاح الثمر وجبت الزكاة، وتصرفه فيه بعد ذلك لا يلغي وجوب الزكاة.
ولذلك قال: ((فلو باع الحب أو الثمرة أو تلفا بتعديه بعد لم تسقط))، يعني بفعل ما لا يجوز بعده أي: بعد صلاح الثمرة لم تسقط، أي: بعد بدو صلاح الثمرة لم تسقط الزكاة.
قال: ((وإن قطعهما))، أي: الحبوب أو الثمار ((أو باعهما قبله))، أي: قبل بدو الصلاح، ((فلا زكاة إن لم يقصد الفرار منها))، لا تلزمه الزكاة في هذه الحال إلا أن يقصد الفرار منها، فإنه إن قصد فرار من الزكاة أثم ولزمته، وذلك أن الزكاة ثبتت في حقه، ففراره لا يفيده لكون الواجب قد انعقد سببه.
وقوله –رحمه الله-: ((ولا يستقر الوجوب إلا بجعلها في البيدر ونحوه، وهو موضع تشميسها وتيبيسها؛ لأنه قبل ذلك في حكم ما لم تثبت اليد عليه)).
أي: لا يستقر وجوب الزكاة في الحبوب والثمار قبل حيازتها على نحو يثبت به تملكها.
ولذلك قالوا: لا يستقر وجوب الزكاة إلا بجعلها في الجرين أو البيدر، والمقصود المحل الذي تجمع فيه الثمار والحبوب، ليتكامل جفافها وطيبها.
والدليل على ذلك: قوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾[الأنعام: 141] فإنه جرت العادة في أنه يوم الحصاد يوضع في البيادر وأماكن الحفظ، فإذا تلفت بعد بدو الصلاح واشتداد الحب، وقبل جعلها في البيدر تسقط ما لم يكن ذلك بتعد منه أو تفريط، فإنها لا تسقط حينئذ.
وعلى هذا تكون الأحوال ثلاثة، يستقر الوجوب بجعلها في البيدر، فيما إذا تلفت الحبوب والثمار قبل جعلها في البيدر بغير تعد منه ولا تفريط سقطت؛ والعلة أنها لم تستقر.
الحالة الثانية: إن تلف البعض، فإن كان قبل الوجوب: زكى الباقي إن بلغ نصابًا، وإلا فلا.
أي: وإلا إذا كان تحت النصاب، فلا زكاة.
((وإن كان بعده، زكى الباقي مطلقًا، حيث بلغ مع التالف نصابًا))، يزكي الباقي مطلقًا، لأنه قد بلغ نصابًا مع التالف.
إذًا الأحوال فيما يتعلق بأحوال زكاة الثمار والحبوب إذا تلف ثلاثة:
• الحال الأولى: أن يتلف قبل وجوب الزكاة، فلا يضمنه المالك؛ لفقدان شرط الوجوب.
• الحال الثانية: أن يتلف بعد وجوب الزكاة، وقبل جعله في البيدر، فإن كان بتعد منه أو تفريط ضمن، لأنه أمين وقد فرط، وإلا فلا ضمان.
• الحال الثالثة: أن يتلف بعد وجوب الزكاة، وبعد جعلها في البيدر، فهنا يضمن مطلقًا سواء تعدى أو فرط أو لا، لاستقرار الوجوب في ذمته، فيكون كالدين عليه، هذا إذا تلف جميعها.
وأما إذا تلف بعضها، فإن التالف تسقط زكاته، ويزكي الباقي إن بلغ نصابًا.
أما إن تلف البعض بعد الوجوب زكى الباقي مطلقًا، حيث بلغ مع التالف نصابًا سواء بلغ الباقي وحده نصابًا أو لم يبلغ.
تقدم أن وجوب الزكاة في الحبوب والثمار يثبت إذا اشتد الحب وبدا الصلاح، وهذا المذهب، وقال به جماعة من أهل العلم.
القول الثاني: أنه لا يجب إلا إذا حصد، تجب الزكاة الحب يوم الحصاد، والفرق بين القولين: أنه لو تصرف في الحب أو الثمر قبل الوجوب لا شيء عليه، كما لو أكل السائمة أو باعها قبل الحول، وإن تصرف فيها بعد الوجوب لم تسقط الزكاة كما لو فعل ذلك في السائمة، إلا أن يكون فعل هذا التصرف فرارًا من الزكاة.
المهم أن في المسألة قولان من حيث وقت الوجوب.
الذي قرره المؤلف أن وقت وجوب الزكاة اشتداد الحب وبدو الصلاح، والذي ذهب إليه بعض أهل العلم أنه إنما تجب الزكاة يوم الحصاد والجذاذ؛ للآية في قوله تعالى: ﴿وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ﴾[الأنعام: 141].
والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه لا تعارض بين الآية وبين القول بوجوب الزكاة بعد بدو الصلاح، لأن ذلك بيان وقت وجوب الأداة.
وأما تعليقه ببدو الصلاح لأنه وقت طيب الثمرة الذي تجنى فيه وتحصل.
قوله –رحمه الله-: ((ويلزم إخراج حب مصفى وثمر يابسًا)) أي: يجب إخراج الزكاة على هذا النحو في الحبوب والثمار، فيخرج الحب مصفى يعني من الشوائب والقشور ونحوها، والثمر بعد الجفاف، والأصل فيه ما أخرجه أصحاب السنن من حديث عتاب -رضي الله تعالى عنه- أنه أمر أن يخرص العنب زبيبًا كما يخرص النخل تمرًا. [أخرجه أبو داود في سننه(1603) بسند صحيح]
وجه الدلالة في الحديث: أنه قال: أمر النبي ﷺ أن يخرص العنب زبيبًا، ولا يسمى زبيبًا إلا اليابس.
وكذلك قوله: كما تؤخذ زكاة النخل تمرًا، لا يسمى تمرًا إلا ما يبس، وهي حال اكتمال الثمرة، فلو أخرج حبَّا في سنبله أو رُطبًا أو عنبًا لم يجزئه، ويكون نفلًا لا عن زكاة الواجبة، لأمره ﷺ عتاب أن يخرص العنب زبيبًا كما يخلص النخل تمرًا.
قوله –رحمه الله-: ((ويحرم شراء زكاته أو صدقته))، ولا يصح أي لا يجوز أن يشتري الإنسان زكاة ماله إذا أخرجها، وكذلك لا يصح أن يشتري ما تصدق به، لأنه نوع من العود المذموم هذا من جهة التعليل، وقد جاء في ذلك النص عنه ﷺ، ففي الصحيح من حديث عمر رضي الله عنه أنه تصدق بفرس في سبيل الله، فوجده يباع، فأراد أن يشتريه، فأتى النبي ﷺ يستأمره، أي: يطلب أمره في ذلك فقال: «لَا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ»[صحيح البخاري(1489)، ومسلم(4 - (1621))] مع أنه أراد أن يشتريه.
وجاء في الحديث «ولا تعد في صدقتك؛ ولو أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ»[صحيح البخاري(1490)، ومسلم(1620)] يعني ولو باعه بأبخس ما يكون من ثمن، وهذا ظاهر العلة.
ولو جرى بيع وشراء، فإنه لا يصح؛ لحديث «لَا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ»، ولا أنه يفضي إلى العود المذموم الذي وصفه النبي ﷺ بقوله: «العائدُ في هِبَتِه كالكَلْبِ يَقيءُ، ثم يعودُ في قَيْئِه»[صحيح البخاري(2589)، ومسلم(8 - (1622)] هذا المذهب، وهو الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب.
وعن الإمام أحمد رواية أن الشراء مكروه، وليس محرمًا.
وقيل: إنه لا يشتريه إلا لضرورة هذه الرواية الثالثة.
والرواية الرابعة: أنه يجوز شراؤها لو ورثها يعني انتقلت عن ملك من تصدق عليه، والأظهر والله أعلم من هذه الأقوال تحريم الشراء، لنهي النبي ﷺ عمر عن العود في صدقته، وهذا يشمل الصدقة الواجبة والمستحبة، زكاة الفرض والتطوع.
قال: ((ويزكي كل نوع على حدته)) هذا بيان أنه يجب أن يزكي المتنوع من ثمار وزروع، كل نوع على حدته، فيخرج عن الجيد جيدًا منه، ومن غيره غيره، ولا يجزئ عنه رديء، ولا يلزم بإخراج جيد عن رديء، بل يزكي كل نوع على حدته، فيؤخذ العشر من كل نوع على حدته، إذا كان ما يؤخذ منه العشر جيدًا ورديئَا، لقوله تعالى: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ﴾[البقرة: 267]، فلا يؤخذ الرديء عن الجيد، ولا يلزم أخذ الجيد عن الرديء، وهذا مقيد بألا يشق عليه، فإن شق عليه جاز أن يأخذ من نوع عن الجميع.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد.
تقدم في أول هذا الباب أن المصنف –رحمه الله-ترجم له بباب زكاة الحبوب والثمار.
ولذلك كان أكثر حديثه في هذا الباب عن زكاة الحبوب والثمار، وهذا سبب الترجمة بهذين مع أنه ضمن الباب جملة من زكاة أصناف من الخارج من الأرض غير الحبوب والثمار، كالمعدن والعسل والركاز، فالركاز يشبه الثمار والحبوب والمعدن، والركاز خارجان من الأرض، وقد تقدم تقرير المؤلف –رحمه الله-لما يجب فيه الزكاة من الحبوب والثمار، وما يشترط لذلك من بلوغ النصاب.
وفي هذا الفصل انتقل المؤلف –رحمه الله-إلى ذكر ما يجب في زكاة الحبوب والثمار، وبقية أصناف الخارج من الأرض، وبدأ بزكاة الحبوب والثمار فقال: ((يجب عُشر فيما سقي بلا مؤنة))، والمقصود به فيما سقي من الأشجار والزروع التي يجب عنها حبوب وثمار.
فقوله: ((يجب عُشر)) ثم قال: ((وهو واحد من عشرة))، هذا بيان لمعنى العشر، وأنه واحد من عشرة، فالواجب صاع في كل عشرة أصواع، فيما سقي بلا مؤنة، أي بلا كلفة، ولا عناء، ومثل لما يسقى بلا مؤنة قال:(( كالغيث، والسيوح، والبعلي الشارب بعروقه)).
أي: كالحبوب والثمار التي نتجت عن الغيث، والسيوح جمع سيح، وهو الماء الجاري على وجه الأرض كالأنهار، والسواقي، ونحوها.
والبعلي الشارب بعروقه، هو الذي يغرس في أرض ماؤها قريب سطحي على وجه الأرض، فتصل عروق الشجر إليه، وتستغني به عن أن تسقى هذا الصنف من الأشجار والزروع يجب فيه العشر.
والأصل في حديث ابن عمر -رضي الله تعالى عنه- كما في الصحيحين، وكذلك في حديث جابر «فيما سقَتِ السَّماءُ والأنهارُ والعيونُ أو ما كان عَثَريًّا»[صحيح البخاري(1483)] والعثري هو ما يشرب من غير سقي، إما بعروقه، أو بواسطة الأمطار والسيول والأنهار ونحو ذلك، فهذا لا يحتاج إلى سقي.
ويسمى البعل فيما إذا شرب بعروقه، ويسمى عثريًا فيما إذا سقته السماء بالأمطار، فالعثري ما سقي بالغيث، والبعلي ما سقي بامتداد عروقه، فهذا كله يجب فيه العشر، وزكاة الخارج من الأرض يختلف قدرها باختلاف أحوالها في السقي والمؤنة، ويمكن تقسيم ذلك حسب ما ذكر الشارح والماتن إلى خمسة أقسام.
القسم الأول: ما يجب فيه العشر، وهو ما تقدم، وبدأ به فقال: يجب عشر فيما سقي بلا مؤنة، والبداءة به إما لكونه الأكثر في ذلك الزمان، وإما لكون النعمة فيه ظاهرة، والقدر الواجب فيه أكثر، فلذلك قدمه لظهور النعمة فيه، إذ إنه خرج من غير عناء ولا مشقة، ولا كلفة، هذا القسم الأول.
والقسم الثاني: مما يتعلق بزكاة الحبوب والثمار ما يجب فيه نصف العشر.
وأشار إليه بقوله: ((ويجب نصفه أي: نصف العشر معها، أي: مع المؤنة))، أي: إذا صاحبها مشقة ومؤنة وعمل، ((كالدولاب تديره البقر والنواضح يستقى عليها ))، والنواضح جمع ناضح، والمقصود به البعير والناقة يستقى عليه.
والدليل فيه: ما تقدم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه حيث قال: «وما سُقِيَ بالنَّضْحِ نِصْفُ العُشْرِ»[صحيح البخاري(1483)]، وذكر النضح إما لكونه الأشهر في المدينة، وإما لكونه الأكثر في العموم، في المدينة وفي غيرها.
والمقصود ما كان فيه عمل لسقيه وكلفه هذا هو القسم الثاني من أقسام زكاة الحبوب والثمار.
القسم الثالث باعتبار اختلاف قدر الواجب: ما يجب فيه ثلاثة أرباع العشر، وهو أشار إليه بقوله: ((ويجب ثلاثة أرباعه أي أرباع العشر بهما)) أي: ثلاثة أرباع العشر بهما أي: فيما يشرب بلا مؤنة وبمؤنة نصفين.
فما يشرب بكلفه نصف المدة، وبغير كلفه النصف الآخر، فهذا فيه ثلاثة أرباع العشر اعتبارًا بالحالين؛ لأن كل واحد منهما لو وجد في جميع السنة، لأوجب مقتضاه فلو وجد السقي في جميع السنة لوجب نصف العشر، ولو وجد في جميع السنة عدم السقي، لوجب العشر، فإذا وجد نصفه بسقي، ونصفه بلا سقي وجب ثلاثة أرباع.
والحال الرابعة: حال التفاوت بأن يتفاوت في السقي بمؤنة وبغيرها، فلا يكون نصفين، إنما يكون على حال غير مناصفة، فهنا يعتبر الأكثر نفعًا ونموًّا، وهذا ما ذكره المؤلف في قوله: ((فإن تفاوتا أي السقي بمؤنة وبغيرها فـالاعتبار بأكثرهما نفعا ونموا)) ، والحجة قال: ((لأن اعتبار عدد السقي وما يسقى به في كل حال مشقة)) أي: تترتب عليه مشقة، ((فاعتبر الأكثر كالسوم))، اعتبر حال الأكثر كما هو الشأن في السوم.
قوله –رحمه الله-: ((ومع الجهل بأكثرهما نفعًا العشر)) هذه هي الحال الخامسة، وهو أن يتفاوت السقي بمؤنة وبغيرها، لكن يجهل أكثرهما نفعًا، فهنا قال: يجب العشر.
قال: ومع الجهل بأكثرهما نفعًا العشر أي: يجب العشر.
والتعليق: قال:(( ليخرج من عهدة الواجب بيقين)).
ثم ذكر –رحمه الله-أثر تعدد الملك وتفرقه على زكاة الحبوب والثمار.
فقال: ((وإن كان له حائطان)) أي: بستانان ((أحدهما يسقى بمؤنة، والآخر بغيرها ضم في النصاب)) يعني يجمعان إلى بعضهما في تكميل النصاب؛ لأنه مال واحد.
وأما بالنظر إلى قدر ما يجب في كل حائط قال: ((ولكل منهما حكم نفسه في سقي بمؤنة أو غيرها))، فيجتمعان في تكميل النصاب، لكن لا يؤثر بعضهما على بعض في قدر الواجب على كل حال، فمن له بستانان ضم ثمارهما وزروعهما بعضهما إلى بعض، مع اتحاد الجنس والعام، إذا كان في نفس العام في تكميل النصاب، لكن فيما يتعلق بالقدر الواجب، لكل منهما حكم نفسه في سقي بمؤنة أو بغيرها، فيخرج مما يشرب بمؤنة نصف العشر، ومما يشرب بغير مؤنة العشر.
قوله –رحمه الله-: ((ويصدق مالك فيما سقى به)) يعني العلم بحال السقي في أي حال من هذه الأحوال أيسقى بمؤنة أو بدون مؤنة، وبقية ما تقدم من الأحوال يصدق قول المالك في ذلك، ولا يحتاج في هذا إلى يمين؛ لأن الناس لا يستحلفون على صدقاتهم، فهي حق لله تعالى خالص، فلا يستحلف فيها كالصلاة ونحوها.
ثم قال –رحمه الله-: ((والمعدن إن كان ذهبا أو فضة ففيه ربع عشره إن بلغ نصابا))، وسيأتي.
((وإن كان غيرهما)) فالمعدن ينقسم إلى قسمين؛ ذهب، وفضة، وهذا مخصوص بباب مستقل يأتي بيان أحكامه، والثاني غير الذهب والفضة.
قال: ((ففيه ربع عشر قيمته إذا بلغ نصابًا بعد سبكٍ وتصفيةٍ، إن كان المخرج له من أهل وجوب الزكاة)).
هذا بيان لزكاة المعدن، فمن استخرج من الأرض معدنًا من أي جنس كان، فإنه تجب فيه الزكاة، وذكروا قاعدة، قالوا: كل متولد في الأرض لا من جنسها، هذا ضابط المعدن إلا الذهب والفضة، كل متولد في الأرض لا من جنسها، فهذا يجب فيه ربع العشر.
واستدلوا لذلك بعموم: ﴿أَنفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ﴾[البقرة: 267]، وكذلك استدلوا أن النبي ﷺ أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية وهي من ناحية الفرع، فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم، فدل ذلك على وجوب الزكاة في المعادن، والزكاة في المعادن تجب على الفور.
وأما تقديره بربع العشر، فلأنه قريب من الذهب والفضة، فأخذ حكمهما في قدر الواجب.
قال: ((والركاز ما وجد من دِفن الجاهلية))، بكسر الدال أي: ((مدفونهم)) وهذا هو خامس ما تجب فيه الزكاة من الخارج من الأرض، وهو الركاز وهو ما وجد من دفن الجاهلية يعني من مدفون الجاهلية، ويعرف ذلك بوجود علامة عليه تدل على كفر أصحابه إما صلبان أو غيرها، فهذا فيه الخمس في قليله وكثيره، لعموم قول النبي ﷺ: «وفي الرِّكازِ الخُمُسُ»[صحيح البخاري(1499)، ومسلم(45 - (1710)]، لكن يتميز الركاز بأنه ((يصرف مصرف الفيء المطلق للمصالح كلها))، هذا الخمس يصرف في المصالح كلها دون تقييد، وباقيه لصاحبه، ولا فرق في ذلك بين أن يجد قليلًا أو يجد كثيرًا.
ودليل أنه يصرف في مصرف مختلف عن مصارف الزكاة قوله تعالى: ﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾[الحشر: 7].
قوله –رحمه الله-: ((وباقيه لواجده ولو أجيرًا لغير طلبه)) أي: من وجد ركازًا فهو له، بعد إخراج ما وجب عليه فيه من الخمس.
قال: ((ولو أجيرًا)) يعني ولو كان الواجد له أجيرًا ((لغير طلبه))، يعني لو استئجر ليحفر بئرًا فوجد في طريق حفره ركازًا، فإنه له.
ولا يقال: إنه لمن استأجره للحفر، فالركاز لواجده ولو كان الواجد غير مالك للأرض.
قال: ((وإن كان على شيء منه علامة المسلمين فلقطة، وكذا: إن لم تكن علامة)).
فالركاز إما أن توجد فيه علامة كفار، فهو ركاز فيه الخمس، وإما أن توجد فيه علامة المسلمين فهو لقطة،
وإما ألا توجد علامة تدل على الكفر ولا على الإسلام، فهذا لقطة تغليبًا لحكم الدار، وهي دار الإسلام، فإذا وجد في دار الكفار كان ركاز تغليبًا لحكم الدار، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد.