تجريد التوحيد المفيد

من 2017-12-30 وحتى 2020-01-15
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 1404

التاريخ : 2018-03-12 09:54:51


"فليتدبر العاقل هذا، وليعلم أن إجابة الله لسؤال بعض السائلين ليست لكرامته عليه، بل قد يسأله عبده الحاجة فيقضيها له وفيها هلاكه، ويكون منعه حمايةً له وصيانة، والمعصوم من عصمه الله. والإنسان على نفسه بصيرة.

وعلامة هذا أنك ترى من صانه الله من ذلك وهو يجهل حقيقة الأمر إذا رآه -سبحانه وتعالى - يقضي حوائج غيره يسيء ظنه به تعالى، وقلبه محشوٌّ بذلك وهو لا يشعر، وأمارة ذلك حمله على الأقدار وعتابه في الباطن لها، ولقد كشف الله تعالى هذا المعنى غاية الكشف في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا﴾[الفجر:15-17]، أي: ليس كل من أعطيته ونعَّمته وخوَّلته فقد أكرمته، وما ذاك لكرامته عليَّ، ولكنه ابتلاءٌ مني وامتحانٌ له، أيشكرني فأعطيه فوق ذلك، أم يكفرني فأَسْلِبَه إياه وأحولِّه عنه لغيره، وليس كل من ابتليته فضيَّقت عليه رزقه وجعلته بقدرٍ لا يفضل عنه فذاك من هوانه عليَّ، ولكنه ابتلاءٌ وامتحانٌ له مني، أيصبر فأعطيه أضعاف ما فاته، أم يتسخَّط فيكون حظه من السخط.

وبالجملة، فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره، فإنه يوسِّع على الكافر لا لكرامته، ويُقَتِّر على المؤمن لا لهوانه عليه، وإنما يُكْرِم – سبحانه - من يكرم من عباده بأن يوفقه لمعرفته ومحبته وعبادته واستعانته".

هذا المقطع صلة القسم المتقدم وتفصيل وبسط؛ لتقر أنفس أهل الإيمان فيما يُجريه الله - عزَّ وجلَّ - من الأقضية والأقدار؛ فإن المؤمن إذا علم أن الله تعالى لا يفعل شيئًا إلا لحكمة، وأنه - سبحانه وبحمده - يعطي لحكمة، ويمنع لحكمة، ويعطي لرحمة، ويمنع لرحمة - جلَّ في علاه -؛ فإن ذلك يشرح صدره لكل ما يفعله الله تعالى به، ويعلم أنه - جلَّ في علاه - رحيمٌ به، وأنه - سبحانه وبحمده - ربه الذي ساق إليه النعم وتولاه بالأفضال والإحسان قبل أن يسأل، وقبل أن يحقق العبودية له - جلَّ في علاه -، فأنت في رَحِم أمك من ساق لك الأرزاق؟ من كَمَّلك فأحسن خلقك؟ من أخرجك سليمًا إلى هذه الدنيا؟ وقد قال - جلَّ في علاه - في وصف الخارج من الأرحام: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ [النحل:78]، ثم كمَّلك بالآلات سمعًا وبصرًا وقوةً وإدراكًا، ودرَّجك في ذلك، حتى هداك إلى العلم، والمعرفة، والبصيرة، أليس هذا جديرًا بأن تحمده، وأن تذكر إنعامه وإحسانه، وأن توقن أنه الرحمن الرحيم الذي لا يفعل بك إلا ما من مقتضى رحمته - جلَّ في علاه -، وإن بدا لك أنه مكروه، فربما صحت الأجساد بالعلل، وكم من رحمةٍ في بلاء، وكم من مِنْحَةٍ في مِحْنَة؟!

  

لذلك قَرَّ بما يُجريه الله تعالى عليك من الأقضية والأقدار، وكُنْ مُنْشَرِح الصدر، وَهَمُّك في أن تكون عبدًا لله في الصِحة والمرض، في الغِنى والفقر، في القوة والضعف، في الشباب والهَرَم، في الحِلِّ والسفر، في كل أحوالك، ليكن همك كيف ترضي ربك، كيف تحقق ما أمرك الله تعالى به في هذه الحال، فالأحوال تتقلب، يومٌ غنى ويومٌ فقر، يومٌ سرور ويومٌ حزن، يومٌ قوة ويومٌ ضعف، والراشد ليس من كان في حالٍ عابدًا وفي الأخرى جاحدًا، إنما الراشد الفائز فيمن حقق العبودية لله في كل أحواله، وفي كل منازله وفي كل ما يُجْرِيه الله تعالى عليه؛ يقول الله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ﴾[الأنبياء:35] لماذا؟ ﴿فِتْنَةً﴾[الأنبياء:35]: اختبارًا.

الشر، الضيق، القلة، المرض، وما إلى ذلك من الآفات التي يكرهها الناس، والخير، السعة، الغنى، الرخاء، الصحة، وما إلى ذلك من ألوان النِّعم التي يُنْعِم الله تعالى بها عليك، فكُن عبدًا لله في ذلك كله، واعلم أن ما يُجْرِيه الله تعالى ليس دلالةً على إكرام ولا على إهانة، إنما الإكرام في الطاعة والإهانة في المعصية ليس سِوَى ذلك، فكم من غني فتح الله تعالى عليه فاستعمل ماله في طاعة الله؛ فكان من الفائزين، «نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلعَبْدِ الصَّالِحِ» أخرجه البخاري في الأدب المفرد (299)، وصححه ابن حبان (3210) وكم من ذي فقر ليس معه ما يُغْرِيه ولكنه جاحدٌ مستكبر؛ فلا ينظر الله تعالى إليه، والعكس كذلك، كم من غني أطغاه غناه فقال: هذا لي، وهذا كدُّ آبائي وجُهْدُ يدي، فأنكر نعمة الله عليه؛ فكان كقارون خسف الله تعالى به وبماله الأرض، وكم من فقيرٍ حقق العبودية لله - عزَّ وجلَّ - ورضي بما أجراه الله تعالى عليه من قلة ذات اليد؛ فكان طائعًا لله - عزَّ وجلَّ - مع قلة ذات يده، راضيًا بما قسمه الله تعالى له، وقد نبَّه الله تعالى إلى هذا المعنى، من أن العطاء لا يدل على الإنعام والرضا، وأن التقطير والتضييق والقدر لا يدل على عدم المنزلة، وعدم المكانة، ونزول المرتبة عند الله - عزَّ وجلَّ -، فقال: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ﴾[الفجر:15]، ابتلاه: اختبره. ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ﴾[الفجر:15]، استدل بالعطاء على الإكرام، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾[الفجر:16]، قَدَر؛ أي: ضيَّق، ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ﴾[الفجر:16]، فماذا جاء بعد ذلك؟ قال الله تعالى: ﴿كَلَّا﴾[الفجر:17]، ليس الأمر كذلك، ليس العطاء للإكرام ولا المنع للإهانة، إنما العطاء والمنع ابتلاء؛ ولذلك قال: ﴿فَأَمَّا الإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ﴾[الفجر:15]، ﴿وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ﴾[الفجر:16]، ففي كلا الحالين الإنسان مبتلى، والفائز من حقق الطاعة في الغنى والفقر.

ولذلك يقول المؤلف - رحمه الله - بعد ما ذكر: "وبالجملة" أي؛ اختصار ما تقدَّم من تفصيل وبيان "فأخبر تعالى أن الإكرام والإهانة لا يدوران على المال وسعة الرزق وتقديره" - يعني: وتضييقه -، "فإنه سبحانه يوسِّع على الكافر لا لكرامته، ويُقَتِّر على المؤمن لا لهوانه، وإنما يُكْرِم سبحانه من يُكْرِم من عباده بأن يوفِّقه لمعرفته، ومحبته، وعبادته، واستعانته"؛ هذه الكرامة في تحقيق العبودية لله - عزَّ وجلَّ -، الكرامة في أن تكون عبدًا لله - عزَّ وجلَّ - في أحوالك كلها، في العطاء والمنع، وفي الصحة والغنى، وأما ما يكون من انفتاح الدنيا فهذا ليس كرامة، بل الله - عزَّ وجلَّ - يقول:  ﴿وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفًا﴾ [الزخرف:33-35]، يعني: أعطى لهم كل هذا الذي ذكره - جلَّ وعلا - من أوجه النعيم الظاهر، ثم بعد أن ذكر ما ذكر: ﴿وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾[الزخرف:35]، ما كل ذلك حقيقته إلا أنه متاع الحياة الدنيا، ﴿وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الزخرف:35].

أسأل الله أن يجعلني وإياكم منهم الذين قال فيهم: «أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ» أخرجه البخاري (3244)، ومسلم (2824) .

فينبغي أن يكون العبد على هذا اليقين، وعلى هذا الإدراك، أن عطاء الله - عزَّ وجلَّ - ومنعه ابتلاءٌ واختبار، فكن لله عبدًا في العطاء، وكن له عبدًا في المنع، وكن له عبدًا في الصحة والفقر، وفي كل أحوالك، وانشرح صدرًا بما يُجْرِيه الله تعالى عليك.

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق