تجريد التوحيد المفيد

من 2017-12-30 وحتى 2020-01-15
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 1673

التاريخ : 2018-03-12 10:38:08


"ثم أهل مقام: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5]، لهم في أفضل العبادة وأنفعها وأحقها بالإيثار والتخصيص أربعة طرق، وهم في ذلك أربعة أصناف:

الصِنف الأول: عندهم أنفع العبادات وأفضلها: أشقها على النفوس وأصعبها، قالوا: لأنه أبعد الأشياء من هواها، وهو حقيقة التعبُّد، والأجر على قدر المشقة، ورووا حديثًا ليس له أصل: «أفضل الأعمال أَحْمَزُهَا»، أي: أصعبها وأشقها، وهؤلاء هم أرباب المجاهَدات والجَوْر على النفوس، قالوا: وإنما تستقيم النفوس بذلك؛ إذ طبعها الكسل والمهانة والإخلاد إلى الراحة، فلا تستقيم إلا بركوب الأهوال وتحمل المشاق".

هذا هو القسم الأول من أقسام الناس فيما يتعلق بأنفع العبادات وأحقها بالتقديم، فهؤلاء حققوا العبادة لله - عزَّ وجلَّ -، كل هذه الأصناف حققت العبادة لله - عزَّ وجلَّ -، ولكنها اختلفت وتفاوتت في الهداية إلى أفضل الأعمال التي يستعمل الإنسان نفسه فيها.

  

والبحث هنا - أيها الإخوة - فيما يتعلق بأفضل الأعمال بعد الفرائض؛ فإن الفرائض هي المقدَّمة على كل عمل؛ وذلك أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - فرض الفرائض وأمر بحفظها وعدم تضييعها، وهي أحب ما يُتَقرب بها إليه، جاء ذلك فيما رواه البخاري من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يقول الله -عزَّ وجلَّ-: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ»، ثم قال: «وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» أخرجه البخاري (6502) .

فأحبُّ ما تتقرب به إلى الله - عزَّ وجلَّ - هو ما فرضه عليك، فالواجبات هي أَوْلى وأول ما ينبغي أن يشتغل به الإنسان الراغب في تحقيق العبودية للرحمن، الراغب في أن يحقق: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]؛ فإن العبادة أول ما تكون بالفعل للواجب، ثم بعد ذلك التقرب إلى الله - عزَّ وجلَّ - بالنوافل والمستحبات، وهذه هي المنزلة الثانية؛ ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: «وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ»، يعني بعد الفرائض، «حَتَّى أُحِبَّهُ»، أي: إلى أن يَبْلُغ من تحقيق العبادة في فرضها وواجبها، وفي مستحبها ومندوبها، هذه المنزلة العالية؛ أن يُحِبَّه الله - عزَّ وجلَّ-، «فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ اسْتَعَاننِي لَأُعِيننَّهُ ولَئِن اسْتَنْصَرَنِي لَأَنْصُرَنَّهُ» أخرجه البخاري (6502) .

فما ذكره - رحمه الله - في هذا المقطع من تفاوت الناس، أو من اختلاف الناس، أو تنوُّع طرق الناس في أفضل العبادات وأنفعها وأحقها بالإيثار هو فيما بعد الفرائض، أما فيما يتعلق بالفرائض فهي مقدَّمة على جنس العمل بالمستحبات والمندوبات.

فالخلاف هنا هو: في أي الأعمال أفضل مما يتعلق بالنوافل؟

  

من العلماء ومن العُبَّاد من يقدِّم في العبادات ما كان أشق وأصعب على النفس، وهذا هو الصنف الأول؛ عندهم أنفع العبادات وأفضلها طبعًا وأعظمها أجرًا؛ أشقها على النفوس وأصعبها، لماذا؟

ذكروا في ذلك تعليلًا ودليلًا:

أما التعليل: فقالوا: لأنها أبعد الأشياء مِن هواه؛ أي: من هوى المكلف؛ وهو ما يشتهيه ويحبه، وكلما كان الشيء أبعد عن الهوى كان أقرب إلى الهدى، هذا التعليل الأول.

والتعليل الثاني: أنَّ الأجر على قدر المشقة، أي: الثواب على قدر المشقة.

فذكروا تعليلين.

وأما الاستدلال فهو: تعزيز للتعليل الثاني، حيث قالوا: «أفضل الأعمال أَحْمَزُهَا»   علقه ابن الأثير في النهاية (1/ 440) عن ابن عباس مرفوعًا، وقال المزي: هو من غرائب الأحاديث، ولم يُرْوَ في شيء من الكتب الستة. وقال ابن القيم في المدارج (1/ 106): لا أصل له. وقال الزركشي: لا يُعرف. ينظر: المقاصد الحسنة (138)، والمصنوع في معرفة الحديث الموضوع (33) .

استدلوا بهذا الذي ذكروه حديثًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث قالوا: ورد في الحديث: «أفضل الأعمال»، أي: أعلاها منزلةً وأكثرها فضلًا، «أَحْمَزُهَا»، أي: أشقها وأصعبها.

  

وهذا الحديث الذي ذكروه من غرائب الأحاديث، ولم يُرْوَ في شيءٍ من كتب السُّنَّة، وهو حديثٌ لا أصل له، فلا يصلح الاستدلال به.

وبالتالي؛ ليس ثمَّة ما يُسْتَنَدُ إليه في أنَّ أفضل الأعمال أشقها وأصعبها، وما ذكروه من الدليل والتعليل لا يقوى على التفضيل؛ إذ إن الأدلة دالة على أن هذه الشريعة شريعةٌ سمحاء، وبالتالي الاستدلال بأنَّ الأشق هو الأفضل يتنافى مع روح الشريعة المبنية على اليُسْر والسماحة؛ قال الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾[المائدة:6]، وقال تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة:185].

وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلاَّ غَلَبَهُ»

أخرجه البخاري (39) وقال كما في المسند بإسناٍد جيد: «بُعِثْتُ بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ» أخرجه الإمام أحمد في المسند (22291)، وضعَّفه الهيثمي في المجمع (9441)، إلا أن العجلوني في كشف الخفا (121) قال: رواه أحمد في مسنده بسند حسن عن عائشة أيضًا لكن بلفظ: «إني أرسلت بالحنيفية السمحة» و«الْحَنِيفِيَّةِ»، يعني: التوحيد المجافي للشرك، و«السَّمْحَةِ» يعني: اليسيرة السهلة التي لا مشقة فيها ولا حرج ولا عناء.

كل هذه النصوص لا تلتئم مع هذه التعليلات التي ذكروا، وأما الحديث الذي استندوا إليه فهو ضعيف، ثم لو قُدِّر أنَّ الحديث صحيحٌ فإنه يُحْمَل على معنًى يتفق مع بقية النصوص الدالة على اليسر والسماحة في هذه الشريعة وأن المشقة ليست مقصودة للشارع، ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾[النساء:147].

  

والنصوص كثيرةٌ مستفيضة في تقرير هذا المعنى، وأنَّ الشريعة لا تطلب من المكلفين العسر والمشقة، على العكس بل تطلب منهم تحقيق العبودية على الوجه المتيَسِّر؛ فقد جاء نفي المشقة في أحاديث كثيرة:

ففي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عباس، قَالَ: بَيْنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ، نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلاَ يَقْعُدَ، وَلاَ يَسْتَظِلَّ، وَلاَ يَتَكَلَّمَ، وَيَصُومَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ، وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ» أخرجه البخاري (6704) .

فنهاه النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أمور ألزم بها نفسه، ليس فيها تعبد، وفيها مشقة على النفس غير مقصودةٍ للشارع.

وفي حديث آخر في الصحيحين عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْخًا يُهَادَى بَيْنَ ابْنَيْهِ، قَالَ: «مَا بَالُ هَذَا؟»، قَالُوا: نَذَرَ أَنْ يَمْشِيَ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ»، وَأَمَرَهُ أَنْ يَرْكَبَ أخرجه البخاري (1865)، ومسلم (1642) .

  

يعني: ليس غرض الشارع أن يُحَمِّل الناس مشقةً، بل المشقة منفية شرعًا، وإنما تكون المشقة مأجورًا عليها إذا كانت ملازمةً للعمل لا ينفك عنها العمل، لكن لم يأمرنا الشارع بأن نقصد المشقة، وفَرْقٌ بين الأمين.

أضرب لذلك مثلًا؛ حتى يتضح الفرق:

الصوم في اليوم الصائف الحار شديد الحرارة عِبادة يؤجر عليه الإنسان، ويقال له: أجرك على قدر ما أصابك من المشقة، لكن هل معنى هذا أن يقصد الإنسان الإشقاق على نفسه بأن يتعرض للشمس ويتعرض للحر الذي يزيد من عنائه؟

الجواب: لا، ليس هذا مقصودًا للشارع، إنما العبادة التي تلازمها المشقة يكون الأجر فيها على قدر المشقة، فما كان من شاقٍّ في العمل يؤجر عليه الإنسان، لكن لا يُؤْجَر الإنسان على قَصْد الإشقاق على نفسه، بل يكون كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّ اللَّهَ عَنْ تَعْذِيبِ هَذَا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ»؛ فإن الله تعالى لم يقصد من العبادات أن ينال الناس مشقةٌ وعناءٌ وعُسْر، بل ذلك مما نَفَتْهُ الشريعة.

ففرقٌ بين الأمرين، بين المشقة الملازمة للطاعة، فهذه يؤجر عليها الإنسان؛ الاستيقاظ لصلاة الفجر في الليل الشاتي أليس متعبًا وعسيرًا على كثيرٍ من النفوس أن تهجر وثير الفرش؟

الجواب: نعم، لكن هذه المشقة لا تذهب هباءً، فأجرهم على الله - عزَّ وجلَّ -.

لكن لو أن إنسانًا قال: أريد أن أُكلِّف نفسي مشقةً زائدة؛ لأُوجَر، فلما استيقظ لصلاة الفجر ذهب إلى ماءٍ بارد فصبَّه على نفسه دون حاجةٍ إلى اغتسال، وخرج ليلقى مشقةً زائدة في خروجه، أيؤجر على هذا العمل؟

الجواب: لا؛ لأن هذا من الإشقاق على النفس الذي لا يُتَعَبَّد لله تعالى به؛ ﴿مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ﴾[النساء:147].

وبه يُفْهَم معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في الحج: «أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نفقتك وَنَصَبِك» أخرجه بنحوه مسلم (1211) أي: على قدر ما تبذلينه من المال، وعلى قدر ما تتحمَّلينه من العناء والمشقة، لكن هذا لأن الحج بطبيعته فيه من المشاق والعناء ما يحتاج معه الإنسان إلى أن يُصَبَّر وأن يُذَكَّر بأن ما يلقاه من مشاق في عبادته هو مأجورٌ عليه.

فليس صحيحًا أنَّ أعظم الأعمال أجرًا وأن أفضلها عند الله - عزَّ وجلَّ - الأكثر مشقةً وصعوبةً وعناءً، فليس ثمَّة دليلٌ لا في الكتاب، ولا في السُّنَّة، ولا فيما اجتمعت عليه كلمة الأئمة، أن المشقة مقصودة، بل الشريعة جاءت باليسر.

إذًا هذا هو الصنف الأول، وبيان غلط هذا المسلك.

 

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق