انتهى يوم عرفة، وجاءت ليلة النحر، وليلةُ النحر يبتدئها المؤمن -مَن فتح الله عليه بالحج- بأن يبقى برهةً من الوقت في عرفة، إلى أن تذهب الصفرة، يعني يشتد الظلام؛ فإن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لما جاء عرفة، بعد أن صلى الظهر والعصر بنمرة، ومكث فيها ذاكرًا، داعيًا، مجلًّا لله، مقدسًا له، إلى أن غربت الشمس، مكث قليلًا حتى ذهبت الصفرة، ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه أذن بالرحيل، فارتحل إلى المشعر الحرام، إلى مزدلفة، ومزدلفةُ تسمى المشعر الحرام، وتُسمى جمعًا، وتسمى المزدلفة، كل هذه أسماء لمكان واحد، فمزدلفة هي جَمْع، مزدلفة هي المشعر الحرام.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم من عرفة، وخرج معه ذلك الجمع المبارك، وذلك الرهط الطائع العابد الذليل لله عز وجل، وقد جرت بهم مراكبهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم، يحجز راحلته لئلا تؤذي أحدًا، وكان يقول للناس مشيرًا إليهم بيده: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَلَيْسَ الْبِرُّ بِالإيضَاعِ» أخرجه البخاري (1671)  يكررها صلى الله عليه وسلم، يذكِّر الناس بأن السبق الحقيقي هو في ما حصله الإنسان من الخير، وما نواه من البر، وما كساه الله عز وجل من السكون والطمأنينة في مظهره ومسيره بعد هذا الموقف المبارك، وليس بالإسراع، ليس البر بالإسراع والسبق إلى المشعر الحرام، بل السبق الحقيقي هو في إدراك مقاصد العبادة، إدراك ثمرة الطاعة؛ أن يتزود الإنسان بالتقوى، «ليْسَ البِرُّ بالإيضاعِ» هكذا يذكِّر النبي صلى الله عليه وسلم أن المسابقة التي تقع من بعض الحجاج في الوصول إلى المزدلفة، إلى المشعر الحرام، إلى جمع، ليست هي المقصودة، إنما المقصود بهذا المسير طاعة الله عز وجل، المقصود بهذا المسير أن يكون وفق ما كان عليه سيد ولد آدم صلوات الله وسلامه عليه.

خرج النبي صلى الله عليه وسلم على راحلته، وقد أردف أسامة بن زيد رضي الله تعالى عنه، واحتاج في طريقه إلى أن يقضي حاجته، فدخل شعبًا من الشعاب، فقضى حاجته صلى الله عليه وسلم وتوضأ وضوءًا خفيفًا، قال له أسامة: الصلاة يا رسول؟ يعني عندما رآه يتوضأ قال: الصلاة، كأنه يذكر، أو يستفسر، فقال: «الصَّلاةُ أَمَامَكَ» أخرجه البخاري (139)، ومسلم (1280). يعني الصلاة ستكون بين يديك، فمضى النبي صلى الله عليه وسلم حتى دخل المشعر الحرام؛ حتى دخل مزدلفة.