"وقد بيَّن الله تعالى مُجْمَلات أحكامهما في كتابه، وفصَّل ذلك وبيَّنه رسوله الكريم عليه أفضل صلاةٍ، وأتم تسليمٍ في سنته، وأمر الناس بأن يأخذوا عنه مناسكهم.
وهذه الورقات كلماتٌ مختصراتٌ في بيان مُهمَّات أحكام الحج والعمرة وأعمالهما؛ تفيد الحاج والمعتمر، وتُعينه على معرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في حجه وعمرته.
وقد جعلتها في مباحث ومسائل؛ تسهيلًا، وتقريبًا، فما كان فيها من صوابٍ، فمحض فضل الله وإحسانه، وما كان فيها من قصورٍ أو تقصيرٍ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه بريئان، فلا حول ولا قوة إلا بالله، فنعم المولى ونِعم المعين".
الحج والعمرة قد بيَّنهما الله عز وجل في كتابه بيانًا مجملًا، فأول ما نزل في شأن الحج والعمرة قول الله عز وجل: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ﴾البقرة:196، هذا أول ما نزل من آيات القرآن في شأن الحج والعمرة، وذاك في السنة السادسة من الهجرة؛ حيث أمر الله تعالى رسوله -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين بإتمام الحج والعمرة، وإتمامهما هو الإتيان بهما على وجهٍ كاملٍ لا نقص فيه، على وجهٍ لا خلل فيه؛ فإن الأمر بإتمام الحج والعمرة مما دل عليه كتاب الله -عز وجل- بالنص، لكن تفصيل ذلك لم يكن في القرآن، بل جاء في هدي سيد الأنام -صلوات الله وسلامه عليه-؛ فإن في السنة من بيان هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحج والعمرة ما هو بيانٌ وتفصيلٌ لِمَا أمر الله تعالى به من إتمام الحج في قوله: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ البقرة:196، ولهذا أشار المؤلف -رحمه الله- إلى أن الحج والعمرة جاء ذكرهما إجمالًا في كلام الله عز وجل؛ وأما تفصيلًا من حيث الأعمال والأحكام والهدي فقد جاء في سنة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
ولكون السنة هي المفصلة للقرآن، المبينة لمجملاته، الموضحة لِمَا ذكره الله تعالى فيه على وجه غير مفصل؛ كان النبي -صلى الله عليه وسلم- حريصًا على أن يتلقى عنه الناس الهدي في نسكه، فكان -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يُؤكِّد في مواقفه في حجة الوداع وجوب الأخذ عنه -صلى الله عليه وسلم- فيما يتعلق بأعمال الحج والعمرة، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لِتَأْخُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ حَجَّتِي هَذِهِ» أخرجه مسلم (1297) ؛ ولذلك سُميت حجة الوداع، وفي رواية النسائي في السنن الصغرى (3062) قال -صلى الله عليه وسلم-: «خُذُوا مَنَاسِكَكُمْ، فَإِنِّي لَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ عَامِي هَذَا».
فالنبي -صلى الله عليه وسلم- بيَّن المناسك للناس بيانًا مفصَّلًا موضحًا حتى في أدق ما يكون؛ في صفة الحصى الذي يُرمى به بيَّنه صلى الله عليه وسلم، فلما التقط الملتقط له الحصى رفعه -صلى الله عليه وسلم-، وقال: «بِمِثْلِ هَذِه فَارْمُوا، إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ؛ فَإِنَّهُ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ الْغُلُوُّ فِي الدِّينِ» رواه أحمد (1851)، والنسائي (3057)، وصححه ابن خزيمة (2867)، وابن حبان (3871) .
وبهذا يتبين أن المرجع في معرفة تفاصيل أحكام الحج والعمرة هو هدي النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فإن هديه هو المبيِّن، وهذا ما أمر الله تعالى به إجمالًا في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ﴾ الأحزاب:21، وفي قوله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ الحشر:7، وجاء ذلك في خاصة الحج في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لِتَأْخُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» تقدم تخريجه .
ولهذا ينبغي لمن أراد الحج والعمرة أن يعتني بمعرفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- فيهما؛ لأن ذلك مما يفتح للمرء أبواب المعرفة التي يُكمِّل بها عبادته، ويُحقق بها أمر الله -عز وجل- في قوله تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ البقرة:196، فمن قصَّر في ذلك قَصَّر في عمله، وقصر في ثواب عمله بقدر ما حصل معه من التقصير في معرفة هدي النبي -صلى الله عليه وسلم-.
وليُعلم أيها الإخوة أن كل عملٍ يعمله الإنسان لا يتحقق له به تمام الأجر وكماله إلا بتحقيق وصفين في العمل:
الأول: أن يكون لله خالصًا.
والثاني: أن يكون على وفق هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن يكون العامل في عمله موافقًا لسنة النبي -صلى الله عليه وسلم- سائرًا على نحوها، فهديه هو أكمل الهدي؛ فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-.
وفي هذا المختصر إشاراتٌ إلى هديه مقتبسة من أحاديثه، ومما نقله عنه الصحابة -رضي الله عنهم-، فخير الهدي هدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-. ومبدأ ذلك هو ما سنتناوله من المباحث والمسائل التالية شيئًا فشيئًا.
فنسأل الله -عز وجل- أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.