العمرة ذكر المؤلف -رحمه الله- أنها سُنَّة مؤكدة، وهذا ما عليه جمهور العلماء.
واعلم -بارك الله فيك- أنه لا خلاف بين العلماء في أن العمرة مشروعة، وأنها عملٌ صالح، لكنهم اختلفوا في منزلة العمرة، هل هي واجبة أم هي سنة؟ وثمة تفاصيل أخرى تندرج تحت هذه المسألة الخلافية، وجملة الأقوال فيها قولان:
القول الأول: أن العمرة واجبةٌ كالحج مرةً في العمر، وبهذا قال جماعةٌ من الصحابة، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، ونُسب هذا القول إلى الإمام مالك.
القول الثاني: أن العمرة سنةٌ، وليست واجبة، وبهذا قال ابن مسعود، وكذلك جماعة من الصحابة، وبه قال أبو حنيفة، وأبو ثور، والنخعي، وإليه ذهب الإمام مالك في المشهور، وهو قديم قولَيِ الشافعي، وهو روايةٌ في مذهب الإمام أحمد اختارها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقد استدل كل فريقٍ من هذين الفريقين بأدلةٍ تدل على ما ذهب إليه.
فمن قال بوجوب العمرة استدل بقول الله تعالى:﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ البقرة:196، قالوا: والأمر بالإتمام دليلٌ على وجوب الفعل؛ لأنه ما يجب إتمامه إنما هو ما يجب بالأصل.
وهذا محل نظر؛ لأن ثمة من الأعمال ما يجب الإتمام فيه، ولو لم يكن واجبًا في أصله كحج التطوع؛ فإنه لا يجب بعد الحج المفروض حجٌّ آخر، ومع ذلك إذا شرع في الحج - ولو كان تطوعًا، وكذلك في العمرة ولو كانت تطوعًا - فإنه يجب عليه الإتمام؛ لقول الله تعالى:﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ البقرة:196.
واستدلوا بحديث أبي رزين العقيلي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَبِي شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يَسْتَطِيعُ الحَجَّ، وَلَا العُمْرَةَ، وَلَا الظَّعْنَ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ» أخرجه الإمام أحمد (16184)، وحسنه الترمذي (930) ؛ قالوا: هذا يدل على وجوب العمرة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمره بها، وقال: «حُجَّ عَنْ أَبِيكَ وَاعْتَمِرْ»، وهذا أمثل حديث يستدل به القائلون بوجوب العمرة كما قال الإمام أحمد -رحمه الله- حيث قال: "لا أعلم في العمرة حديثًا أجود من هذا ولا أصح". ولكن هذا لا يدل على أنه يدل على الوجوب إنما هذا أجود ما وجد؛ ولهذا نُوقش الاستدلال بهذا بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أجاب السائل، ولم يبتدئ ذِكر وجوب الحج والعمرة، إنما أجاب من سأل، وجواب السؤال لا يفيد الحكم بالوجوب، بل يُستفاد الوجوب من جهةٍ أخرى غير جواب السائل؛ ولذلك لا يستقيم الاستدلال بهذا على وجوب العمرة.
ومما استدلوا به على وجوب العمرة حديث الصُّبَي بن معبد أنه أتى عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه-، فقال له:يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنِّي كُنْتُ رَجُلًا أَعْرَابِيًّا نَصْرَانِيًّا وَإِنِّي أَسْلَمْتُ، وَأَنَا حَرِيصٌ عَلَى الْجِهَادِ وَإِنِّي وَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ مَكْتُوبَيْنِ عَلَيَّ فَأَتَيْتُ رَجُلًا مِنْ قَوْمِي فَقَالَ لِي: "اجْمَعْهُمَا وَاذْبَحْ مَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الهَدْيِ، وَإِنِّي أَهْلَلْتَ بِهِمَا مَعًا"، فَقَالَ لِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" أخرجه الإمام أحمد (83)، وأبو داود (1799)، وصححه ابن خزيمة (3069)، وابن حبان (3911) . وهذا الحديث وإنْ كان إسناده مستقيمًا إلا أن في الاستدلال به على وجوب العمرة نظرًا؛ وذلك أن قول عمر -رضي الله تعالى عنه-: "هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" محتمل أنه فيما يتصل بفرض الحج والعمرة، ويحتمل أنه في الجمع بينهما؛ لأن هذا إنما أُنكِر عليه أنه جمع بين الحج والعمرة، فهذا كان موضع السؤال؛ ولذلك قال عمر -رضي الله تعالى عنه- في جواب السؤال على جمع الحج والعمرة: "هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
وهذا أبرز ما استدل به القائلون بوجوب العمرة.
وتُلاحظ أنه ليس ثمت دليلٌ سالمٌ في الدلالة على وجوب الحج والعمرة، إنما جميع هذه الأدلة؛ إما أن يكون في ثبوتها نظر، وإما أن يكون في الاستدلال بها نظرٌ.
أما القائلون باستحباب العمرة فإنهم استدلوا بجملةٍ من الأدلة، ومن ذلك حديث جابرٍ -رضي الله تعالى عنه- قال: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْرَابِيٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَخْبِرْنِي عَنِ الْعُمْرَةِ: أَوَاجِبَةٌ هِيَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» أخرجه الإمام أحمد (14397)، وحسنه الترمذي (931) وهذا الحديث قال عنه الترمذي: حديثٌ حسنٌ صحيح، وهو دالٌّ على أن العمرة ليست واجبة؛ لأنه قال: لا، يعني؛ ليست واجبة ولازمة، «وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» أي: تدرك بذلك أجرًا.
وقد نُوقش هذا الحديث بأنه ضعيف، وهو كما قيل: فإن في إسناده مقالًا؛ حيث إنه قد تعقب تحسين وتصحيح الترمذي العلماءُ، وقال النووي -رحمه الله-: قول الترمذي: حسنٌ صحيحٌ غيرُ مقبول؛ فلا يُغترُّ به؛ وذلك أن العلماء اتفقوا على أنه حديثٌ ضعيف فمداره على الحجَّاج بن أرطاة، وهو ضعيفٌ، وقد ذكر قريبًا من ذلك ابن عبد البر، فالإسناد فيه مقال كما أشار إلى ذلك أهل العلم.
لكنَّ القائلين بسُنِّية العمرة استدلوا بعموم الأدلة الدالة على استحبابها، وقالوا: ليس ثمة دليلٌ يقوى على إثبات وجوب العمرة.
وأصح القولين في هذه المسألة ما تقدَّم، وما قرره المؤلف من أن العمرة سنةٌ مؤكدة وليست واجبة؛ فإنه ليس ثمة دليلٌ صحيحٌ صريحٌ سليمٌ من المناقشة في وجوب العمرة، وإنما الذي يجب هو الحج، وأما العمرة فليست واجبة.