هذه الآيات الكريمات فيها إثبات علو الله –عز وجل- على الخلق، يقول الله جل في علاه: ﴿يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾[آل عمران: 55]، والرفع لا يكون إلا إلى العلو، ويقول –جل وعلا-: ﴿بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ﴾[النساء: 158]، والرفع لا يكون إلا إلى جهة العلو، ويقول تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُوَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾[فاطر: 10]، فذكر الصعود والرفع مما يدل على علو الله –عز وجل- وقال سبحانه فيما أخبر عن فرعون عندما جاءه موسى وهارون يدعوانه إلى عبادة الله، قال: ﴿يَا هَامَانُ﴾ وهو وزيره، ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ﴾ابن لي مكانا مرتفعًا لعلي أبلغ الأسباب أي جهة العلو لعلي أطلع فيها على ما يزعمه موسى من أن له إلها يعبده، ﴿أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾، فرعون لما أخبره موسى بأن ثمة ربًا يعبد وإلها يرجى لا إله غيره ولا رب سواه لم يطلبه في أي جهة من الجهات، إنما طالبه في العلو ولذلك قال: ﴿ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا﴾.
ثم قال وقوله: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ﴾[الملك: 16-17] والسماء هنا هي جهة العلو فالسماء تطلق على العلو سواء أريد بها السبع الطباق أو أريد بها العلو مطلقًا هذا وذاك كله يطلق عليه سماء، فقوله –جل وعلا-: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾ أي أمنتم من في العلو وهو الله –سبحانه وبحمده-.
فهذه الآيات كلها دالة على إثبات العلو المطلق لله –عز وجل-، وقد ذكر المؤلف –رحمه الله- هذه الآيات بعد ذكر الاستواء، لأن الاستواء علو خاص، وهذه الآيات دالة على علو مطلق عام على جميع الخلق.
واعلم بارك الله تعالى فيك، أن العلو الثابت لله –عز وجل- ثلاثة أنواع:
النوع الأول:- علو المكانة والقدر، فالله تعالى عال على كل شيء قدرًا وشرفًا ومكانة –سبحانه وبحمده- ولا خلاف بين الناس في إثبات علو الله –عز وجل- على خلقه بهذا المعنى.
والنوع الثاني:- للعلو الثابت لله –عز وجل- علو القهر والقدرة وهو أن الله –سبحانه وبحمده- لا غالب له ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، قال سبحانه: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ﴾[الأنعام: 18] فلا غالب له جل في علاه، هذا النوع الثاني من العلو.
وهذان النوعان ثابتان لا خلاف بين الأمة بإثباتها.
النوع الثالث من العلو:- علو الذات، علوه بذاته جل في علاه على جميع خلقه، وهذا ما دل عليه الكتاب والسنة ودل عليه المنقول عن سائر الأنبياء والمؤمنين في كل طبقات الأمم، فالعلو ثابت بالكتاب وبالسنة وبإجماع الرسل وإجماع الأمم وبالعقل، وكذلك بالفطرة فاجتمعت على إثبات علو الله على خلقه جميع أنواع الأدلة التي يثبت بها العلم، الكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة، فإنه ما من أحد يقول يا الله يا رب إلا ويجد في قلبه ضرورة التوجه إلى العلو، وذلك هو أن الله سبحانه هو العلي الأعلى جل في علاه –سبحانه وبحمده-.
وقد ضل في هذه الصفة في أمر من الناس، وضلالهم عائد إلى جهلهم في الله –سبحانه وبحمده- فمن الناس من نفى العلو مطلقًا، فقال: لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارج العالم، وهؤلاء معطلة الجهمية، ومنهم من قال: هو في كل مكان فجعله حالَّا في كل شيء أو متحدا مع كل شيء، وهم الحلولية والاتحادية، والله منزه عن ذلك فهو العلي الأعلى –سبحانه وبحمده-.
وهؤلاء متعبدة الجهمية، وهناك طائفة أخرى قالت: هو عليٌّ على الخلق وفي كل مكان، وكل هذا خروج عن دلالة الكتاب والسنة، فلا يقال: إن الله في كل مكان بذاته، بل الله جل في علاه في عليائه –سبحانه وبحمده- أحاط بكل شيء علمًا فهو الأول الذي ليس قبله شيء، وهو الآخر الذي ليس بعده شيء، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، وهو الباطن الذي ليس دونه شيء فلا تخفى عليه خافية –سبحانه وبحمده-.
ولهذا قول بعض الناس: الله في كل مكان، إن أرادوا: بذاته فهو غلط باتفاق علماء الأمة، فالله ليس في كل مكان، بل الله في العلو جل في علاه فهو العلي الأعلى –سبحانه وبحمده- لكن هذا لا يعني أنه يغيب عن خلقه أو يخفي عليه من شأنهم ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾[المجادلة: 7]، ومعيته بخلقه معية علم وإحاطة وسائر ما تقتضيه ربوبيته –سبحانه وبحمده-.
فدل هذا على ما اعتقده أهل السنة والجماعة بكمال الله وعلوه –سبحانه وبحمده-.