الله تعالى بعث محمدًا –صلى الله عليه وسلم- بالهدى ودين الحق، بالعلم النافع والعمل الصالح، وبعثه للناس كافة فلم يكن –صلى الله عليه وسلم- خطابه ودعوته لفئة من الناس بل لجميع البشر ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾[الأعراف: 158].
ورسالته –صلى الله عليه وسلم- وما جاء به من الهدى ودين الحق ليس خطابًا للعرب ولا لفئة من الناس، بل هو خطاب للأمم كلها عربها وعجمها من كان في زمانه ومن كان بعد ذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها بعثه الله بدين وسط، جعله قِيَمًا صراطًا مستقيمًا كما قال الله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾[الشورى: 52].
فالنبي –صلى الله عليه وعلى آله وسلم- يدل الناس ويدعوهم إلى صراط مستقيم، والصراط المستقيم صراط وسط معتدل ليس فيه ميل ولا انحراف لا إلى غلو ولا إلى جفاء لا إلى إفراط ولا إلى تفريط بل هو وسط في كل معالمه وفي كل شئونه وفي كل ما جاء به من العقائد ومن الشرائع.
قال النبي –صلى الله عليه وسلم- كما في السنة من حديث عائشة «بعثت بالحنيفية السمحة» يخبر رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بكمال ما بعثه الله تعالى به، بكمال ما أرسله الله تعالى به من الدين بعثه بالحنفية والحنفية استقامة ليس فيها ميل ولا حيث ولا جنف، بل هو صراط مستقيم ليس فيه من الانحراف قليل ولا كثير.
قال الله –جل وعلا-: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾[النحل: 120] والله تعالى أمر رسوله والأمة بأن يأتسوا بإبراهيم في استقامته وعدم ميله إلى طرف من الأطراف أو جهة من الجهات، فالحنيف هو المائل عن الشرك، المائل عن الضلال، المائل عن الانحراف، المائل عن الغلو، المائل عن الجفاء، عن الإفراط والتفريط إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
يقول الله –جل وعلا-: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[البقرة: 143] ولذلك كانت هذه الأمة وسطا في عقائدها ووسطا في شرائعها، وسطا في اعتقادها، وسطا في عملها، بعثت بالحنفية أي بالصراط المستقيم والميل عن كل انحراف وميل، لكن هذا الوسط وتلك الاستقامة ليس فيها شدة ولا غلظة ولا حرج بل هي حنيفية سمحة، فالحنيفية في الاعتقاد والعمل والسماحة فيهما جميعًا.
لكنها تبرز في الأعمال لأنها ترجمان ما في القلب من عقائد.
أهل السنة والجماعة وهم الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، وصدقيتهم مستفادة من الكتاب الذي هو معدن كل اعتدال، ومصدر كل استقامة، وطريق كل سلامة من الشذوذات والانحرافات، هم وسط في فرق الأمة، أهل السنة والجماعة وسط في الفرق ليس عندهم غلو، ولا عندهم جفاء ليس عندهم إفراط ولا عندهم تفريط بل هم في فرق الأمة على هذا النحو الذي ذكر –رحمه الله- وسط، ومعنى الوسطية هنا ليست مجرد التوسط بين طرفين أو بين شيئين، بل المقصود بالتوسط الذي وصفت به الأمة، ووصف به أهل السنة والجماعة، هو جمع خيار الأمور وأعدلها هذا معنى الوسطية التي تميز بها الإسلام وتميز بها المتمسكون بالكتاب والسنة من أهل السنة والجماعة.
أنهم جمعوا في عقائدهم وأعمالهم بين هذين الوصفين الخيار أي الأفضل والأكمل والعدل فهم أعدل ما يكون وأكمل ما يكون فيما يتعلق بالعقائد والأعمال فيما يتعلق بالسر والإعلال وهذا ثمرة لزومهم ما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه أصحابه الكرام.
يقول الله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[البقرة: 143] يقول ذلك في سياق الامتنان على هذه الأمة بما منَّ عليها من كمال الشرائع وتمام الاعتقاد؛ حيث يقول جل في علاه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[البقرة: 143] أي عدلًا خيارًا.
بعث الله محمدًا فدعا الناس فأقبل من فتح الله بصيرته، وهدى قلبه إلى هذه الدعوة أخذ بها إمامُه في ذلك محمد بن عبد الله –صلى الله عليه وسلم- لم يكن ثمة آراء ولا تفرقات ولا تحزبات ولا طوائف ولا جماعات ولا أحزاب، بل كانوا حزبا واحدا وأمة واحدة على صراط مستقيم، يأخذون من الكتاب ويتلقون معناه وبيانه من سيد الورى صلى الله عليه وآله وسلم، فلم يكن عندهم ذلك الانحراف الذي حصل في الأمة بعد ذلك.
إلا أن نوابت الانحراف بدت في زمن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الاعتقاد والعمل وعالج ذلك –صلى الله عليه وسلم- بالتحذير عن الخروج عن سنته ففي الانحراف العملي قصة أولئك الثلاثة الذين جاءوا فسألوا عن عمل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم فرأوا أنهم قليل فيما يؤملونه ويطلبونه من الأعمال، فطمعوا فيما هو أكثر من ذلك فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر. وقال الآخر: أقوم ولا أنام. وقال الثالث: لا أتزوج النساء. فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- لما سمع مقالتهم «من رغب عن سنتي فليس مني؛ ألا أني أصوم وأفطر، وأنام وأقوم، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني» افتتح ذلك بعد حمد الله والثناء عليه باستنكار هذه المقالة: ما بال أقوام يقولون، أو يقول أحدهم أصوم ولا أفطر وأقوم ولا أنام، ولا أتزوج النساء، أما إني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
فدل هذا على أنه –صلى الله عليه وسلم- نهى عن هذا الغلو وهذا الانحراف في العمل وفي التقرب والتعبد كما أنه حذر صلوات الله وسلامه عليه من الانحراف في الاعتقاد فقال - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - للذي أنكر عليه شيئا من القسمة في المال فقال: «ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء» فحذر –صلى الله عليه وسلم- من غلو أولئك الذين غلوا في تصور طلب العدل وظنوا أنه –صلى الله عليه وسلم- جافى الاعتدال وجافى العدل في قسمته –صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
وقد قال –صلى الله عليه وسلم- محذرا في خطاب عام «إياكم والغلو فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو في الدين» وقال –صلى الله عليه وسلم-: «هلك المتنطعون هلك المتنطعون هلك المتنطعون» إما خبر عن حالهم وإما دعاء عليهم، أي أن مآلهم إلى الهلاك لتجشمهم وتقحمهم الشدة والغلظة والغلو الذي يتنافي ويجافي الشريعة، كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في الصحيحين «إن الدين يسر ولن يُشادَّ الدين أحد إلا غلبه» لن يشاد الدين أحد أي: لن يطلب أحد شيئا من التكاليف أو الشرائع أكثر مما جاء به دين الإسلام إلا غلبه فإن دين الإسلام قد استوعب كل حوائج الناس في التعبد والتقرب إلى الله –عز وجل- فليس ثمة بعد ذلك مزيد كما قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾[المائدة: 3] فأهل السنة والجماعة لما ساروا على منهج النبي –صلى الله عليه وسلم- لزموا ما كان عليه ففارقوا كل الطوائف وجنبوا كل الفرق بكل انحرافاتها سواء كانت انحرافات اعتقاديه أو كانت الانحرافات عملية سلموا من الغلو والشدة المنافية لما كان عليه دينه –صلى الله عليه وسلم- وما كان عليه منهجه من الوسطية واليسر والاعتدال.
لذلك كان أهل السنة والجماعة وسطا بين سائر الفرق؛ لأنهم ملتزمون بما كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- وسائرون على ما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان؛ فأفادهم ذلك توسط في جميع أمورهم في عقائدهم وفي أعمالهم، فيما كنَّته قلوبهم وفيما ترجمته أقوالهم وأعمالهم ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾[البقرة: 143] فبالوسطية أصبحت لهم الشهادة على كل الفرق، وما من فرقة تخرج عن طريق أهل السنة والجماعة إلا وتغلو في جانب أو تفرط في جانب، إما أن تقع في غلو وإما أن تقع في جفاء، إما أن تقع في إفراط، وإما أن تقع في تفريط لكن هذه الأمة المتبعة للنبي –صلى الله عليه وسلم- سلمت من كل تلك الانحرافات، وهذا من بركة لزومهم للإسلام الصحيح والدين القويم الذي كان عليه النبي –صلى الله عليه وسلم- ولهذا نجت في الدنيا والآخرة.
كما قال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة» وقد بيَّن مَن هي -صلوات الله وسلامه عليه- حيث قال: هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي.
فالوسطية هي ما كان عليه الصحابة الكرام وما كان عليه أجلاء وخيار هذه الأمة ممن تشرفوا بالتلقي عن النبي –صلى الله عليه وسلم-.
وكذلك ما كان عليه تابعوه وتابعو التابعين الذين قال فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم».
بعد ذلك يذكر المؤلف –رحمه الله- جملة من وسطية أهل السنة والجماعة.
واعلم -بارك الله فيك- أن الأمور التي ذكرها المؤلف –رحمه الله- ليست على وجه القصر والحصر، بل هذا على وجه التمثيل والبيان، فما ذكره من أوجه الوسطية إنما هو أمثلة ونماذج لوسطية أهل السنة والجماعة بين الطوائف والفرق المنتسبة للإسلام، نسأل الله أن يثبتنا على الحق والهدى وأن يرزقنا البصيرة في الدين وأن يجعلنا من أمة الوسط خير أمة أخرجت للناس.