هذا جواب على ما يمكن أن يتوهم مما ذكره الله –عز وجل- من معيته لعباده فإن الله –عز وجل- ذكر المعية في كتابه على نحوين؛ ذكر معية عامة للخلق كما في قوله جل في علاه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾[الحديد: 4] قال سبحانه وبحمده: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ﴾ يعني ما يدخل فيها.
﴿وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[الحديد: 5] هذه الآية فسرها علماء الأمة بأن المعية المذكورة فيها هي معية العلم، وهذا ليس من تحريف الكلم عن مواضعه ولا من التأويل المذموم، لأن المعية هنا بينها ما سبقها وما لحق بها؛ فالتأويل إذا دل عليه دليل لم يكن مذموما بل كان الحق، وقد تقدم ذكرَ المعية ذكرُ علم الله –عز وجل- ﴿مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا﴾ فأحاط علمه جل في علاه بكل ما يكون من شئون الخلق وما يجري في أحوال الكون.
ثم قال: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ﴾ أي بعلمه جل في علاه.
﴿أَيْنَ مَا كُنْتُمْ﴾ ثم أكد معنى المعية بقوله: ﴿وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي محيط بكل ما تعملونه بصرًا؛ فهو يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء سبحانه وبحمده، وهذا يدل على أن معيته لعباده في هذا السياق هي معية الإحاطة والعلم، وليس معية الذات، إذ إن ذاته جل في علاه في العلو سبحانه وبحمده فهو العلي العظيم.
وهو منزه عن أن يحل في شيء من خلقه، أو أن يحل فيه شيء من خلقه سبحانه وبحمده ومثل هذا قوله تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾[المجادلة: 7].
ثم قال تعالى: ﴿ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾[المجادلة: 7] فأثبت علمه جل وعلا وإحاطة علمه بكل ما يكون من النجوى بين الناس؛ أي الحديث الذي يكون مسارة ومخافتة بين المتحدثين، فهذا يدل على سعة علمه جل في علاه الذي أحاط بكل شيء علما، ويبين معنى قوله جل في علاه: ﴿وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا﴾ سبحانه وبحمده.
فالمعية الثابتة في هذه السياقات هي المعية العامة التي تستلزم علم الله، وإحاطته، وتدبيره، وقدرته، ونفوذ حكمه في خلقه سبحانه وبحمده، ولهذا فسر علماء الأمة هذه المعية بأنها معية علم ولا تستلزم أن الله في كل مكان بذاته بل الله في العلو ﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ﴾[الملك: 16].
وقد سأل رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الجارية كما في صحيح الإمام مسلم «فقال لها: أين الله؟ فقالت: في السماء ثم قال: من أنا؟ قالت: رسول الله فقال لمالكها: أعتقها فإنها مؤمنة» فشهد لها النبي –صلى الله عليه وسلم- بالإيمان لما أقرت بعلو الرحمن ورسالة خير الأنام صلوات الله وسلامه عليه.
فدل ذلك على ما يعتقده أهل السنة والجماعة، وما جرى عليه عقد أهل الإسلام من أن الله هو العلي الأعلى سبحانه وبحمده، ليس في كل مكان بل هو جل وعلا الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والباطن الذي ليس دونه شيء، فلا يخفى عليه شيء من شئون خلقه، ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم بل يعلم السر وأخفى سبحانه وبحمده.
وبهذا يتبين أن المعية لا تقتضى الممازجة ولا المخالطة ولا الموافقة في المكان، بل المعية تقتضي مطلق المقارنة والمصاحبة دون أن تستلزم أن تكون معية في مكان، أو معية في حال، أو معية في منزل بل المعية التي تدل عليها اللغة تختلف باختلاف سياقاتها فقد تكون معية مكان كقول: أنا معكم الآن في المكان، وعندما يهاتفني أحد وأقول أنا معك لست معه في المكان لكن معه في الحديث، وعندما أقول لولدي: اذهب فمن آذاك فقل له أبي معي فأنا معه نصرة وتأييد، وليس هذا يقتضي أني معه في المكان الذي هو فيه.
فينبغي أن تدرك المعاني وفق ما دلت عليه الأدلة في الكتاب والسنة، وفهمه سلف الأمة من غير أن ندخل في ذلك بعقولنا متأولين وبخيالاتنا ظانين فإن كل خيال فاسد، وكل وهم كاذب ينبغي أن ينفى عن الله –عز وجل- فالله ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.