ودليل أن العذاب جار على جملة من المقبورين ما جاء في آيات عديدة منها ما ذكره الله تعالى في شأن فرعون وقومه قال تعالى: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾[غافر: 45] حاق أي: نزل بهم وأحاط بهم، ثم فصل هذا العذاب الذي أحاط بهم ونزل فقال –جل وعلا-: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾[غافر: 46] النار يعرضون عليها تعذيبًا لهم وهذا في قبورهم. ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ هذا غير الأول فهذا تفصيل للعذاب الذي ذكره في قوله: ﴿وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ﴾[غافر: 45] بينه بأنه عذاب العرض على النار في قبورهم في الحياة البرزخية وعذاب دخول النار وذلك يوم القيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وقد ذكر الله تعالى في قصة قوم نوح قال: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾[نوح: 25] وهذا عقوبة شوهدت في الدنيا وهي إغراقهم بالطوفان الذي عم الأرض حتى على رؤوس الجبال يقول جل في علاه: ﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا﴾ قال: ﴿فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾[نوح: 25] هذا بيان ما نالوه بموتهم بعد الغرق، فالفاء تفيد الترتيب القريب، فما جاء بعدها قريب مما سبقها فكان ذلك عقوبة لهم على ما كان من كفرهم، وهو ما يكون في قبورهم من العرض على النار كما تقدم في خبر حال آل فرعون.
وأما الدليل الثالث من أدلة عذاب القبر ما ذكره الله تعالى من حال المتوفين قال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ﴾[الأنفال: 51] فأخبر الله تعالى أنهم يذوقون هذا العذاب، وعذاب عرضهم على النار كما تقدم بقوله تعالى: ﴿النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا﴾[غافر: 46] فالأدلة في القرآن دالة على عذاب القبر وأن المقبورين من المستحقين للعذاب من أهل الكفر والعصيان يعذبون في قبورهم.
وأما السنة فقد ورد فيها تفصيل وبيان أكثر مما ورد في القرآن ومن ذلك ما في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقف على قتلى بدر من المشركين، وقد جُمعوا في بئر من آبار بدر خبيثة ودفنوا فيها فقال لهم النبي –صلى الله عليه وسلم- بأسمائهم: «يا فلان، يا فلان، هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟ فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا» وهذا السؤال دليل على أنهم عاينوا بعد موتهم صدق ما أخبرهم به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحل بهم وحاق بهم العذاب ونزل بهم ما كان قد وعدهم صلى الله عليه وعلى آله وسلم إن لم يؤمنوا به.
وأحاديث عذاب القبر كثيرة متواترة، وأما من ينكر ذلك بناء على تأويلات وتحريفات وإيرادات فهذا لم يصدق في إيمانه بالله –عز وجل- إذ لو آمن لسلَّم لِمَا جاءت به الأخبار عن سيد الأنام صلوات الله وسلامه عليه، ودلت عليه آيات الكتاب الحكيم كما تقدم، فإن الخبر عن عذاب القبر متواتر عنه –صلى الله عليه وسلم- وقد ذكر أهل العلم جملة من الأحاديث الدالة على عذاب القبر من ذلك ما في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي –صلى الله عليه وسلم- مر بقبرين فقال: «إِنَّهُمَا لَيُعذبان وما يُعذبان في كبير» فأثبت النبي –صلى الله عليه وسلم- تعذيب صاحبي القبرين وقوله: «وما يعذبان في كبير» يعني: لا يعذبان في شيء يشق عليهما تركه، «أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من البول»، فأثبت النبي –صلى الله عليه وسلم- العذاب بسبب هذين العملين مما هو من المعاصي والذنوب فدل هذا على أن عذاب القبر يكون على المعاصي كما يكون على الكفر والشرك.
ما تقدم من الآيات كلها آيات تدل على عذاب الكفار المكذبين الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولم يؤمنوا بالرسل وبما جاءت به، أما هذا الحديث فهو في عذاب من عصى الله –عز وجل- بالنميمة ومن عصى الله –عز و-جل- بعدم توقي البول.
ومما يدل على أن في القبر عذابا ما أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم- في حديث زيد بن ثابت حيث مر بأقبر فمالت به دابته حتى أوشك أن يسقط من عليها –صلى الله عليه وسلم- فكادت تلقيه –صلى الله عليه وسلم- فقال: «من يعرف هذه القبور يعني لمن؟» فقال رجل: أنا فقال: «فمتى هؤلاء؟» يعني متى دفنوا؟ فقال: في الجاهلية في الشرك أو في الإشراك يعني قبل الإسلام فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: «إن هذه الأمة أي أمة النبي –صلى الله عليه وسلم- وهما من أجابوا وآمنوا به تبتلى في قبورها» أي تختبر في قبورها وهذا دليل على فتنة القبر كما تقدم في حديث أنس بن مالك وحديث أبي هريرة وغيره.
«إن هذه الأمة تبتلى في قبورها فلولا ألا تدافنوا لأسمعتكم من عذاب القبر الذي أسمع منه» أي لولا أن يكون سماعكم لما يكون في القبور من عذاب مانعا لكم من أن يدفن بعضكم بعضا لأسمعتكم، هذا معنى قوله: «لولا ألا تدافنوا» وهناك معنى آخر أشار إليه بعض العلماء أنهم لو سمعوا هذه الأصوات لماتوا ولَمَا دفن بعضهم بعضا لأن الجميع سيموت من هول صوت ما يجري للمقبورين من العذاب نسأل الله السلامة والعافية.
فهذا من الأدلة التي ذكرها العلماء رحمهم الله في عذاب القبر، لما أخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بذلك أقبل على أصحابه فقال: «تعوذوا بالله من عذاب القبر» أمرهم بأن يسألوا الله الحماية والعصمة من عذاب القبر، هذا معنى تعوذوا بالله من عذاب القبر، نعوذ بالله من عذاب القبر.
فقال الصحابة رضي الله تعالى عنهم: نعوذ بالله من عذاب القبر. وهذا هو موضع الشاهد من حديث زيد رضي الله تعالى عنه.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالاستعاذة بالله تعالى من أربع ومنها عذاب القبر كما ذهب مسلم من حديث هريرة رضي الله تعالى عنه قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: «إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير فليقل: أعوذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيي والممات ومن فتنة المسيح الدجال» فذكر في جملة ما يستعاذ به في ختم الصلاة مما أمر به النبي –صلى الله عليه وسلم- الاستعاذة بالله من عذاب القبر، وقد كان يفعله –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيحين من حديث عائشة فكان يستعيذ بالله من عذاب القبر ومن عذاب جهنم ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال.
وفتنة الممات هي ما يكون في السياق من الامتحان، وما يكون بعد الموت من اختبار الملكين فإن هذا كله يدخل في فتنة الممات فما كان عند الموت من الفتنة يضاف إلى الممات وما كان بعدها مما يكون في أول أحوال الإنسان في قبره يكون من فتنة الممات التي استعاذ منها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والأحاديث في عذاب القبر مستفيضة كثيرة؛منها ما ذكرناه ومنها:
حديث أبي أيوب رضي الله تعالى عنه الذي فيه خبر النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «اليهود يعذبون في قبروهم»، وكذلك في قصة اليهودية التي أخبرت عائشة رضي الله تعالى عنها عن العذاب في القبر فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- «صدقت إنهم يعذبون عذاب تسمعه البهائم كلها» أي تسمع ذلك العذاب.
أما تفصيل ما يكون في القبر من العذاب والنعيم فأوسع ما جاء فيه حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه في المسند بإسناد جيد، وهو حديث طويل قصه النبي –صلى الله عليه وسلم- على أصحابه وهو في المقبرة ينتظر قبرًا يُلحد أخبر أنه يسأل عن ربه من وعن دينه وعن نبيه، فما في حديث أنس في السؤال عن النبي –صلى الله عليه وسلم- هو سؤال من الأسئلة التي يسألها الإنسان في قبره، ومجموع ذلك ما تضمنه هذا الحديث أنه يقال له من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ فيقول المؤمن الموفق: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد. فيلهمه الله تعالى الصواب في الجواب، ويثبته جل في علاه بفضله فيوفق إلى الصواب، قال الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[إبراهيم: 27].
هذا مما يكون في الآخرة فقوله: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ يعني عند الاختبار والامتحان، وهذا دليل لما تقدم من أن الآخرة اسم يطلق على كل ما يكون بعد موت الإنسان، فإن النبي –صلى الله عليه وسلم- فسر التثبيت في قوله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ﴾ فسره –صلى الله عليه وسلم- بالثبات على الصواب في الجواب في فتنة القبر وسؤال الملكين حيث قال صلى الله عليه وعلى آله وسلم في الصحيحين: «يثبت الله الذين آمنوا قد نزلت في عذاب القبر يقال له من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك فيثبت بأن يقول: ربي الله وديني الإسلام ونبيي محمد –صلى الله عليه وسلم- وذلك قول الله تعالى: ﴿يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ﴾[إبراهيم: 27].»