قال - رحمه الله -: "وهذا المقام يثمر التَّوكل، وترك شكاية الخلق، وترك لومهم، والرضا عن الله - تعالى -، والتسليم لحكمه".
بعد أن فرغ - رحمه الله - من ذكر ما تقدم، قال: "وهذا المقام"؛ أي إفراد الله - تعالى - بالعبادة، وقطع النظر إلى الخلق، وإلى الأسباب، وإلى الوسائل، بل تعليق القلب بالله محبةً، وخوفًا، ورجاءً، ويقينًا بأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، فإذا كمَّل العبد توحيد الربوبية، وكمَّل توحيد الإلهية قطع نظره عن الخلق، فكان عظيم التوكل على الله - عزَّ وجلَّ -.
ولذلك يقول: "وهذا المقام"؛ وهو إفراد الله بالربوبية، وإفراده بالإلهية "يثمر التوكل"؛ أي: ينتج عنه صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع، ودفع المضار؛ هذا معنى التوكل.
التوكل: هو صدق الاعتماد على الله في جلب ما تحب ودفع ما تكره، في جلب النافع، ودفع الضار، فمن صَدَقَ اللهَ - عزَّ وجلَّ - أثمر في قلبه هذا الاعتماد، وهذا التفويض، وهذه العبادة الجليلة؛ وهي التوكل عليه - سبحانه وبحمده -.
وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يترجم ذلك في عمله، وهو - صلى الله عليه وسلم - ترجمان القرآن، وهو الذي كان خلقه القرآن صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم (746) عن عائشة رضي الله عنها ؛ ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - «خَدَمْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ» وهذه مدة طويلة «وَاللهِ مَا قَالَ لِي: أُفًّا قَطُّ، وَلَا قَالَ لِي لِشَيْءٍ: لِمَ فَعَلْتَ كَذَا؟ وَهَلَّا فَعَلْتَ كَذَا؟» أخرجه البخاري (6038)، ومسلم (2309) أي: أنَّه ترك لومه على الفعل والترك؛ وهذا لا يعني ألا يصوِّب الإنسان من يحتاج إلى تصويب؛ فإنَّ تصويب المخطئ من النصيحة له، لكن فرقٌ بين أن تصوِّب وتقوِّم وبين أن تلوم، وتشتكي، وتذم، فبين المقاميْنِ فرقٌ بَيِّنٌ يدركه العالم بالفرق بين النصح والشكاية، بين الدلالة على الخير والسعي في التكميل، وبين من يذم ويتنقص.
يقول - رحمه الله -: "والرضا عن الله - تعالى - والتسليم لحكمه"؛ أي: ويثمر أيضًا الرضا عن الله. والرضا عن الله جَنَّة الدنيا، وفوز الآخرة؛ فإنَّ الرضا عن الله - عزَّ وجلَّ - ثمرة الإيمان به؛ ولذلك يفوز الإنسان بالسعادة والانشراح بقدر ما يتحقق في قلبه من الرضا؛ جاء في الصحيح من حديث ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَان»؛ أي: وجد لذته، وهذا الطعم لا يُذاق باللسان، إنَّما يذاق بماذا؟ بالقلب، طعم الإيمان لا يذوقه اللسان، إنَّما يذوقه القلب؛ «ذَاقَ طَعْمَ الْإِيمَانِ مَنْ رَضِيَ بِاللهِ رَبًّا، وَبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ رَسُولًا» أخرجه مسلم (34) .
والرضا بالله ربًّا؛ أي: خالقًا، ومالكًا، ورازقًا، ومدبِّرًا؛ فإنَّه من رضي بالله في خلقه، وملكه، ورزقه، وتدبيره، ولم يكن في قلبه حب لسواه انقطع عنه كل ما يكرهه في الدنيا، وتنعم نعيمًا عظيمًا.
ولذلك قال في ثمرات تحقيق التوحيد بنوعيه؛ توحيد الربوبية، وتوحيد الإلهية: "والرضا عن الله، والتسليم لحكمه"؛ أي: يثمر التسليم لحكمه، وهو أن تقابل أقضية الله وأقداره بالطمأنينة؛ وهذا لا يعني ألا تدفع قدر الله المكروه بقدره المحبوب؛ فإنَّ تمام العقل في أن ترضى بما قدَّر الله - عزَّ وجلَّ -، وأن تدفع ما تكره من أقضيته وأقداره بما أمرك بأخذه من أسباب السعادة، والفلاح والنجاح؛ ولهذا قال عمر - رضي الله تعالى عنه - لأبي عبيدة لما عاب عليه أنه ردَّ الصحابة ولم يدخل الشام، وقد انتشر فيها الطاعون؛ وقال له أبو عبيدة حينها: «أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟» فقال عمر: «لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ؟ نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ» أخرجه البخاري (5729)، ومسلم (2219) ؛ نفرُّ من قدر المرض بطلب ما يسره الله - تعالى - من قدر السلامة، وإلَّا لو كان كذلك لتعطل الإنسان عن كلِّ ما ينفعه، ولتورط في كلِّ ما يهلكه.
فالتسليم لحكمه هو أن ينشرح صدرك بما يقضيه الله - تعالى - ويقدره، لكن لا يعني هذا أن لا تفعل ما أمرك الله - تعالى - به من أخذ أسباب النجاة، ودفع ما يكون من أسباب المكروه، وإنما ترضى بقضاء الله، فإذا عجزت عن دفعه لم يكن في قلبك سخط، ولا زجر، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
بعد هذا قال - رحمه الله -: "وإذا عرفت ذلك"؛ أي: عرفت ما تقدم من وجوب إفراد الله بالعبادة، وإفراده بالإلهية، وإفراده بالخلق والملك والتدبير، وأن ذلك يثمر تلك الثمار الجليلة من التوكل عليه، وترك شكاية الخلق ولومهم، والرضا عن الله، والتسليم لحكمه؛ وهذه ثمار جليلة، عظيمة، وهي أربع ثمار ذكرها - رحمه الله -.