قال - رحمه الله -: "وشرك الأمم كله نوعان: شرك في الإلهية، وشرك في الربوبية
فالشرك في الإلهيَّة والعبادة: هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عبَّاد الأصنام، وعبَّاد الملائكة، وعبَّاد الجن، وعبَّاد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات، الذين قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]، ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قرب وكرامة، كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه وخاصته".
عاد المؤلف - رحمه الله - إلى ذكر أقسام الشرك، فقال - رحمه الله -: "وشرك الأمم كلها نوعان"؛ أي: يرجع إلى صنفين؛ النوع الأول: "شرك في الإلهية": وهو شرك في العبادة.
والنوع الثاني: "شرك في الربوبية": وهو أن يجعل مع الله خالقًا، أو رازقًا، أو مالكًا، أو مدبرًا سواه - جلَّ في علاه -؛ فهذا شرك في الربوبية.
يقول - رحمه الله -: "فالشرك في الإلهية والعبادة: هو الغالب على أهل الإشراك"؛ يعني أكثر ما ينتشر الشرك ليس في شأن الربوبية، والخلق، والملك، والرزق، والتدبير، وإنما فيما يتصل بإلهية الله، وأنَّه لا يستحق العبادة سواه؛ هذا هو الشرك الشائع المنتشر في الناس؛ وهو أنَّ كثيرًا ممن وقعوا في الشرك إنَّما تورطوا في شرك العبادة بأن جعلوا غير الله معبودًا يتوجهون إليه بالدعاء، يتوجهون إليه بالاستغاثة، يتوجهون إليه بالاستعاذة، يتوجهون إليه بأنواع القربات التي يتقربون بها لينالوا ما يؤملون من خيرات الدنيا، ويَتَوَقُّون بذلك شرور الدنيا.
وأمَّا الآخرة فهم قسمان؛ منهم من يعتقد أنَّه في الآخرة سينتفع بهؤلاء، ومنهم من لا يؤمن بالآخرة أصلًا، ولا يعتقد بعثًا ولا نشورًا، فهمُّه وغايته هو ما يحصِّله من المصالح في هذه الدنيا.
يقول - رحمه الله -: "فالشرك في الإلهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك، وهو شرك عباد الأصنام"؛ الذين يعبدون الأصنام.
الأصنام حقيقتها أنَّها تصوير لمن يعبد من دون الله، فلما كان الإنسان يتعلق بالمحسوسات، وعقله ينصرف إلى ما تدركه حواسه سمعًا، وبصرًا، ولمسًا، فإنَّهم صوروا تصاوير لمن يعبدونهم من دون الله سواء كان هؤلاء المعبودون من الصالحين الذين ماتوا، الأنبياء الذين قضوا، أو كانوا من الملائكة، فإنَّهم يصورون هذه التصاوير ويعبدونها؛ ليرتبطوا بها ومن خلالها بمن يعبدونهم من دون الله من الملائكة، أو الجن، أو الأموات من الصالحين، والأنبياء، والصديقين، والشهداء، وغير ذلك؛ ولهذا يقول: "وهو شرك عباد الأصنام، وعباد الملائكة، وعباد الجن، وعباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات"، الذين قالوا: ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]؛ وهذه حجتهم.
وقد أخبر الله - تعالى - عن ذلك في الصورة التي أبطل فيها الشرك، وبيَّن فيها ضلاله في سورة الزمر﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3]؛ يعني له العبادة التي لا شرك فيها ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3]، الدين الخالص ما هو؟ هو التوحيد ألَّا يكون في قلبك محبوب سوى الله، ولا يكون في قلبك مرغوب، مرجو، مخوف إلَّا الله - عزَّ وجلَّ -، وألا تصرف العبادة قولًا ولا عملًا لغيره - سبحانه وبحمده -؛ هذه العبادة هي الدين الخالص الذي أمرنا الله - تعالى - بأن نتوجه بها إليه، ونتقرب بها إليه.
﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3]؛ الخالص من الشرك، الخالص من أوزار الوثنية.
ثمَّ قال: ﴿وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ﴾[الزمر:3]؛ يعني: والذين عبدوا غير الله، وأخلوا بالدين الخالص، ما حجتهم؟ ما شبهتهم؟ ﴿مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى﴾[الزمر:3]؛ فهم يعبدون من يعبدونهم من هذه المعبودات التي يصرفون لها أنواع العبادات، وصنوف القربات لأجل ماذا؟ لأجل أن يتقربوا بها إلى الله، يقولون: هؤلاء عندهم جاه، هؤلاء لهم منزلة، هؤلاء عندهم مكانة، هؤلاء أرفع منا عند الله، فنتوسل إلى الله بهم، ونصل إلى الله في قضاء حوائجنا من طريقهم؛ وهذه الواسطة قد أبطلها الله - عزَّ وجلَّ -، فلم يجعل الله بينه وبين عباده واسطة في قضاء الحوائج، وفي العبادة؛ قال الله - تعالى -: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي﴾[البقرة:186] ماذا؟ ﴿قَرِيبٌ﴾[البقرة:186]؛ فأثبت قربه من كل عباده - جلَّ في علاه - ﴿فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾ [البقرة:186]؛ يقضي حاجاتهم، ويجيب دعواتهم، ويغيث لهفاتهم، ويعطيهم آمالهم، ويبلغهم مناهم، ويقيهم ما يخافونه من الشرور والأضرار ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ [البقرة:186].
يقول - رحمه الله -: "ويشفعوا لنا عنده"؛ وهذا من أعظم ما أوقع كثيرًا من الناس في الشرك طلب الشفاعة؛ ولذلك أبطل الله - تعالى - أن يكون لأحد تصرف في الشفاعة إلَّا بإذنه كما قال - تعالى -: ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾ [الزمر:44]؛ فلا تُسأل من غيره، ولا تُطلب من سواه، وقال - تعالى -: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾[البقرة:255]؛ فلا شفاعة إلَّا بإذنه، وقال - تعالى -: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾[النجم:26]؛ فلا بد من الإذن والرضا، والإذن والرضا لا يكون إلَّا لأهل التوحيد؛ ولذلك سأل أبو هريرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ القِيَامَةِ؟ فقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ القِيَامَةِ، مَنْ قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، خَالِصًا مِنْ قَلْبِهِ» أخرجه البخاري (99) .
فالتوحيد هو الطريق الذي تُنال به الشفاعات، وتُدرك به المقامات، وينال به الإنسان السعادات في الدنيا والآخرة.
يقول - رحمه الله -: "ويشفعوا لنا عنده، وينالنا بسبب قربهم من الله وكرامته لهم قربٌ وكرامة؛ كما هو المعهود في الدنيا من حصول الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك، وأقاربه وخاصته"؛ وهذا قياس باطل، فالله - جلَّ وعلا - ملك الملوك - جلَّ في علاه -، وهو الغني الحميد، فلا يقاس بغيره من ملوك الدنيا، وأصحاب الجاه والغنى؛ فأولئك مربوبون مقهورون، والله – تعالى - هو الغني الحميد ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾[فاطر:15].
ثمَّ قرر - رحمه الله - أنَّ هذا المعنى وهو وجوب إفراد الله بالعبادة، وألا يكون في قلبك توجه إلى غير الله - عزَّ وجلَّ -؛ هذا المعنى جاءت به الرسالات، فكلُّ الرسل من نوح - عليه السلام - إلى خاتمهم محمد بن عبد الله؛ سيد الأنام - صلوات الله وسلامه عليه - دعوا إلى عبادة الله وحده، وإلى لا إله إلَّا الله التي تعني قطع التعلق بغير الله، لا إله إلَّا الله معناها: لا معبود حقٌّ إلَّا الله، فلا يتوجه إلى سواه - سبحانه وبحمده -، ولا يلتفت إلى غيره، ولا تطلب الحوائج، وتقضى المطلوبات إلَّا منه - جلَّ في علاه -.