قال - رحمه الله -: "وأما الشرك في الإرادات والنيَّات: فذلك البحر الذي لا ساحل له، وقَلَّ من ينجو منه؛ فمن نوى بعمله غير وجه الله - تعالى - فلم يقُم بحقيقة قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5]، فإن ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5] هي الحنيفيَّة ملَّة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]، فاستمسك بهذا الأصل، ورد ما أخرجه المبتدعة والمشركون إليه تحقق معنى كلمة الإلهيَّة".
يقول - رحمه الله -: "وأما الشرك في الإرادات والنيَّات"؛ أي: الشرك في أعمال القلوب، "فذلك البحر الذي لا ساحل له"؛ يعني: الشيء الذي لا يمكن أن يحاط به لكثرته، والتباسه، وخفائه، وأحيانًا عدم ظهوره مما يوجب الاشتباه والاختفاء في كثير من أحواله؛ ولهذا ينبغي للمؤمن أن يسعى في النجاة منه.
وقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم - في الحديث الإلهي: «قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» أخرجه مسلم (2985) .
فلا تلتفت إلى الناس، لا تنتظر منهم مدحًا، ولا تفعل طاعة لتدفع عنك سوءًا، أو قدحًا، أو ذمًّا؛ فإنَّ ذلك يأتي بنقيض المقصود، بخلاف الموحد الذي يقصد ما عند الله – عزَّ وجلَّ -، ويخلص في عمله؛ فإنَّ الله يبلغه طيب الذكر، وجميل الودِّ في قلوب الخلق، قال الله – تعالى -: ﴿سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا﴾[مريم:96]؛ أي: سيجعل لهم في قلوب الخلق محبة؛ وهي القبول الذي يجعله الله – تعالى - في قلوب الخلق للمخلصين الموحدين.
يقول المؤلف – رحمه الله -: "فمن نوى بعمله غير وجه الله - تعالى - فلم يقُم بحقيقة قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5]، فإن ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5] هي الحنيفيَّة ملَّة إبراهيم التي أمر الله بها عباده كلهم، ولا يقبل من أحد غيرها، وهي حقيقة الإسلام: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾[آل عمران:85]"، وتحقيق ذلك ألا تبتغي بعمل من الأعمال إلَّا وجه الله – عزَّ وجلَّ -؛ فعن أبي أمامة الباهلي، قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا غَزَا يَلْتَمِسُ الْأَجْرَ وَالذِّكْرَ، مَا لَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا شَيْءَ لَهُ» يعني: لا أجر له، ولا ثواب - «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي، تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» - فَأَعَادَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، يَقُولُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا شَيْءَ لَهُ» ثُمَّ قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ مِنَ الْعَمَلِ إِلَّا مَا كَانَ لَهُ خَالِصًا» يعني: يُقصد به وحده «وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» أخرجه النسائي في الصغرى (3140)، وحسَّن إسناده العراقي في تخريج الإحياء (1754)، وجوَّد إسناده الحافظ في الفتح (6/ 28) ؛ أي: وطلب به وجهه – سبحانه وبحمده -، طلب به رضاه، فلم ينصرف العبد إلى غيره طلبًا لثواب ولا لأجر.
ولذلك ينبغي للإنسان أن يتحرى الإخلاص لله – عزَّ وجلَّ - في قصده، وألا يقصد غير الله – عزَّ وجلَّ -، فمن قصد الله جاءه بكل ما يؤمل، ومن قصد غيره ذهب عنه ما يؤمل من الأجر، ولم يدرك ما يطمع فيه من مصالح الدنيا؛ ولذلك من أراد أن يذكر، فإنَّه لن يذكر، وأمَّا من أراد ما عند الله، فسيأتيه الله – عزَّ وجلَّ - بكل ما يؤمله من الخير.
فمن أحسن القصد، وأخلص النية، نال الأجر والثواب، وفاز بالعطاء في الدنيا والآخرة.
وبهذا يتبيَّن لنا أنَّه ينبغي للمؤمن الذي يرغب في النجاة من الشرك أن يحقق التوحيد في قوله، فلا يشرك بالله في قوله؛ لا بحلف، ولا بغيره، وأن يحقق التوحيد في عمله؛ فلا يصرف شيئًا من العبادات لا سجود ولا غيره لغير الله – عزَّ وجلَّ -، وأن يحقق الإخلاص في قلبه؛ فإنَّ التوحيد يكون في القلب إخلاصًا، وفي القول سلامة من الشرك، وفي الأفعال بأن لا يصرف شيئًا من العبادات لغير الله – عزَّ وجلَّ -.
أسأل الله – عزَّ وجلَّ - أن يجعلنا وإياكم من المخلِصين المخلَصين، وأن يرزقنا التوحيد في السرِّ والعلن، والظاهر والباطن، وأن يعيذنا من الشرك دقِّه وجليله، صغيره وكبيره، ظاهره وخفيه، وأن يقبضنا على لا إله إلا الله التي بها نسعد ونفوز.