"وإن ظَنَّ أنه يسمع ويرى ولكن يحتاج إلى من يُلَيِّنُهُ ويُعَطِّفُهُ عليهم فقد أساء الظن بأفضال ربه وبره وإحسانه وسعة جوده.
وبالجملة، فأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به؛ ولهذا يتوعدهم في كتابه على إساءة الظن به أعظم وعيد، كما قال الله تعالى: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[الفتح:6]".
قال رحمه الله: "وإن ظن أنه يسمع ويرى" يعني: يُدْرِك الأصوات، ويدرك المرئيات، "ولكن يحتاج إلى من يُلَيِّنُهُ ويُعَطِّفُهُ عليهم"، بالوساطة من الملائكة، بوساطة الأنبياء، بوساطة الرسل؛ لتحقيق المطالب، "فقد أساء الظن بأفضال ربه وبره" - جلَّ في علاه -، "وإحسانه وسعة جوده"، فهو الرحمن الرحيم، ليس ثمَّة أرحم من رب العالمين، فهو - جلَّ في علاه - أرحم بنا من أنفسنا؛ ﴿لا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء:29]؛ فمن رحمته بعباده أن منعك مِنْ قتل نفسك، فمن كان بك أرحم من نفسك؛ فلا تحتاج إلى أن يكون بينك وبينه واسطة لإدراك مطالبك وحصول ما تُؤمِّله، ليس بينك وبينه إلا أن تقول: يارب، إلا أن تقول: يا الله، إلا أن تُنْزِل به حاجتك، فهو الصمد - جلَّ في علاه - الذي تُقْضَى منه الحوائج.
ولذلك كل من جعل بينه وبين الله واسطة لإدراك مطلوبه فقد أساء الظن بربه؛ إما لاعتقاده أن الله لا يسمع، أو أن الله لا يُجيب، أو أن الله يحتاج إلى من يُعَطِّفه على عباده، وهو الرحمن الرحيم، الرءوف الكريم - جلَّ في علاه -، الذي له الإحسان سابقًا قبل السؤال، وله جزيل العطاء لمن سأله وصدق في مناجاته - سبحانه وبحمده -؛ ولذلك يقول - رحمه الله -: "فقد أساء الظن بأفْضَال ربه، وبره، وإحسانه، وسعة جوده. وبالجملة، فأعظم الذنوب عند الله تعالى إساءة الظن به"؛
هل إساءة الظن أعظم من الشرك؟
الجواب: نعم؛ لأن المشرك مسيءٌ الظنَّ بربه، فالشرك ثمرة إساءة الظن، لو أحسن الظن بالله لما أشرك؛ ولهذا يقول - رحمه الله - : "ولهذا توعدهم في كتابه على إساءة الظن أعظم وعيد"؛ لم يأتِ في القرآن عقوبة على ذنب كما جاء في عقوبة إساءة الظن بالرب - جلَّ في علاه -؛ يقول الله تعالى: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾[الفتح:6].
ولذلك قال سبحانه كما في الحديث الإلهي: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» أخرجه البخاري (7405)، ومسلم (2675) ؛ فلك منه ما ظننته فيه، إن ظننت به خيرًا وأحسنت معاملته كان لك كما تُحِب، وإن كنت على نقيض ذلك كحال المفرِّطين، المشركين، العصاة، المبتدعين، المخالفين لأمره وشرعه، فهؤلاء لهم منه ما ظنوه به - جلَّ في علاه -.
وفرقٌ بين حسن الظن والاغترار؛ حسن الظن ثمرة تمام العلم بالله، وأما الاغترار فهو غفلةٌ عن قدرة الله وشرعه الذي جعله طريقًا للوصول إليه وإدراك بره ورحمته.
﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ﴾[الفتح:6]، تحيط بهم السيئات من كل جانب، ﴿وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾[الفتح:6] هذا ثانيًا، ﴿وَلَعَنَهُمْ﴾[الفتح:6] هذا ثالثًا، ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾[الفتح:6] هذا الرابع، ﴿وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[الفتح:6] أي: ساء منقلبًا ومآلًا أن تكون النار دار العذاب المطلق مآلًا ومَوْئِلًا ومنتهًى ينتهون إليه.