"فغاية سعادة الأبد في عبادة الله والاستعانة به عليها.
والقسم الثالث: من له نوع عبادة بلا استعانة، وهؤلاء نوعان:
أحدهما: أهل القدر القائلون: بأنه سبحانه قد فعل بالعبد جميع مقدوره من الألطاف، وأنه لم يبقَ في مقدوره إعانةٌ له على الفعل، فإنه قد أعانه بخلق الآلات وسلامتها وتعريف الطريق، وإرسال الرسول، وتمكينه من الفعل، فلم يبقَ بعدها إعانةٌ مقدورةٌ يسأله إياها، وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم مسدود عليهم طريق الاستعانة والتوحيد؛ قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذَّب بقدره نقض تكذيبه توحيده» أخرجه الفريابي في القدر (205)، والآجري في الشريعة (456)، وابن بطة في الإبانة (3/ 163) .
النوع الثاني: من لهم عبادةٌ وأوراد، لكن حظهم ناقصٌ من التوكل والاستعانة، لم تتسع قلوبهم لارتباط الأسباب بالقدر، وأنها بدون المقدور كالموات الذي لا تأثير له، بل كالعدم الذي لا وجود له، وأن القدر كالروح المحرك لها، والمعوَّل على المحرك الأول، فلم تنفذ بصائرهم من السبب إلى المسبب، ومن الآلة إلى الفاعل؛ فقلَّ نصيبهم من الاستعانة.
وهؤلاء لهم نصيبٌ من التصرف بحسب استعانتهم وتوكلهم، ونصيبٌ من الضعف والخذلان بحسب قلة استعانتهم وتوكلهم، ولو توكل العبد على الله حق توكله في إزالة جبلٍ عن مكانه لأزاله".
الله أكبر، الله أكبر.
هذا القسم الثالث من أقسام الناس، وهم: الذين عندهم نوع عبادة، شيء من العبادة، وعندهم تعطيلٌ للاستعانة فلم يُكَمِّلُوا ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]، فعندهم شيء من العبادة، لكن ليس عندهم كمال استعانة، وهؤلاء قسمان.
الآن الأقسام التي مرت معنا ثلاثة أقسام:
v القسم الأول: من كمَّلوا ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾[الفاتحة:5]، نسأل الله أن نكون منهم، وهم أفضل الخلق وأكرمهم على الله - عزَّ وجلَّ -، هم أولياؤه، هم أحبابه، هم أهل التقوى، هم الصالحون، الذين لهم سعادة الدنيا ولهم فوز الآخرة، كمَّلوا العبادة لله في السر والعلن، واستعانوا به على طاعته، فلا عون لهم إلا من قِبَلِهِ -جلَّ في علاه -، وليس في قلوبهم التفاتٌ إلى سواه. هذا القسم الأول.
v القسم الثاني: الذين تخلَّوا عن العبادة، وتخلَّوا عن طلب الإعانة منه - جلَّ في علاه -، وهؤلاء المخذولون، المحرومون، الهالكون، وهم أسوأ الخلق وأبغض الخلق إلى الله - عزَّ وجلَّ -.
v القسم الثالث: عندهم نوع عبادة، عندهم شيء من العبادة، لكنهم لم يحققوا الاستعانة بالله - عزَّ وجلَّ -، وهؤلاء نوعان:
· النوع الأول: القدريَّة، وهم الذين يقولون: إن الله لا يخلق أفعال العباد، وبالتالي إذا
كان لا يخلق أفعال العباد فإنه لا يُطْلَب العون منه؛ لأن فعلك من قِبَلِك، والله - عزَّ وجلَّ - لا يخلق شيئًا ولا يُعين على شيء، لا يُطلَب العون ممن لا يقدِر على الخلق، وهؤلاء كما قال المؤلف - رحمه الله -: "مخذولون".
يقول - رحمه الله -: "أهل القدر القائلون بأنه - سبحانه وتعالى - قد فعل بالعبد جميع مقدروه"، يعني: خلقك، وأعطاك السمع، والبصر، وأعطاك القوة، وليس وراء ذلك شيء، فلا تطلب من الله عونًا فيما وراء ذلك.
"وهؤلاء مخذولون موكولون إلى أنفسهم مسدودٌ عليهم طريق الاستعانة والتوحيد" أي: أنهم لا يحققون التوحيد التام لله؛ لماذا؟ لأنهم يعتقدون أن مع الله خالقًا يخلق دون الله - جلَّ وعلا - فالإنسان عندهم يخلق فعل نفسه؛ ولهذا يقولون: "الإيمان بالقدر نظام التوحيد" يعني: ينتظم به التوحيد ويستقيم به التوحيد وهو أصلٌ من أصول الإيمان.
قال ابن عباس: «الإيمان بالقدر نظام التوحيد، فمن آمن بالله وكذَّب بقدره نقض تكذيبه -يعني: بالقدر- توحيده».
هذا القسم - أعاذنا الله وأجارنا الله وإياكم منهم - هؤلاء محرومون، مخذولون، موكولون إلى أنفسهم، ومن وُكِل إلى نفسه طرفة عين فقد وُكِل إلى هلاكٍ وخسار.
"لا حول ولا قوة إلا بالله"، نحن بالله وعليه - جلَّ في علاه - ونسأل الله أن نكون له، "نحن بالله" فكل ما يكون مِنَّا به، و"عليه" لا نَبْلُغ شيئًا إلا بإعانته، وتقديره، وتيسيره، "وله" نرجو أن نكون مخلصين في العبادة له.
كلنا بالله وعليه، لكننا نتفاوت في ماذا؟ في أن نكون "له"، فكن لله هذا الذي أمرك الله تعالى به، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة:5]، ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3]، ﴿فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ﴾[هود:123] - سبحانه وبحمده -.
هذا القسم الأول من هؤلاء.
· القسم الثاني: يقول: قومٌ لهم عبادة وأوراد، لكنهم عموا عن الربط بين الأسباب والنتائج؛ فقالوا: إن الله يقدِّر كل شيء ولا حاجة لأخذ سببٍ من الأسباب لبلوغ الغايات، وهؤلاء هم الجبرية، يقابلون أولئك، يقولون: إذا شاء الله - عزَّ وجلَّ - أن تُدْرِك ما تريد من مصالح الدنيا والآخرة فستدركه فعلت السبب أو لم تفعله.
وهؤلاء عطَّلوا الأسباب، الذين قالوا: لا نفعل شيئًا، نحن بالله والله -عزَّ وجلَّ- يفعل كل شيء.
يأتون بكلامٍ صحيح، لكنهم يريدون به باطلًا، يريدون به تعطيل السبب، وهذا لا يمكن أن يُقره لا عقل ولا دين، لا عقل ولا شرع، فإن من عطَّل الأسباب وألغاها يكون بذلك قد اتهم الشرع - إذا كان يعتقده دينًا - فقد اتهم الشرع بمناقضة العقل وبالنقص؛ لأن الشرائع جاءت بذكر الأسباب المفضية إلى النتائج، فما من شيءٍ إلا جعل الله له سببًا، لكن الناس في الأسباب على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من يُلْغي الأسباب، وهذا هو الذي نتكلم عنه.
القسم الثاني: من يُعَظِّم الأسباب ويُعَلِّق قلبه بها ويلتفت إليها، وهؤلاء هم الذين وقعوا في الشرك حيث اعتمدوا في قلوبهم وتعلقت قلوبهم بغير الله.
القسم الثالث: الذين علَّقوا قلوبهم بالله، وعلموا أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، لكنهم مع هذا اليقين يأخذون ما أمرهم الله تعالى به من الأسباب، يعتقدون أن الأسباب مقدمات لنتائج، وأن النتائج لا تكون إلا بمقدماتها، ولكن هذه المقدِّمات إذا شاء الله أتت بالثمرة، وإذا لم يشأ الله لم تأت بالثمرة، وبالتالي هم قد علَّقوا قلوبهم بالله - عزَّ وجلَّ -، وجمعوا بين الأخذ بالسبب والركون بالقلب إلى مُسبب الأسباب، إلى خالق الأسباب - سبحانه وبحمده -، الذي إذا شاء أتت الأسباب بنتائجها، وإذا شاء عطَّل الأسباب عن نتائجها، بل إذا شاء جعل السبب يؤدي إلى نقيض النتيجة، جعل السبب يؤدي إلى نقيض النتيجة، كيف يكون السبب مؤديًا إلى نقيض النتيجة؟
مثل ما جرى مع إبراهيم - عليه السلام -، فإن قومه أرادوا ماذا؟ أرادوا أن يحرقوه بالنار؛ فأضربوا نارًا، النار مُحْرِقة هذا نتيجة السبب، السبب هو النار والنتيجة هي الإحراق، لكن لما شاء الله تعالى إنجاءه عطَّل السبب فلم تكن النار محرقة، بل جاء بنقيض السبب فقال - جلَّ وعلا -: ﴿يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء:69].
فالأسباب مخلوقة لله - جلَّ وعلا - يفعل بها ما يشاء - جلَّ في علاه -، فجديرٌ بالمؤمن أن يعلِّق قلبه بالله خالق الأسباب، وألا يلتفت إلى سواه، وإذا أخذ سببًا أخذه طاعةً لله.
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُظاهِر بين درعين في قتاله، ويلبس المِغْفَر -صلى الله عليه وسلم-؛ ليتقي الأعداء في القتال، وكان يدَّخر - صلى الله عليه وسلم - قوت أهله لِسَنة، كل هذا من فعل الأسباب، لكن قلبه معلقٌ بالله، فالقوت الذي ادخرته لسنة قد يتلف، ويهلك، وقد لا يأتي بنتيجة، وقد تلبس الدروع ويأتيك القتل، فأنت تأخذ السبب، لكن تعلم أن قلبك معلقٌ بخالق السبب الذي ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس:82].
والقسم الثالث من أقسام الناس: وهم الذين عندهم نوع عبادة، لكن ما عندهم كمال استعانة، سواء كان من القدرية الذين عطَّلوا الأسباب بالكلية، أو من الجبرية الذين أيضًا عطَّلوا الأسباب لكن من وجهٍ آخر.
فنسأل الله - عزَّ وجلَّ - أن يرزقنا البصيرة في الدين، وأن يُعيننا على طاعته، وأن يصرف عنا معصيته.
ويبقى القسم الرابع، وهم: الذين لم يكن عندهم عبادة، لكن كان عندهم استعانة، وهذا حال من يستعين بالله على معصيته، وعلى ما لا يُرضيه، وهذا حال كثيرٍ من الخلق، نتكلم عنهم - إن شاء الله تعالى - في مجلسنا يوم غدٍ بعد صلاة المغرب - إن شاء الله تعالى-.