"واعلم أن العبد لا يكون مُتَحَققًا بعبادة الله تعالى إلا بأصلين:
أحدهما: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
والثاني: إخلاص العبودية.
والناس في هذين الأصلين أربعة أقسام:
أولًا: أهل الإخلاص والمتابعة".
يقول - رحمه الله -: "اعلم أن العبد لا يكون متحققًا بعبادة الله تعالى"، أي: لا يحقق ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5]، لا يحقق الغاية من الخلق وهي عبادة الله، لا يحقق ما جعله الله تعالى سببًا لوجوده، "إلا بأصلين"، إلا بأمرين، فمن أراد أن يحقق ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾[الفاتحة:5]، يحتاج إلى أن يُفَتِّش عن أصلين في حاله وعمله؛ ليرى مدى تحقيقه للعبادة التي من أجلها خُلِق والتي بها فوز الدنيا والآخرة.
يقول - رحمه الله -: "واعلم أن العبد لا يكون متحققًا بعبادة الله إلا بأصلين: الأول: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والثاني: إخلاص العبودية"؛ أي: لله - عزَّ وجلَّ -. وقدَّم المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن متابعته تهدي إلى الإخلاص، فإنه داعٍ إلى عبادة الله وحده، وآمرٌ بأن لا يُعْبَد سواه؛ فلذلك قدَّم المتابعة، والأمر في ذلك يسير، وأما من حيث الأهمية فلاشك أن التوحيد هو الأصل، والإخلاص هو الأصل في العمل، ثم يتبعه أن يكون الإنسان متابعًا للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في عمله.
وهذان الأصلان عليهما مدار الإسلام، وهما معنى: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله"، فمعنى: "أشهد أن لا إله إلا الله" أخلص العمل لله، لا أعبد سواه، وعدم عبادتي سواه لا تتحقق إلا بماذا؟ إلا بالإخلاص له - سبحانه وبحمده -؛ هذا ما يتعلق بالإخلاص.
أما ما يتعلق بالمتابعة فهو معنى "أشهد أن محمدًا رسول الله"، فمقتضى شهادتك أن محمدًا رسول الله ألا تتبع سواه، وألا تقتفي أثر غيره، وألا يكون لك إمامٌ إلا هو -صلى الله عليه وسلم -، ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾[الحشر:7].
وهذان الأصلان يضبطان عمل القلب وعمل الجوارح، هذان الأصلان - انتبه لهذا الكلام - يضبطان عمل الإنسان ظاهرًا وباطنًا، أما ضبط الباطن بالإخلاص، فإنه لا يستقيم القلب إلا بإخلاص العمل لله، ﴿أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[الزمر:3]، ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[البينة:5]، وهذا معنى: "لا إله إلا الله"، فالقلب لا يطمئن، ولا يسكن، ولا يلتذ، ولا يبتهج، ولا يُسَرُّ، ولا يطيب، ولا يلين، إلا بالإخلاص لله - عزَّ وجلَّ -، ماعدا ذلك هو موجبٌ للهلاك والتلف، هذا الأصل الأول الذي يضبط الباطن وهو: إخلاص العمل لله - عزَّ وجلَّ -.
وقد دل عليه ما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: «إنَّمَا الأعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» أخرجه البخاري (1)، ومسلم (1907) هذا يضبط عمل القلب، فكل عملٍ تعمله ليَكُن قصدك فيه الله، لا تَرْجُ سواه، كل من رجا غير الله لا يُدرك شيئًا، وكل من رجا الله وأخلص له بالرجاء؛ أدرك كل شيء؛ «أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَه» أخرجه مسلم (2985) .
أضرب لذلك مثلًا: الذي يعمل ليمدحه الناس، ويمدحوه، ويقولون: عابد، تقي، صالح، منفق، عالم، معلم، مجتهد في طاعة الله، لن يدرك من ذلك شيئًا، وما أدركه سرعان ما يتبدد ويضمحل، حتى لو أثنى الناس عليه، هي مدة قصيرة ثم ينكشف الغطاء، فإن «أول من تُسَعَّر بهم النار ثلاثة» كلهم مُرَاءٍ «مجاهد في سبيل الله، مُعلِّم ومتعلِّم للقرآن، مُنْفِق ماله في طاعة الله؛ أول من تُسَعَّر بهم النار هؤلاء الثلاثة» كما في الصحيح من حديث أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أخرجه بنحوه مسلم (1905) .
فكل من عمل لغير الله عاد خاسرًا، أما من عمل لله فإن الله سيبلِّغه كل ما يؤمِّل، ومنه حمد الناس ومدحهم وما يرجوه من ثنائهم، قال الله - جلَّ وعلا -: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ﴾[مريم:96] ماذا؟ ﴿وُدًّا﴾[مريم:96]، أي: محبةً في قلوب الخلق، هذه المحبة التي في قلوب الخلق توجب الثناء عليه، توجب الرضا عنه، توجب ذكره بالجميل؛ فإن الذكر الجميل لا يكون إلا لعباد الله المخلصين؛ ما ذُكِر أحد بجميل ذكرًا مستمرًّا دائمًا إلا وثمَّة في قلبه من الإخلاص ما يوجب هذه الثمرة ويوصل إلى هذه النتيجة؛ فلذلك اقْطَعْ أيَّ تعلُّق بالخلق، وليكن عملك لله، وإذا أخلصت لله جاءك كل ما تأمل، وكل ما تتمنى، وكل ما تحب، مما يتعلق بخير الدنيا وخير الآخرة.
أما ما يضبط العمل الخارجي الظاهر فهو المتابعة للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ تضبط العمل الخارجي؛ تضبط عمل الجوارح وقول اللسان.
ثم قال - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين من حديث عائشة: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» أخرجه البخاري (2697)، ومسلم (1718) «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ»، أي: ما لم يكن من هديه - صلى الله عليه وسلم -، «فَهُوَ رَدٌّ» وهذا يعني: أن كل عملٍ خارجٍ عن طريقه وسبيله وسنته فهو مردودٌ على صاحبه.
إذًا هذان الأصلان عليهما قِوامُ الديانة، وهما: إخلاص العمل لله، ومتابعة رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، في السر والعلن، في الدقيق والجليل، في كل شأن، ففي عملك ولو كان دقيقًا صغيرًا توجه فيه إلى الله طلبًا ورغبة، وفيما يتعلق بكيف العمل؛ لتكون على هدي سيد الورى الذي قال الله تعالى عنه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾[الأحزاب:21]، والذي قال - صلى الله عليه وسلم - في بعض مفردات الأعمال: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» أخرجه البخاري (631) ، «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أخرجه بنحوه مسلم (1297) .
فليس ثمَّة أكمل عملًا من عمله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.
وبهذين الأصلين يتحقق للإنسان كمال العبادة لله - عزَّ وجلَّ -، ويتحقق له حسن العمل الذي من أجله خلق الله الخلق، كما قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾[الملك:2]؛ فحُسْن العمل يكون بإخلاصه لله - عزَّ وجلَّ -، ومتابعة رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -.