والمصنف هنا جرى أيضًا على هذا المنوال فذكر بعد حمد لله جُملةً من أفعاله توجب الثناء عليه ومحبته وتعظيمه، ذكر ثلاث أفعال يقول: (حمدتُ الذي أغْنى وأقْنى وعَلَّما) فهذه ثلاثة أفعال كل واحدٍ منها يُوجب محبة الله تعالى وتعظيمه، قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى﴾[النجم:48]، وقال -سبحانه وتعالى-: ﴿عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾[العلق:5]، فهو -جلَّ وعلا- الذي أغنى، وهو الذي أقنى، وهو الذي علَّم الإنسان ما لم يعلمه -سبحانه وبحمده-.
أما قوله -رحمه الله-: (حمدتُ الذي أغْنى) أي: الذي أعطى الغنى، والغنى نوعان:
غنى المال وهو: أن يهب الله تعالى الإنسان ما يخرج به عن حدِّ العَيْلة والفقر؛ مما يقتنيه ويملكه.
النوع الثاني من الغنى: غنى القلب والنفس وهو: أن يعمر الله قلب العبد رضًا بما أعطاه، فيغتني به عن كل ما سواه -جلَّ في عُلاه- وهذا حقيقته: أن يكون الإنسان فيما في يد الله أوثق مما في يده؛ لأنه -جلَّ في عُلاه- لا مانع لما أعطى، ولا مُعطي لما منع، فكم من إنسان عنده من الممتلكات ما لا يُحصى كثرةً، ولكنه لا ينتفع بذلك، فهذا كعادم هذه الأملاك.
فتمام غنى النفس أن يكون الإنسان فيما في يد الله تعالى أوثق مما في يده، وقد جاء هذا في خبرٍ في إسناده مقال عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «من أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله أوثق منه بما في يده»، وهذا الغنى هو الذي أشار إليه النبي -صلى الله عليه وعلى آله وسلم- فيما جاء في الصحيحين: «ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس»، ليس الغنى عن كثرة العرض يعني عن كثرة الممتلكات والمقتنيات من الأعيان والأموال وسائر ما يُحصله الإنسان مما يحصلُ به الغنى، «ولكن الغنى غنى النفس».
إذا قوله -رحمه الله-: (الحمد لله الذي أغنى) يشمل نوعي الغنى، والغالب في أذهان الناس عندما يُذكر الغنى ينصرف الذهن إلى غنى المال، والنبي -صلى الله عليه وسلم- لتقويم هذا قال: «ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس»، وهذا ليس أن كثرة العرض لا توصف به الغنى، لكن ليس هو الغنى الحقيقي، الغنى الحقيقي هو غنى النفس بأن يكون الإنسان بما في يد الله أوثق مما في يده.