الرئيسية > المستوى الأول > أسباب حياة القلوب > منظومة أسباب حياة القلوب> (31) إذا صح قلب العبد بان ارتحاله |
---|
إذا صحَّ قلبُ العبدِ بانَ ارتحالُه |
إلى دارهِ الأخرى فراحَ مُسَلِّما |
فبانَ: أي: ظهر.
والمقصود بالارتحال إلى الدار الآخرة أن يكون قد نفذ ببصره من دنياه إلى آخرته، وليس المقصود أن يرحل ببدنه فإن ذلك لا يمكن أن يكون؛ لأنه لا يكون إلا بالموت، فالارتحال للآخرة المقصود به السعي للآخرة، وابتغاء الآخرة، والاشتغال بما ينفعه في الآخرة، فهذا المقصود بالارتحال، وليس المقصود بانتقال البدن من دار الدنيا إلى دار الآخرة فإن ذلك لا يكون إلا بالموت، فإن الموت هو أول منازل الآخرة.
ولذلك الإيمان باليوم الآخر يشمل الإيمان بكل ما أخبر به الله عزَّ وجل، أو أخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فإن الآخرة تبتدأ بموت الإنسان، فالحياة البرزخية التي تكون ما بين الحياة الدنيا وقيام الناس لرب العالمين يوم القيامة هذه من جملة اليوم الآخر، ولهذا يذكر العلماء ما يتعلق بالقبر وأحواله وما أشبه ذلك من جملة العلوم المتصلة بالإيمان باليوم الآخر؛ لأنها مندرجةٌ فيه.
فقيامة الإنسانِ تقع بموته، وهذه هي القيامة الصغرى المتعلقة بكل واحدٍ على وجه الانفراد.
وأما القيامة العظمى فهذه التي يكون فيها ما ذكر الله تعالى من قيام الخلق للحساب، ﴿يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [المطففين:6]، ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [الأنبياء:47] فهذا يكون لكل الخلق من الإنس والجن وسائر خلق الله عزَّ وجل الذين يبعثهم ويحشرون يوم القيامة.
فالمقصود أن الارتحال للدار الآخرة المقصود به الإقبال عليها، الاشتغال بالأعمال التي تنفعه فيها، توقي كل ما يضره في تلك الدار.
فالقلب الصحيح لا يُمكن أن يغفل عن الآخرة، بل هو مقبلٌ على الآخرة، فراحة قلبه في الإقبال على ربه، في الاشتغال بما يحبه جلَّ في عُلاه، والتزود للقاء الله عزَّ وجل كما أمر الله تعالى بذلك في قوله: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ [البقرة:197] والتزود لا يكون إلا لمرتحل، ونحن في سفر أحسسنا بذلك أم لا، وسرعان ما ينقضي هذا السفر، فإنه سريع التقضي، وهو قصيرٌ بالنظر إلى ما نقبل عليه من دارٍ نعيمها مقيم، وعذابها دائمٌ غير منقطع.
لذلك من الجدير بكل مؤمن أن يعيَّ هذه الحقيقة أننا لسنا في دار قرار، ولا في دار إقامة، إنما هي دار ارتحال، وهي محطةٌ في طريق سفرٍ إلى الله عزَّ وجل، المفلح من عَمَرَ هذه البُرهة اليسيرة، والوقت القصير بما يقربه إلى ربه، توقى كل ما يبعده عن ربه، تخفف من السيئات والخطايا؛ لأنها الأثقال التي تُعيق الناس يوم القيامة، فالذي يُكبل الأقدام ويُعيقها عن السبق يوم القيامة والمعاد هو ما يكون من سيّء الأعمال، فكلما تخفف الإنسان من ذلك بتوقيه واجتنابه ابتداءً والتوبة منه إذا وقع في شيءٍ منه، وتلبس بخطأٍ أو نقصٍ أو قصورٍ أو تقصير كان من الفائزين، كان ممن ارتحل بقلبٍ إلى الآخرة، وقد قال الله تعالى آمرًا بذلك جميع الخلق: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ﴾ [القصص:77]، ثم ذكَّر بأن ثمَّة ما قد يحتاجه في أمر دنياه لتكمل آخرتُه فقال جلَّ وعلا: ﴿وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ [القصص:77].
فجدير بالمؤمن أن يعيَّ هذا الأمر، فالدنيا مهما طالت وزانت فهي سريعة الزوال، وهي منغصةٌ النعيم، ما فيها من نغيم يشبه ما ذكره الله في قوله: ﴿طَعَامًا ذَا غُصَّةٍ﴾ [المزمل:13]، فلا يخلوا نعيمٌ فيها من كَدَر، لا سيما ما يتعلق بملذاتها فإنها لا تكمل، وأما ما يتعلق بنعيمها المتصل في التنعم بذكر الله وطاعته وعبادته فهذا هو أشبه ما يكون بنعيم الآخرة.
ولذلك ما يجده الأبرار في قلوبهم من البهجة والانشراح والسرور والفرح في طاعة الله، والإقبال عليه جلَّ في عُلاه، هو نموذج لما يلقاه أهل الجنة من النعيم في الآخرة، فإن قلوبهم في سرورٍ لا يوصف، وفي ابتهاج لا يمكن أن يُدرك بأي لذةٍ من لذات الدنيا، فإن لذائذ الدنيا لا بُد أن يعتريها من القصور والنقص ما هو من رحمة الله بعباده؛ لأنه لو كملت النعم في الدنيا للناس لكان ذلك حاملًا لهم على الاشتغال بها والاكتفاء، لكن من رحمة الله أنه ما من شيءٍ في أمر الدنيا إلا ويعتريه من القصور والنقص ما يجعل البصير يتنبه، وصاحب الذهن الصحيح يفطن إلى أنه لن يدوم هذا، وأن هذا ليس هو غاية المُنى، ولا منتهى الطلب، ولا محط النظر، بل هو مما ينبغي أن يستعين به على طاعة الله، أن يستعين به في قطع المسافة والسير إلى الله تعالى.
ولهذا ينبغي لكل عاقل أن يُدرك أن الفوز في الإقبال على الآخرة، والخسار كل الخسار في الانكباب على الدنيا والانغماس فيها، ولذلك استحباب تقديم الدنيا على الآخرة، إيثار الدار الدنيا على الآخرة مما يوجب للعبد انتكاسةً، ويغشى به القلب ظُلمةٌ، يكون ذلك سببًا لتعاسته وشقائه، كما قال الله جلَّ وعلا: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى﴾ [طه:124]، ومفهوم الآية، أي: مفهوم المخالفة: أن من أقبل على الله وجد بهجة وسرورًا وحياةً طيبة جاء ذلك مصرحًا به في قوله: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ [النحل:97]، هذه الحياة الطيبة هي كل ما يغشى قلبه من معاني الفرح والبهجة والسرور والابتهاج بطاعة الله تعالى وذكره والقيام بحقه سبحانه وبحمده، وذاك هو الفوز الحقيقي، ذاك هو السبق الذي ينبغي أن يسبق إليه الإنسان، فمن سبق إليه في الدنيا سبق إليه في الآخرة كما قال جلَّ وعلا: ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾ [الواقعة:10].
إذًا علامة صحة القلب الإقبال على الآخرة، نفوذ البصر من الدنيا إلى الآخرة، وهذا لا يستلزم بوجهٍ من الوجوه أن يُعطل الإنسان دُنياه، فإن تعطيل الدنيا لم يأتِ به شرع، بل الشريعة أمرت بعمارة الدنيا بما تعمر به الآخرة، لكن شتَّانَ بين من يجعل منتهى آماله وغاية تفكيره فيما يتعلق بمعاشه، وليس له في الآخرة نظر، ولا له فيها همٌّ، ولا له فيها عمل، بل غاية عمله وشغله فيما يتعلق بهذه الدنيا وما فيها من الملذات.
فالقلب الصالح يترحل إلى الآخرة ويقرب منها حتى يصير من أهلها، وكلما صحَّ القلب قويت الرغبة فيما عند الرب، وكلما ضعف القلب أو مرض وأصابه السُقم آثر الدنيا على الآخرة حتى يصير من أهلها، ولا عجب فإن استحباب الدنيا على الآخرة هو الأصل الذي يفتح باب الخسار على الإنسان، كما قال الرحمن: ﴿وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)﴾ [سورة العصر: 1-3] هذه الأربعة أصول هي موجبات النجاة، هي التي يخرج بها الإنسان من الخسار في دنياه، ويفوز برضى ربه جلَّ في عُلاه.
معنى الرواح:
ثم بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله ما ذكر مما يتصل بالإقبال على الآخرة، يقول رحمه الله:
إذا صحَّ قلبُ العبدِ بانَ ارتحالُه |
إلى دارهِ الأخرى فراحَ مُسَلِّما |
"راح" أي: في طلبه ورغبته، والرواح هو الذهاب في أول النهار، وذلك لما في الرواح من البركة، كما قال صلى الله عليه وسلم: «بورك لأمتي في بكورها»، أي: أنه بادر من أول عمره ومن أول أيامه بما يُرضي ربه جلَّ في عُلاه؛ لأنه أدرك أن هذه الحياة فرصة للتزود ليوم المعاد، فكلما بادر في التزود كلما بادر في أخذ ما يُسَّرُ به في الآخرة يكون بذلك قد عظم سبقه، وبان فوزه، وحصَّل سعادة الدنيا وفوز الآخرة.
"فراحَ" أي: ذهب مبكرًا في حياته وفكره وأيامه، وأحواله، في البكور وفي أوائل الأمور إلى ما يحب الله تعالى ويرضى، ولهذا أوائل التكليف يبدأ من البلوغ وهو سن الشباب، ولما كان المبادر إلى الطاعة في سن الشباب قد راح مُسلِّمًا قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «سبعة يُظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله» وذكر منهم: «وشابٌ نشأ في طاعة الله»، فهذا قد راح إلى الطاعة مبكرًا، في أول عمره وفي بداية أيامه وفي مستقبل حياته فكان ذلك من موجبات عطاء ربه وعظيم إحسانه به سبحانه وبحمده.
"فراحَ مُسَلِّما" أي: طالبًا السلامة، ومُسلِّمًا كل أحدٍ منه، فقد سلَّم نفسه بوقايتها كل معصيةٍ وسوء، وسلَّم غيره بأن لم يكن منه إساءةٌ إلى الخلق، عنوان ذلك الوصايا الثلاث في حديث معاذ بن جبل قال صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلقٍ حسن»، كما أن هذه الخصال تحقق سلامة الإنسان في معاملته لربه، وفي معاملته للخلق، ومن حققها فقد "راحَ مُسَلِّما" كما قال الناظم رحمه الله، وإذا راح مسلمًا فقد فاز بالقلب السليم، كما قال الله -جلَّ وعلا-: ﴿يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)﴾ [سورة الشعراء: 88-89].
جميع الحقوق محفوظة لمنصة اسوار المعرفة@2021 - تصميم وبرمجة إنجاز إن