إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صفيه وخليله، خيرته من خلقه، بعثه الله بالهدى ودين الحق بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة وجاهد في الله حق الجهاد بالعلم والبيان، والسيف والسنان، حتى أتاه اليقين وهو على ذلك، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن اتبع سنته واقتفى أثره بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد.
فإن الله تعالى برحمته خلق الخلق لغاية عظمى، وهي أن يعبده وحده لا شريك له، وهذه الغاية كانت قد عززها ما فطر الله تعالى القلوب عليها من محبته والإقبال عليه، وطلب العبودية له، فكانت القلوب إلى الله منجذبة بالفطرة التي قال عنها -جل في علاه-: ﴿فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾[الروم: 30]، جرى الناس على هذه السنة، وعلى هذه الفطرة قرونًا متطاولة، لم يعبدوا إلا الله -جل في علاه- يقع منهم المخالفة، يقع منهم الغلط، تقع منهم المعصية، لكنهم لم يخلُّوا بغاية الوجود ومقصود الخلق من عبادة الله وحده لا شريك له، فكان في الناس المعاصي، بل آدم عليه السلام عصى الله –عز وجل-قبل أن يهبطه الله تعالى إلى الأرض، وهذا كما أخبر الله تعالى وقص فيما جاء في القرآن الحكيم من معصية آدم حيث أكل من الشجرة ، كما قال الله تعالى: ﴿وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى﴾[طه: 121]، لكن هذه المعصية لم تكن تتصل بمقصود الخلق من عبادة الله وحده لا شريك له، بل كانت في أمرٍ أمَرَ الله تعالى به، لما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جرى الناس على هذا الحال من عبادة الله وحده لا شريك له، لكن يقع منهم الكذب، يقع منهم المعصية، يقع منهم المخالفة، لكن هذا لم يغيِّر أن الناس كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له، فلم يتطرق الخلل في أصل العبودية، إنما كان الخلل في تكميل التوحيد بعدم معصية الله –عز وجل-، فكان ما كان من معاصي متتابعة حتى تطاول بالناس العهد، وامتد بهم الوقت، فاستذلهم الشيطان، واجتالهم عن الصراط المستقيم إلى أن عبدوا غير الله –عز وجل-.
يقول ابن عباس: كان الناس عشرة قرون بعد آدم ما بين آدم ونوح على التوحيد حتى اجتالهم الشيطان وأخرجهم عن الجادة كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث عياض بن حمار أن النبي –صلى الله عليه وسلم-قال: «خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ» يعني على التوحيد يعبدونه وحده لا شريك له «فاجْتَالَتْهمُ الشَّياطينُ»[صحيح مسلم(2865)] أي: صرفتهم الشياطين عن هذا الأصل إلى أن يعبدوا غير الله –عز وجل-إلى أن يصرفوا العبادة لسواه عند ذلك بعث الله الرسل مبشرين ومنذرين، لما وقع الخلل في البشرية، فعبدوا غير الله –عز وجل-لم يترك الله –عز وجل-برحمته وفضله الناس هملا، بل بعث الرسل مبشرين ومنذرين، بعث الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، يقوِّمون الطريق ويعدِّلون المسار، ويعيدون الناس إلى الجادة، إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وكان أول ما بعث الله –عز وجل-نوح عليه السلام فأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، وكانت دعوته أن يعبد الناس الله –عز وجل-وحده لا شريك له.
دعاهم ليلًا ونهارًا، سرًّا وجهرًا، دعاهم ليعبدوا الله وحده ويتركوا ما كانوا يعبدونه من الآلهة، حتى فاصله قومه وعابوا ما دعا إليه، وسفهوا رأيه، ﴿وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾[نوح: 23-24]، أي: بهذه المعبودات من دون الله، ضلوا وأضلوا كثيرًا من الخلق، صرفوهم عن التوحيد إلى أنواع من الشرك.
بعد ذلك استقر هذا الخلل في البشرية بين فترة وأخرى يعود الشرك في الناس على نحو من الانحراف الذي زينه الشيطان واستذل الناس إليه بأن صرفوا العبادة والطاعة إلى غير الله الواحد القهار جل في علاه، وصار على هذا الرسل صلوات الله وسلامه عليهم كل ما مضى قرن، ومضت أمة جاء رسول يدعو الناس إلى عبادة الله وحده، فكانت الرسل جميعًا على هذا النحو من دعوة الخلق إلى عبادة الله وحده، وكلما عظم الخلل وكبر الانحراف كانت الرسالة أعظم، وبعث الله تعالى من الرسل من هو أعلى مقامًا، فكان أولي العزم من الرسل صلوات الله وسلامه عليهم، كانوا يدعون الناس إلى أن يعبدوا الله وحده لا شريك له.
هذا هو المقصود من بعثة الرسل قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾[النحل: 36]، وهذا الخلل المتكرر في الحياة البشرية لم ينقطع بعد بعثة خير البرية صلوات الله وسلامه عليه، بل حذر النبي –صلى الله عليه وسلم-من حصول الشرك، ومن وجوده في الأمة، وخوف منه حتى قال –صلى الله عليه وسلم-كما في الحديث الثابت عنه من حديث محمود بن لبيد قال: «إنَّ أخْوَفَ ما أخافُ عليكم الشِّركُ الأصْغَرُ، قالوا: وما الشِّركُ الأصْغَرُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: الرِّياءُ»[مسند أحمد(23630)، وقال الحاكم: صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ. ووافقه الذهبي]، وهذا يبين أن الأمة لن تسلم من تكرار أخطاء الأمم السابقة فيما يتعلق بأصل العبادة ومقصود الخلقة من عبادة الله وحده لا شريك له، فكان ما أخبر به النبي –صلى الله عليه وسلم-من وجود صور من الشرك، النبي –صلى الله عليه وسلم-جاء إلى قوم يعبدون غير الله –عز وجل-يعظمون الله ويعظمون سواه، لكنهم لم يحققوا العبادة لله وحده، فكانت الكعبة المشرفة فيها وحولها أكثر من ثلاثمائة صنم تعبد من دون الله، أخرجها رسول الله –صلى الله عليه وسلم-وأصحابه عندما فتح الله تعالى لنبيه مكة –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-، فطهرها من رجز الأوثان، كما قال الله تعالى: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾[الإسراء: 81]، دانت هذه البلدة المباركة والجزيرة العربية كلها للنبي –صلى الله عليه وسلم-بما جاء به من توحيد الله وحده لا شريك له، فحققوا "لا إله إلا الله"، فكانوا على التوحيد الصافي الخالص من الشوائب والشرك، إلا أن ذلك لم يمنع من معاودة الكرَّة من الشيطان بين فترة وأخرى، وقد أخبر النبي –صلى الله عليه وسلم-أنه قال: «لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ علَى ذِي الخَلَصَةِ»[صحيح البخاري(7116)، ومسلم(51 - (2906)] وهو صنم كان يعبد في زمن الجاهلية، وقد أمر النبي –صلى الله عليه وسلم-بهدمه فهدم، لكن النبي أخبر بأنه سيعود «لا تقومُ الساعةُ حتى يلحقَ حَيّ من أمتي بالمشركينَ، وحتى يعبدَ فئامٌ من أمّتي الأوثانَ»[سنن أبي داود(4252)، ومستدرك الحاكم(8390)، وقال: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ] أي: بالذين يعبدون الأوثان فيعبدونهم من دون الله.
لكن الله تعالى قيد لهذه الأمة أئمة وعلماء يبينون الحق ويبصرون الخلق، ويدلونهم على طريق الاستقامة، ويهدونهم إلى تحقيق الغاية من الوجود وهو عبادة الله وحده لا شريك له، فجاءت الرسل متتابعة عبر القرون متتالية تدعو الخلق إلى لا إله إلا الله، وجاء في هذه الأمة لما انقطعت الرسالات علماء على منهاج النبوة يسيرون في دعوة الخلق إلى عبادة الله وحده، فكانت دعوة العلماء على نحو دعوة الرسل في تجديد عبادة الله وحده، وفي التوحيد له جل في علاه.
وكان أن يسر الله تعالى حفظ هذه الملة من الزيغ والضلالة، «لا تَزالُ طائِفَةٌ مِن أُمَّتي ظاهِرِينَ علَى الحَقِّ، لا يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلَهُمْ، حتَّى يَأْتِيَ أمْرُ اللهِ وفي رواية: وهُمْ كَذلكَ»[صحيح مسلم(170 - (1920)]، ومن هؤلاء المجددين الذين حصل بهم نفع كبير للأمة ما كان من دعوة المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله-في القرن الثاني عشرة الهجري فقد جاء وقد ساد الجزيرة أنواع من الانحراف والضلال في صرف العبادة لغير الله –عز وجل-.
جاء والناس منهم من يعبد شجرًا، ومنهم من يدعو جنًّا، ومنهم من يعظم الصالحين حتى يلحقهم بمرتبة رب العالمين في الاستغاثة وطلب كشف الكروبات وإغاثة اللهفات، فدعا –رحمه الله-إلى عبادة الله وحده لا شريك له، كتب وألف وجاهد وبذل، وكان على منهاج النبوة في تبيين الحق ودعوة الخلق إلى عبادة الله وحده لا شريك له، شنع عليه خصومه بأنواع من التشنيع لأن الشرك سوقه رائجة، فهناك من يكتسب به، وهناك من يرتزق به من سندة القبور، ومن المنحرفين الذين ينتفعون من تعظيم الناس لهم برفعهم إلى مرتبة لا تليق إلا بالله –عز وجل-من استغاثة وطلب قضاء حاجات، وما إلى ذلك مما ينتفعون به، فصرف الله تعالى عن هذه الأمة رجز الأوثان، فسلمت الجزيرة بهذه الدعوة المباركة من الشرك، وعم نفع هذه الدعوة أرجاء المعمورة وكان من خير وبركة هذه الدعوة أن أقام الله تعالى التوحيد في الحرمين الشريفين، فليس فيهما قبور تعظم من دون الله، وليس فيها أضرحة تدعى ويطاف بها من دون الله، كل ذلك من بركة وفضل الله –عز وجل-على هذه الأمة بهذه الدعوة المباركة التي حصل بها من الخير ما حصل.
ومن المؤلفات النافعة التي يحتاجها الناس فيما يتعلق بمعرفة دين الإسلام، الملة الحنيفية السمحة التي جاء بها النبي –صلى الله عليه وسلم-ملة إبراهيم، ما كتبه الإمام محمد –رحمه الله-في رسالة القواعد الأربع وهي رسالة موجزة مختصرة موضوعها هو بيان ملة إبراهيم، هو بيان قواعد أساسية أصيلة في التمييز بين ملة إبراهيم وما يضادها من ألوان الشرك والانحراف.
فنسأل الله –عز وجل-أن يجزي كاتبها خير الجزاء، وأن ينفعنا بما فيها من العلم والبصيرة، وسيرى المؤمن أن كثيرًا من الدعاوى التي ينشرها خصوم هذه الدعوة تتساقط أمام الحجج التي يذكرها علماء هذه الدعوة وأئمة هذه الدعوة المستندة في بيناتها وأدلتها وحججها إلى أدلة وألوان الكتاب والسنة، فالحق إذا جاء انطمس الباطل ونور الحق له من القوة والنفوذ ما ليس للباطل مهما زخرف، وبهرج، وزين، كما قال الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾[الإسراء: 81].
فنسأل الله التسديد والتيسير والإعانة.