القاعدة الرابعة وهي آخر القواعد الأربعة ذكرها المؤلف –رحمه الله-قال فيها.
(القاعدة الرابعة أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين، لأن الأولين يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة، ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت: 65] والله أعلم).
هذه هي القاعدة الرابعة وهي خاتمة القواعد الأربع التي ذكرها الإمام محمد بن عبد الوهاب –رحمه الله-في سياق بيان ملة إبراهيم، في سياق بيان الحنيفية التي جاء بها الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
القاعدة الرابعة هي أن الشرك في زمانه، وحديثه عن زمانه، هو حديث عن زماننا فلا فرق بين زماننا وزمانه فيما يتصل بمعالم الشرك، وأحوال أهله، بل قد يكون الأمر في بعض الجهات أشد سوءا، وقد يكون أعظم انحرافًا.
يقول –رحمه الله-: (أن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين)
يعني أشد شركًا من الأولين، أي المشركين الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-كيف ذلك؟ هذه دعوة تحتاج إلى إثبات.
المشركين في زمن النبي –صلى الله عليه وسلم-كانوا على نحو من الصلف والمضادة، قد بينها الله –جل وعلا-في كتابه، والمشركون في هذا الزمان منهم من يؤمن بالنبي –صلى الله عليه وسلم-ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، لكنه ينقض ذلك بعبادة غير الله، بدعاء الأموات، والاستغاثة بهم، وصرف العبادات والقرابين لهم، والسجود لقبورهم وما أشبه ذلك، فكيف يكون هؤلاء أغلظ شركا من أولئك.
ليست الموازنة بين المشركين الأوائل من كل وجه مع المشركين المتأخرين من كل وجه، إنما الموازنة فيما يتعلق بدعاء غير الله، عبادة غير الله، لا فيما يتعلق بمضادة الرسول وما إلى ذلك من الأمور الأخرى، إنما الموازنة في موضوع هذه الرسالة وهو التوحيد والشرك، شرك الأولين أخف من شرك الآخرين، بيان ذلك ما قاله –رحمه الله-أن الأولين يشركون في الرخاء، يعني يشركون في وقت السعة، ويخلصون في الشدة، يعني إذا جاءت الكروب والشدائد انصرفوا عن عبادة غير الله، انصرفوا عن الأوثان، انصرفوا عن الأصنام، انصرفوا عن الأولياء إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
وأما مشركي زمانه –رحمه الله-وكذلك الزمان الحاضر بعضهم يدعو غير الله في الرخاء والشدة، بل إذا حصلت شدة ونزل به بلاء لم يسأل إلا من يعظمه من الأولياء، من يعظمه من الصالحين، من يعظمه من المقبورين، وتجده يقصد القبور لكشف الكربات، وإغاثة اللهفات، وتحصيل الطلبات، وهذا بالتأكيد لم يكن عليه حال المشركين الأوائل.
الله –عز وجل-في أكثر من آية يقول: ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ﴾[العنكبوت: 65]، أي: في البحر ﴿دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[العنكبوت: 65]، لأنه شدة، مخلصين له الدين أي: لم يطلبوا سواه، ولم يتوجهوا إلى غيره، ولم يعبدوا غير الله –عز وجل-؛ لأنهم يعلمون أنه هو الذي تُقضى من قبله الحوائج، وهو الذي تدرك من قبله المطالب، وأنه لا حول ولا قوة إلا به، وأنه لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وما كانوا يقولونه من دعاء غير الله في الرخاء يتبدد ويتلاشى عند الكرب والشدة؛ لأنه لا يصح إلا الصحيح.
أما المتأخرون فكثير منهم إذا نزلت به ضائقة لم يلتفت إلى الله –عز وجل-بل اشتغل بدعاء غيره، وسؤال الخلق في كشف كربته وإزالة نكبته، وتحصيل طلبته، ويغفل بذلك عن الله في رخائه وفي شدته، هذا ما أراده المؤلف –رحمه الله-.
ولذلك قال: (ومشركو زماننا شركهم دائم في الرخاء والشدة) أي: مستمر في الرخاء والشدة، والدليل قوله تعالى، الدليل على أن الأوائل كانوا لا يشركون إلا في الرخاء دون الشدة ﴿فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ﴾[العنكبوت: 65]
بعد هذه القواعد الأربع وهي لتمييز الحنيفية ملة إبراهيم التي هي عبادة الله وحده لا شريك له.
هذه ملة إبراهيم عليه السلام، وهي ملة جميع النبيين صلوات الله وسلامه عليهم أن تعبد الله وحده لا شريك له، هي مفتاح النجاة، هي العصمة من الهلاك، هي السعادة في الدنيا والآخرة، هي التي قال فيها النبي –صلى الله عليه وسلم-: «مَن لَقِيَ اللَّهَ لا يُشْرِكُ به شيئًا دَخَلَ الجَنَّةَ»[صحيح البخاري(129)، ومسلم(152 - (93)]، هي مفتاح الجنة هي معنى لا إله إلا الله، هذه الكلمة المباركة، وهذه العقيدة الصالحة لا يمكن أن تتحقق إلا بالإحاطة بهذه القواعد الأربع، حتى يسلم الإنسان من الانحراف، ويزول عنه الالتباس، ويتبين له المشتبه.
القواعد الأربع مدارها على بيان أن الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-كانوا يقرون بأن الله رب العالمين، لكنهم لم يقروا بأنه لا إله إلا الله، كانوا يقولون إن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكنهم لم يقولوا لا إله إلا الله عبدوه وعبدوا غيره.
وبالتالي لو قال الإنسان: إن الله هو الخالق، لكن صرف العبادة لسواه لم يكن بذلك من أهل الإسلام، لأن النبي قاتل المشركين الذين كانوا يقولون إن الله هو الخالق الرازق المدبر، لكنهم لم يعبدوه وحده لا شريك له هذه القاعدة الأولى أن الإقرار بالربوبية لا يكفي في تحقيق الحنيفية.
القاعدة الثانية في بيان المدخل الذي ضلل الناس وأوقعهم في الشرك، وهو أنهم عبدوا ما عبدوا من المعبودات طلبا للقربى، طلبا للشفاعة، هذه هي القاعدة الثانية أنهم إنما عبدوا ما عبدوه ليس لذاته فهو لا يستحق العبادة، لكنهم عبدوه لأن لهم جاهًا، لأن لهم منزلة، لأن لهم مكانة، فيتقربون إليهم طلبا منهم أن يتوسطوا عند الله –عز وجل-في قضاء حاجتهم، وتحصيل رغباتهم هذه هي القاعدة الثانية.
إذًا القاعدة الثانية هي أنه لا فرق في حصول الشرك بين أن يطلبه الإنسان لطلب الشفاعة او لطلب القربى، وبين أن يشرك لاعتقاده أن ذات المعبود الذي صرفت له العبادة ينفع أو يضر، حتى لو قال لا ينفع إلا الله ولا يضر إلا الله ثم عبد سواه حتى يتوسط له عند الله –عز وجل-فقد وقع في الشرك.
وقد جاءت الشفاعة في القرآن على نحوين؛ شفاعة مثبتة، وشفاعة منفية.
الشفاعة المثبتة لمن؟ لله ﴿قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا﴾[الزمر: 44] فلم تطلب من سواه.
والشفاعة المنفية هي الشفاعة الشركية التي نفاها الله تعالى في آيات عديدة، كما في قوله تعالى: ﴿أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[البقرة: 254]، الذين سووا غير الله به هم الظالمون.
أما القاعدة الثالثة أن الذين بعث فيهم النبي –صلى الله عليه وسلم-لم يكونوا يعبدون شيئًا واحدًا، بل كانوا يعبدون آلهة شتى، يعبدون الأصنام، يعبدون الملائكة، يعبدون الصالحين، ولكنهم في كل ذلك كانوا خصوما للنبي –صلى الله عليه وسلم-على درجة سواء، لم يفرق النبي –صلى الله عليه وسلم-بين من يعبد ملكا، ومن يعبد حجرًا، بين من يعبد نبيًّا، وبين من يعبد صنمًا، بل كلهم كانوا على حد سواء، لأن الله –عز وجل-بعث محمدًا لأجل أن يخرج الناس من الظلمات الشرك بكل صوره إلى نور التوحيد الذي هو عبادة الله وحده.
أما القاعدة الرابعة والأخيرة فهي أن مشركي هذا الزمان أغلظ شركا وأشد شركًا من الزمان السابق من حيث إن مشركي الزمن السابق كانوا إذا نزلت بهم شدة لم يسألوا إلا الله، ولم يعبدوا سواه، وأما مشركو الزمان المتأخر فإنهم يسألون غير الله في الشدة والرخاء.
هذا ما يسر الله تعالى من التعليق على هذه القواعد الأربع التي تميز الحنيفية ملة إبراهيم عن غيرها من طرق الشرك وسبله، أسأل الله أن يرزقني وإياكم التوحيد له ظاهرًا وباطنًا.
اللهم اجعلنا من أهل "لا إله إلا الله" الذين هم أهلك وخاصتك، اجعلها يا رب العالمين باقية في قلوبنا ظاهرة في عقائدنا وأعمالنا، واختم لنا بخير يا ذا الجلال والإكرام، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.