المنظومة البيقونية

من 0202-05-25 وحتى 2036-08-25
فقرات المساق مناقشات حول المساق إشعارات تعريف بالمساق البث المباشر الاختبار العام الشهادات

عداد المشاهدات : 18

التاريخ : 2024-08-29 10:03:11


وَما أُضِيفَ لِلنَّبِيْ الْمَرْفُوعُ *** وَما لِتابِعٍ هُوَ الْمَقْطُوعُ

وَالْمُسْنَدُ الْمُتَّصِلُ الإسْنادِ مِنْ *** رَاوِيهِ حَتَّى الْمُصْطَفَى وَلَمْ يَبِنْ

وَما بِسَمْعِ كُلِّ راوٍ يَتَّصِلْ *** إسْنادُهُ لِلْمُصْطَفَى فَالْمُتَّصِلْ

مُسَلْسَلٌ قُلْ ما على وَصْفٍ أتى *** مِثْلُ أما وَاللهِ أنْباني الفَتى

كَذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيهِ قائما *** أوْ بَعْدَ أنْ حَدَّثَني تَبَسَّما

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فقد تقدم لنا في الدرس السابق الكلام على الحديث الضعيف، والحديث المرفوع، والحديث المقطوع.

وقلنا في الحديث المرفوع: ما أضيف إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

والمقطوع: ما أضيف للتابعي.

الرفع والقطع هما من صفات الحديث أو من صفات الإسناد؟ من صفات الحديث، أي منتهى الحديث، ينتهي إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو ينتهي إلىٰ التابعي.

بقي نوع لم يذكره المؤلف –رحمه الله- وهو الموقوف؛ لأنه ذكر المرفوع والمقطوع الذي للتابع وترك الذي للصاحب، والظاهر أن الذي حمله على هـٰذا ضرورة النظم فيما يبدو، وسيأتي الكلام على ذلك.

ثم قال المؤلف رحمه الله:

وَالْمُسْنَدُ الْمُتَّصِلُ الإسْنادِ مِنْ *** رَاوِيهِ حَتَّى الْمُصْطَفَى وَلَمْ يَبِنْ

عرف المؤلف رحمه الله (المسند) بأنه المتصل الإسناد.

وتقدم معنا الاتصال، وهو: أن لا يكون بين الرواة انقطاع، بأن يكون كل راوٍ تلقى الحديث عن الذي قبله.

والإسناد تقدم لنا، وقلنا: إنه سلسلة رواة الحديث، أو رجال الحديث. هـٰذا  الإسناد.

يقول المؤلف رحمه الله:

وَالْمُسْنَدُ الْمُتَّصِلُ الإسْنادِ مِنْ *** رَاوِيهِ حَتَّى الْمُصْطَفَى وَلَمْ يَبِنْ

 (منْ رَاوِيْهِ) أي من ناقله الذي أدّاه (حَتَّى الْمُصْطَفَى) يعني إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آله وسَلَّمَ، (وَلَمْ يَبِنْ) يعني ولم ينقطع.

هـٰذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله في بيان معنى المسند، هو أحد الأقوال في معنى المسند، وهو: ما ينقله الراوي عن مثله إلىٰ منتهى السّند، وهو النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وهـٰذا التعريف -الذي نظمه المؤلف رحمه الله- هو تعريف الحاكم للمسند، فالحاكم رحمه الله عرف المسند بأنه: المتصل الإسناد من راويه إلىٰ النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

مثاله: حديث مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهـٰذا السّند متصل، ويسمى مسنداً؛ لأنه اتصل إسناده من راويه إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَمْ يَبِنْ) أي لم يقع انقطاع، ليس هناك انقطاع في هـٰذه السلسلة، ليس بين ابن عمر والذي نقل عنه انقطاع؛ بل الإسناد متصل.

مثال المنقطع: ما رواه الزهري عن ابن عباس، فإنهم يمثلون بهذا للمنقطع؛ لأن الزهري لم يدرك ابن عباس ولم يرو عنه.

وهـٰذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو أشهر الأقوال في معنى المسند.

وبالنظر إلىٰ استعمال الأئمة لكلمة المسند يتبين أن مرادهم بالمسند في الأصل: ما ينتهي إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طرق الرواية.

ثاني ما قيل في معنى المسند: أنه المرفوع، وهـٰذا ذكره ابن عبد البر رحمه الله. فالمسند كما ذكر ابن عبد البر: ما كان مرويّاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإن لم يكن متصلاً؛ يعني وإن كان منقطعاً،الغاية في شرح الهداية في علم الرواية للسخاوي ص(157) فيدخل في هـٰذا المرسل، والمعضل، والمنقطع، وهـٰذا قليل قائله من أهل العلم.

القول الثالث في معنى المسند ما ذكره الخطيب رحمه الله، وهو: ما اتصل إسناد راويه إلىٰ منتهاه؛ الكفاية في علم الرواية ص(21) يعني إلى منتهى النقل، وهـٰذا يدخل فيه المقطوع والموقوف؛ يعني يدخل فيه النقل عن غير النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

 وبالنظر إلىٰ هـٰذه التعريفات الثلاثة نحتاج إلىٰ مرجح؛ لأن كل من تكلم من هٰؤلاء في بيان معنى المسند هو إمام من أئمة هـٰذا الشأن، فأيّها أرجح؟

طريقة الترجيح في مثل هـٰذا هي النظر إلىٰ عمل الأئمة؛ أي عمل أئمة الحديث، فينظر إلىٰ كيف استعملوا هـٰذه الكلمة.

بالنظر إلىٰ استعمالهم يتبين -كما ذكرنا قبل قليل- أن المعنى الأول هو المعنى المشتهر، وهو: المتصل الإسناد من راويه حتى المصطفى ولم يبن. يعني ولم ينقطع.

يشكل على هـٰذا أن المسانيد فيها ما هو منقطع، وفيها ما هو من رواية التابع، وفيها ما هو من رواية من لم يدرك النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فالجواب: أن الغالب في المسانيد هو ما انتهت روايته إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإسناد المتصل، هـٰذا الغالب في المسانيد، كمسند الإمام أحمد، ومسند الفردوس، ومسند الشهاب، وقل عالم من أئمة الحديث إلا وله مسند، بالنظر إلىٰ هـٰذه المسانيد تجد أنها تنتهي إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسناد متصل.

وهـٰذا يرجح التعريف الأول الذي ذكره المؤلف رحمه الله في المتن.

فيكون المسند: المتصل الإسناد من راويه حتى المصطفى ولم يبن.

طيب ما الجواب عما جاء في هـٰذه المسانيد من المقاطيع ونحوها؟

ذكر أبو حاتم رحمه الله أنه ما ورد في مسنده من ذلك إنما هو على سبيل التجوّز، فأدخلوا المقاطيع على سبيل التجوز والتبع، وإلا فإنها ليست مسانيد، كذا إدخال من اختلف في صحبته أو من كان له رؤية، فإن أبا حاتم أدخل في مسنده الرواية عن هٰؤلاء، مع عدم انتهاء الحديث إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تجوزاً، وقد نص على ذلك.

فدل العمل الذي جرى عليه العلماء أنّ المسند هو إيش؟ هو ما اتصل إسناده من راويه إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

فإذا سمعت مسند الإمام أحمد، ماذا يتبادر لك؟ هل هـٰذا الكتاب آثار الصحابة وأقوال التابعين؟ الجواب: لا، يتبادر إلىٰ ذهنك أن المسند هو الكتاب الذي حوى النقل من الرواة إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالأسانيد المتصلة، وما كان فيه مما يخالف ذلك، فهو تابع وليس أصليّاً؛ أي إنهم أدخلوه تجوزاً وتبعاً.

  

ثم قال رحمه الله بعد أن فرغ من ذكر المسند:

وَما بِسَمْعِ كُلِّ راوٍ يَتَّصِلْ *** إسْنادُهُ لِلْمُصْطَفَى فَالْمُتَّصِلْ

ذكر المؤلف رحمه الله هنا ضابط الحديث المتصل، فضبطه بماذا؟ قال:

وَما بِسَمْعِ كُلِّ راوٍ يَتَّصِلْ *** إسْنادُهُ لِلْمُصْطَفَى فَالْمُتَّصِلْ

أي فيسمى الحديث المتصل.

إذاً الحديث المتصل هو الذي ينقله الراوي عن شيخه حتى ينتهي به إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ دون انقطاع.

ويسمى هـٰذا بالموصول، يطلق عليه المتصل في كلام الأئمة، ويطلق عليه الموصول. ويطلق عليه أيضاً اسم المؤتصل بالهمز.

وقد وسع بعض أهل الاصطلاح استعمال المتصل، فأطلقوه على ما اتصل إسناده إلىٰ من دون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكن هـٰذا لا يكون إلا بتقييد؛ يعني لا بد أن يقيد ذلك فيقال: متصل إلىٰ الزهري، متصل إلىٰ سعيد بن المسيب... وما أشبه ذلك.

أما إذا أطلق المتصل فإنه يقصد به ما انتهى إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما اتصل إسناده إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وَسَلَّمَ.

  

ثم قال المؤلف رحمه الله في بيان نوع جديد من أنواع الحديث:

مُسَلْسَلٌ قُلْ ما على وَصْفٍ أتى *** مِثْلُ أما وَاللهِ أنْباني الفَتى

المسلسل نوع من أنواع الحديث، وهو في الحقيقة من ملح علم الحديث، وليس من العلم المقصود لذاته؛ لأنه كمال، وليس مما يتعلق بصحة الإسناد وعدمه؛ يعني المسلسل ليس فيه النظر إلى: هل الحديث صحيح أو ليس بصحيح، وليس حكماً على الحديث بالصحة والضعف، بالقبول أو عدمه، بالاحتجاج أو لا، إنما هو وصف في المتن أو السّند.

وقد عرّفه المؤلف رحمه الله بأنه: (ما على وَصْفٍ أتى)؛ يعني الحديث الذي جاء على وصفٍ اتفق في جميع طبقاته -يعني في جميع طبقات رواته-.

ولذلك عرفه في تدريب الراوي فقال: المسلسل هو ما تتابع رجال إسناده على صفة أو حالة، للرواة تارة أو للرواية تارة. تدريب الراوي للسيوطي(2/637)

فيكون هناك اتفاق في صفة الأداء، أو في أسماء الرواة، أو ما أشبه ذلك من أنواع الاتفاق.

إذاً المسلسل يمكن أن نقول بتعريف موجز: هو ما تسلسل إسناده بصفة ما؛ يعني على صفة معينة، وهـٰذه الصفة إما أن تكون في صيغة الأداء؛ يعني في طريقة النقل، كأن يقول كل راو من رواة الحديث في طريقة تبليغ الحديث وأدائه: حدثنا فلان، فيكون الجميع اتفقوا على صفة الأداء بهذا اللفظ، فكلهم يقول: حدثنا، كل من روى قال: حدثنا، أو أن يتفقوا مثلاً بالاسم، فيكون جميع من روى الحديث اسمه محمد، فيسمى مسلسلاً بالمحمدين، مسلسلاً بالتحديث، أو أن يكونوا من بلد من البلدان؛ كأن يروي الحديث أهل الشام، فيكون مسلسلاً بالشاميين.

وأشهر حديث عند أهل الشام وأشرفه قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث أبي ذر: ((قال الله تعالىٰ: يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)) مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، حديث رقم (6577).  قال الإمام أحمد: وهـٰذا أشرف حديث عند أهل الشام، وهو مسلسل بالشاميين، فجميع الرواة عن أبي ذر رواة هـٰذا الحديث هم من أهل الشام.

يمكن أن يكون الاتفاق في حال الراوي، كما ذكر المؤلف رحمه الله الآن، المؤلف مَثَّل للمسلسل بصيغة الأداء فقال: (مِثْلُ أما وَاللهِ أنْباني الفَتى). يعني أن يتفق جميع رواة الحديث في نقله بأن يقولوا: (والله أنبأنا) فيقسمون ويستعملون هـٰذه الصيغة في الأداء وهي صيغة الإنباء، هـٰذا مثال:

كَذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيْهِ قائما *** ..................

أيضاً من المسلسل أن يتفق رواة الحديث في جميع طبقاته على صفة في حال الراوي، فهنا (كَذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيْهِ قائما) كل راو ينقل عن الآخر يقول: حدثني فلان هـٰذا الحديث وهو قائم. قال:

..................*** أوْ بَعْدَ أنْ حَدَّثَني تَبَسَّما

فيتفق رواة الحديث على هـٰذه الصفة، وهي أن كل راوٍ منهم يحدث بالحديث ثم يتبسم.

من هـٰذا ما مر علينا قريباً مما ذكره الحاكم في كتاب معرفة الحديث من حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وفيه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((آمنت بالقدر خيره وشره، حلوه مره)) أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق(23/208)، وأبو طاهر السلفي في الطيوريات(297)، قال الذهبي: كلام صحيح ، لكن الحديث واهٍ لمكان الرقاشي. ينظر سير أعلام النبلاء(8/287) وأخذ بلحيته. أي إن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذ بلحية نفسه. ثم رواه أنس وقال: آمنت بالقدر خيره وشره، وحلوه ومره. وأخذ بلحيته، وهلم جرًّا. وهـٰذا الحديث مسلسل بهذه الصفة، فجميع الرواة نقلوا الحديث على هـٰذه الهيئة، ولذلك قال وهو مثال لما ذكر:

كَذَاكَ قَدْ حَدَّثَنِيْهِ قائما *** أوْ بَعْدَ أنْ حَدَّثَني تَبَسَّما

هـٰذا فيه اتفاق الرواة على حال، أو على صفة الرواية، كيف رووه.

من الأحاديث المشهورة في المسلسل أي المسلسل بصفة ما، قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمعاذ: ((يا معاذ إني أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)). أخرجه أبو داود (1522)، والنسائي (1303)، وأحمد (22119)، حديث ثابت. ينظر فتح الباري لابن حجر(11/137) فإن جميع رواة هـٰذا الحديث كلهم قالوا لمن نقل عنهم: إني أحبك، فلا تدع دبر كل صلاة. فهو مسلسل بالمحبة.

كذلك من المسلسلات المشهورة المسلسل بالأولية وهو أن يكون الحديث أول حديث يسمعه من الشيخ، وهو ما في الصحيحين: ((الراحمون يرحمهم الله)) سنن الترمذي: كتاب البر والصلة، باب ما جاء في رحمة الناس، برقم (1924)، قال الترمذي: حسن صحيح، قال الشيخ الألباني: صحيح. والحديث ليس في الصحيحين. فإن هـٰذا الحديث مسلسل بالأولية، كل راو نقل هذا الحديث قال: وكان أول حديث سمعته من فلان. أي من راوي الحديث.

ومن المسلسلات ما رواه الإمام مسلم في حديث الخلق وتوزيع الخلق على الأيام، فإنه قال: أخذ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدي، هـٰذه في رواية مسلم، وفيما نقله من حديث أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آله وَسَلَّمَ شبك أصابعه أو يده بيد أبي هريرة وقال: ((خلق الله السماوات يوم السبت))، وفي مسلم: ((إن الله تعالىٰ خلق التربة يوم السبت)). مسلم: كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب ابتداء الخلق وخلق آدم عليه السلام. حديث رقم (2789). وكل راو نقل هـٰذا الحديث نقله على هـٰذه الهيئة: شبك يده بيد الناقل عنه.

إذاً التسلسل في رواية الحديث:

إما أن يكون بصيغة الأداء.

وإما أن يكون بحال الراوي.

وإما أن يكون بأسماء الرواة، أو بلدانهم، أو نسبتهم، أو صفة الرواية، وما أشبه ذلك.

طيب هل هـٰذا محصور؟ الجواب: ليس محصوراً.

فما ذكره ابن الصّلاح رحمه الله من أقسام المسلسل ليست أقساماً حاصرة، إنما هي أمثلة في الحقيقة، فأنواع المسلسل لا تنحصر؛ بل هي كثيرة.

طيب، ما فائدة هـٰذا من حيث ثبوت الحديث وعدمه؟ كون الحديث يرد مسلسلاً ما الذي يفيد؟

قال بعض العلماء: إن الفائدة لطيفة من لطائف الإسناد، وليس له فائدة من حيث الثبوت.

وقال آخرون: إن له فائدة من حيث الثبوت، وهي:

الدلالة على ضبط الراوي، حيث ضبط صفة النقل، هـٰذا واحد.

الثاني: تحقق اتصال السلسلة، الطريق، وذلك أن كل راو يخبر بما يدل على أنه التقى بشيخه، فينتفي حذر التدليس والانقطاع؛ لأن كل راو يخبر عن حال من نقل عنه، ورواه.

مع هـٰذا هل أفادت المسلسلات في ثبوت الحديث؟ الواقع أنها لم تفد، وأن ما ذكروه إنما هو كلام نظري لا يساعده الواقع، كيف هـٰذا؟

نقول: إن غالب ما ورد من المسلسلات ضعيف، ولذلك قال ابن الصلاح: قلما يسلم حديث مسلسل. أي قلما يسلم ثبوت هذه الصفة أولاً، ويمكن أن يفهم كلامه على أنه قلما يصح حديث من الأحاديث المسلسلة، وذلك أن كثيراً من الرواة الذي يطلبون الغرائب يطلبون مثل هـٰذا، فيتساهلون بالنقل عن الضعفاء حتى يتحقق لهم حصول السَّلْسَلَة.

ما هو أصح المسلسلات؟ أصح المسلسلات عند العلماء حديث قراءة سورة الصف، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأها على أصحابه ثم حدّثهم بالحديث، ونقله عبد الله بن سلام رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وقرأها على من روى منه، وكذلك أبو سلمة بن عبد الرحمـٰن بن عوف الراوي عن عبد الله بن سلام، وهكذا  رواة هـٰذا الحديث، كلهم قرأ سورة الصف كاملة ثم حدث بالحديث، ولذلك قالوا: من أصح المسلسل الذي يروى في الدنيا المسلسل بقراءة سورة الصف، فكل راو قرأ سورة الصف في نقله للحديث، ابتداء بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وانتهاء بنقلته، والحديث في جامع الترمذي بسند لا بأس به، قال عنه الترمذي: حديث حسن.

ثم قال رحمه الله:

عَزِيزُ مَرْوِيْ اثْنَيْنِ أوْ ثَلاثَهْ *** مَشْهُورُ مَرْوِيْ فَوْقَ ما ثَلاثَهْ

مُعَنْعَنٌ كَعَنْ سَعِيدٍ عَنْ كَرَمْ *** وَمُبْهَمٌ ما فِيهِ رَاوٍ لَمْ يُسَمْ

المؤلف رحمه الله ذكر في هـٰذا البيت نوعين من أنواع الحديث: الحديث العزيز، والحديث المشهور.

والحقيقة أن مثل هـٰذه المباحث يا إخواني هي مباحث نظرية قليلة الفائدة من حيث الثبوت؛ لأن العزيز الذي أطال العلماء في بحثه وطلب الأمثلة له لا يوجد له مثال صحيح سالم من اعتراض.

على كل حال نقرأ؛ لأنا نقرأ كتاباً نمر على ما فيه.

  

يقول رحمه الله: (عَزِيزُ مَرْوِيْ اثْنَيْنِ أوْ ثَلاثَهْ). بيّن المؤلف رحمه الله هنا معنى الحديث العزيز.

والعزيز من حيث المعنى اللغوي هو النادر القليل، ويمكن أن يراد به القوي الغالب؛ لأن العزة وصف يطلق على القوة والغلبة، فالمعنى اللغوي للعزيز الندرة والقوة، وهذان الوصفان منطبقان على المعنى الاصطلاحي، فإنه يقل ويندر وجود هـٰذا النوع، حتى أن أهل الحديث اختلفوا في وجوده، هل هو موجود أو لا؟ وذهب كثير من المحققين إلىٰ أنه لا وجود له؛ لأنه لا يسلم مثال من مناقشة.

وأيضاً يصدق عليه أنه قوي؛ لأن ما رواه اثنان أقوى مما انفرد به واحد، فإذا جاء آخر بالخبر كان ذلك تقوية له وعضداً، ومنه قول الله تعالىٰ: ﴿فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ سورة : يس (14)؛ أي قوّينا الرسولين السابقين برسولٍ ثالث، فالتعزيز يطلق على التقوية.

المؤلف رحمه الله في تعريف العزيز مشى على غير المشهور، فقال: (عَزِيزُ مَرْوِيْ اثْنَيْنِ أوْ ثَلاثَهْ) فجعل ما رواه اثنان عن اثنين عن اثنين في طبقات السند عزيزاً، وكذلك ما رواه ثلاثة عن ثلاثة عن ثلاثة، أو ثلاثة عن اثنين.

والمشهور عند أهل الاصطلاح من المتأخرين أن العزيز هو: ما رواه اثنان في جميع طبقات السند.

ولا فرق في العزيز بين أن يكون منتهياً إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وبين أن يكون منتهياً إلىٰ الصحابي أو إلىٰ التابعي.

يعني وصف العزيز يصدق على كل ما استقل بروايته اثنان، سواء كان منتهى السند إلىٰ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعني مرفوعاً، أو موقوفاً أو مقطوعاً.

مما مثل له العلماء في الحديث العزيز حديث أنس بن مالك رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في الصحيحين قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين))صحيح البخاري(15). هـٰذا المثال الذي يذكره علماء الحديث وأهل الاصطلاح للعزيز، فقد رواه عن أنس اثنان: قتادة وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة: شعبة وسعيد... وهلم جرّاً. هكذا إلى أن انتشر وكثر نقلته.

وقد قال ابن العربي -رحمه الله-: إنه ليس في صحيح البخاري حديث غريب، وكل ما فيه لا يقل عن رتبة العزيز؛ يعني لا يقل عن رواية اثنين.

والعجيب أن هـٰذه الدعوى يكذّبها أول الكتاب وآخره -معنى يكذبها يعني ينفيها-.

أول الكتاب أول حديث في صحيح البخاري ما هو؟ ((إنما الأعمال بالنيات)) البخاري: كتاب بدء الوحي، باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ... حديث رقم (1)، ومسلم: كتاب الإمارة، باب قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنما الأعمال بالنية وأنه يدخل فيه الغزو وغيره من الأعمال، حديث رقم (1907). من رواه؟ عمر انفرد بروايته، فهو شيخ المسلمين في هـٰذا الحديث، وعنه علقمة بن وقاص، وعنه محمد بن إبراهيم التيمي، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم انتشر بعد ذلك.

وينقض هـٰذه الدعوى آخر حديث في صحيح البخاري: ((كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) البخاري: كتاب الدعوات، باب فضل التسبيح، رقم (6406)،  وهو أيضاً آخر حديث في البخاري، ومسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء، حديث رقم (2694). فقد انفرد بروايته أبو هريرة، ثم النقلة عن أبي هريرة تعددوا؛ لكن لم يروه عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فليس صحيحاً أن ما في البخاري كله من العزيز فما فوق؛ بل في صحيح البخاري ما هو غريب، والغرابة لا تنفي الصحة؛ بل أصح حديث قد يكون غريباً.

فحديث عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((إنما الأعمال بالنيات)) أجمعت الأمة على قبوله والاحتجاج به، مع أنه غريب في كم طبقة؟ في أربع طبقات؛ في عمر والناقل عنه علقمة، وعنه محمد، وعنه يحيى بن سعيد الأنصاري، ثم انتشر، ففي أربع مراتب وطبقات انفرد راو برواية الحديث.

ثم قال رحمه الله بعد العزيز: (مَشْهُورُ مَرْوِيْ فَوْقَ ما ثَلاثَهْ). فعدَّله الشيخ عبد الستار فيما أدخله من تعديل على هـٰذا النظم فقال:

........................ *** مَشْهُورُ مَرْوِيْ فَوْقَ ما ثَلاثَهْ

 وذلك أن قوله: (مَشْهُورُ مَرْوِيْ فَوْقَ ما ثَلاثَهْ) يوهم أن الثلاثة ليس من المشهور، وهـٰذا خلاف ما عليه أكثر العلماء.

فإن المشهور عند أكثر العلماء ما رواه ثلاثة فأكثر في جميع طبقات السّند، هـٰذا الذي جرى عليه اصطلاحهم.

والمشهور في كلام العلماء يُطلق على هـٰذا المعنى الاصطلاحي، ويطلق أيضاً على المستفيض؛ أي ما انتشر وشاع ذكره ولو لم يكن منطبقاً عليه أنه رواه ثلاثة عن ثلاثة؛ بل إن بعض الأحاديث الضعيفة التي لا إسناد لها أصلاً توصف بأنها مشهورة، من ذلك: ((حب الوطن من الإيمان)) انظر السلسلة الضعيفة للشيخ الألباني برقم (36). هـٰذا حديث لا أصل له، وهو مشهور أو غير مشهور؟ مشهور عند العامة.

أيضاً من الشهرة ما يكون شهرة نسبية، فيشتهر مثلاً عند الأصوليين حديث من الأحاديث، مثل حديث: ((عُفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)). أخرجه ابن ماجه (2045)، وابن حبان (7219)، والطبراني (11274) (11/ 133)، قال ابن عدي: حديث منكر. الكامل في الضعفاء(6/494) هذا مشهور عند علماء الأصول.

أيضاً من الشهرة النسبية ما قد يَشتهر عند أهل الحديث، أو ما قد يشتهر عند أهل الفقه، مما اشتهر عند أهل الفقه: ((أبغض الحلال عند الله الطلاق)). سنن أبي داوود: كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق، حديث رقم (2178)، وسنن ابن ماجه: كتاب الطلاق، باب حدثنا سويد بن سعيد، حديث رقم (2018)، قال الشيخ الألباني: ضعيف.

فالشهرة تُطلق على المستفيض الذي كثر نقله والتكلم به، سواء كان منطبقاً على اصطلاح المحدثين -يعني رواه ثلاثة في طبقات الإسناد فأكثر- أو لا.

مثال للحديث المشهور الذي رواه ثلاثة في طبقات الإسناد، ما رواه الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو: ((إنّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، وإنما يقبض العلم بموت العلماء)) البخاري: كتاب العلم ، باب كيف يقبض العلم، حديث رقم (100) ، ومسلم: كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن في آخر الزمان، حديث رقم (2673) .. هـٰذا  حديث مشهور في الاستعمال بمعنى المستفيض، وحديث مشهور في الاصطلاح؛ لأنه رواه ثلاثة فأكثر في جميع طبقات الإسناد.

  

اختبر تحصيلك

يجب تسجيل الدخول اولا لتتمكن من مشاهدة الاختبار التحصيلى

التعليقات


التعليق