(وأما عروض التجارة، وهي كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح: فإنه يقوَّم إذا حال الحول بالأحظ للمساكين، من ذهب وفضة، ويجب فيه ربع العشر).
هذا الصنف الرابع من أصناف الأموال التي تجب فيها الزكاة، ويسمونها ماذا؟، مما يدخل في الوعاء الزكوي، على حسب اصطلاح المعاصرين.
يقول: (وأما عروض التجارة). عروض جمع عرْض، بتسكين الراء، وهو ما يعرض للبيع، فـ (عروض التجارة). هي كل ما يعرض للبيع، سواءً كان مما تجب فيه الزكاة في أصله كبهيمة الأنعام، أو كان مما لا تجب فيه الزكاة كالخيل، والعقار، والمتاع، والثياب، وغير ذلك مما يباع ويعرض للاتجار.
(عروض التجارة). عرفها المصنف بقوله: (وهو كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح). وانتبه لهذا القيد، (وهو كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح). يعني من أجل التربح والتكسب، لا لأجل الاستبدال.
فلو أن إنسانًا عنده سيارة وأراد أن يبيعها، لا للتربح، هو يريد سيارة أخرى، أو مسكن، يريد أن يشتري مسكنًا آخر، أو استغنى عنه ولا يريده ويريد نقودًا، أو ما إلى ذلك من الأشياء التي يملكها ثم يستغني عنها، هذه ليست للتجارة، (إنما هي كل ما أعد للبيع والشراء لأجل الربح). أي لأجل التكسب، وهذا الصنف من أموال الزكاة، اختلف العلماء في وجوب الزكاة فيه على قولين:
• فعامة العلماء على وجوب الزكاة في عروض التجارة.
وعمدتهم في هذا أنه مال، وهو ملحق بالذهب والفضة، واستندوا إلى ما جاء في حديث سمرة أنه قال: «كنا نؤمر بإخراج الزكاة مما نعده للبيع»[أخرجه أبو داود في سننه(1562)، وضعفه الألباني في الإرواء]. والحديث اختلفوا فيه، فضعفه بعضهم، وصححه آخرون، والأكثر على تضعيفه، لكن مع هذا عامة العلماء إلا من شذ على وجوب الزكاة في عروض التجارة.
وعمدتهم ما ذكرت، من أنها تابعة في أحكامها للنقدين، وما ورد من حديث وآثار الصحابة، فما ورد من حديث يعتضد بما جاء من آثر الصحابة الدالة على وجوب الزكاة فيما يعرضه الناس للبيع.
وهذا النوع من الأموال الزكوية، تابع في نصابه وفي مقدار الواجب فيه، تابعٌ لزكاة النقدين، ولهذا يقول الشيخ -رحمه الله- عن زكاة عروض التجارة في بعض مؤلفاته، "وهي تابعة في أحكامها للنقدين، من حيث النصاب، ومن حيث مقدار الزكاة الواجبة".
فالنصاب إما أن يعتبر بالذهب وإما أن يعتبر بالفضة، والقدر الواجب هو ربع العشر، ولذلك قال: (ويجب فيه ربع العشر). كما تقدم في حديث أنس في قوله « وفي الرقة ربع العشر فإن لم تكن إلا تسعين ومائة فليس فيها شيء إلا أن يشاء ربها »[ صحيح البخاري: باب زكاة الغنم، حديث رقم: 1386.]. وهذه الأموال التي تجب فيها الزكاة يجمعها جمع واحد وهي أنها أموال نامية بالفعل، أو بالتهيؤ للنمو، يعني إما أنها نامية فعلًا، كبهيمة الأنعام، وما ينتج عنها، أو بالتهيؤ، يعني هي قابلة للنمو وتحتاج من ينميها كالنقدين، والذهب والفضة.
وبه يعرف لماذا وجبت الزكاة في هذه الأموال؟، لأنها نامية، خلافا لأموال القنية التي يملكها الإنسان لاستعماله، هذه لا تنمو، ليس القصد منها النماء، إنما المقصود منها الانتفاع، ولذلك لا تجب فيها الزكاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين :عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلاَ فَرَسِهِ صَدَقَةٌ »[ صحيح البخاري: باب ليس على المسلم في عبده صدقة، حديث رقم: 1395 ،صحيح مسلم: باب لاَ زَكَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَفَرَسِهِ، حديث رقم:2320.].
يقول المصنف -رحمه الله- في كتاب الزكاة الشيخ عبد الرحمن السعدي يقول في منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين يقول: (ومن كان له دينٌ ومالٌ لا يرجو وجوده، كالذي على مماطل أو معسر لا وفاء له، فلا زكاة فيه ) .
هذه المسألة وهى زكاة الدين غير المرجو، أي: الذي لا يرجى تحصيله، إما لكونه على مماطل، أو على معسر، فإنه لا زكاة فيه، هكذا قرر المصنف -رحمه الله- أنه لا زكاة فيه؛ لأن هذا المال لا نماء له من جهة، وهو أيضًا غير مملوك ملكًا يمكنهم معه التصرف، ولذلك رأى أنه لا زكاة فيه، وهذا أحد الأقوال في المسألة، وثمة قول أنه إذا كان كذلك فإنه يزكيه لعام واحد.
وفي قول آخر: إن كان الدين على من حاله كما ذكر، مماطل وهو الذي يؤخر ويسوف في الوفاء، أو معسر لا وفاء له، أو هو غير القادر الذي ليس له مال يوفى، فإنه إذا قبض زكاة لعام واحد، ولو بقي أعوامًا طويلة، هذا ما ذهب إليه به بعض أهل العلم.
والقول الثالث: أنه يزكيه كغيره من الديون إذا قبضه لما مضى، والذي يظهر أن ما ذهب إليه المصنف -رحمه الله- له وجه قوي؛ لأن هذا المال لا ثبات للملك فيه، فإنه عرضة للسقوط والزوال، وبالتالي لا تتم به النعمة التي توجب فرض الزكاة فيه.
قال: (وإلا ففيه الزكاة). يعني إن لم يكن على هذه الحال، نعم ثاني ما ذكر المال الذي لا يرجى وجوده، المال الضائع، والمفقود والمسروق والمغصوب الذي لا يرجى تحصيله، فهذا أيضًا لا زكاة فيه؛ لأن من شروط وجوب الزكاة الملك، والملك هنا مختل، غير تام، الملك هنا منخرم بما جرى على المال من ضياع وذهاب، وعدم رجاء وجود.
قال: (وإلا ففيه الزكاة). يعني إذا لم يكن الدين على نحو ما تقدم، من أنه على مماطل أو معسر ففيه الزكاة، وهذا أحد الأقوال في مسألة الزكاة في الدين.
وقوله (وإلا ففيه الزكاة). يعني كسائر الأموال، تجب زكاته لكل عام، وهو على الخيار، بين أن يؤدي ذلك في كل سنة بسنتها، أو أنه يؤخر إخراج الزكاة إلى حين رجوع الدين وقبضه، وكما ذكرت هذا أحد الأقوال في المسألة.
والزكاة في الدين فيها أقوال لأهل العلم، منهم من يرى ما ذكره المصنف وهو مذهب الجمهور، أن الزكاة تجب في الدين المرجو المقدور عليه، كل سنه بسنتها، لكن له أن يؤخر إخراج الزكاة إلى القبض.
والقول الثاني: أنه يفرق بين الدين الحال، والدين المؤجل، فلا زكاة في الدين المؤجل، بخلاف الحال وإلى هذا ذهب ابن حزم، وبه قال الشيخ الإسلام -رحمه الله- في بعض فتاويه.
وهناك قول بأن الدين لا زكاة فيه، لضعف الملك، وكأن الملك يقتضي التصرف في المملوك، والانتفاع به، والمال الذي في ذمة الناس، في ذمة الآخرين، لا يتحقق فيه هذا الوصف، وهو التصرف والانتفاع.
والأقرب -والله أعلم- أن الدين إذا كان مقدورًا عليه، كالذي في يده، متى ما أراده تمكن منه، ومثاله في معاملات الناس المعاصرة اليوم الحسابات الجارية، الحسابات الجارية حقيقتها أنها دين على المصارف، لكنه في يد مالكه، كالذي في محفظته، أو كالذي في خزانته، وبالتالي لا أرى أن هذا يجرى فيه الخلاف؛ لأن هذه المصارف مستودعات للأموال، وإن كانت دينًا، لكنها تبقى مستودعًا للمال، ومتى شاء الإنسان قبض ماله، وبالتالي تجب الزكاة في الحسابات الجارية، وإن كانت ديونًا على كل الأقوال.
طبعًا هناك أقوال أخرى، أما ما كان من الديون في ذمم الناس، وليس مقدورًا عليه عند طلبه، بل يحتاج إلى إمهال أو الانتظار، ولو لم يكن صاحبه معسرًا ولا مماطلًا فالأقرب أن هذا لا زكاة فيه، إنما إذا قبضه زكاة لعامٍ واحد.
ثم قال -رحمه الله-: (ويجب الإخراج من وسط المال). هذا في جنس الواجب، في الزكاة، الذي يجب إخراجه في الزكاة من وسط المال؛ لقول الله تعالى: ﴿ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾[ سورة: البقرة، الآية: (267).].
فنهى الله تعالى عن قصد الأراذل من المال، وأمر بإخراج الطيب، كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قصد الكرائم من المال، يعني أشرفه وأطيبه، فإن النفوس لا تجد بذلك، فتتعلق النفوس بهذا المال، إنما لواجب من الوسط، وهذه قاعدة الشريعة في كل ما يجب من حقوق المالية، سواء نفقة، أو كفارة، أو كان زكاة، أو كان غير ذلك.
قال -رحمه الله-: (ولا يجزئ من الأدون). أي: لا تبرأ الذمة بإخراج الزكاة من الأدون، أي: الأقل، هذا معنى الأدون، يعني الدون من الأموال، (ولا يلزم الخيارُ). أي: لا يجب الخيار من المال (إلا أن يشاء ربه)، إن تصدق به، وجادت به نفسه، فشأنه، وإلا فلا يجب.
قال: (وفى حديث أبى هريرة مرفوعًا: «وفي الركاز الخمس»[ البخاري الزكاة (1428) ، مسلم الحدود (1710)]. متفق عليه).
ذكر الركاز ضمن ما يجب في الأموال، هو على وجه الاستطراد، فالركاز ليس زكاةً على الراجح من قول العلماء، ليس زكاةً، ولا يجب أن يصرف مصرف الزكاة على الراجح من قولي العلماء، بل يصرف في مصالح المسلمين، كمصارف الفيء، لعدم الدليل على أنه يصرف كما تصرف الأموال الزكوية.
قوله: (في الركاز). الركاز هو: الكنز الذي يظهر عليه علامات الكفار، ولا يدل على أنه لغير المسلمين، أما إذا كان الكنز الموجود في الأرض للمسلمين، أو ظهرت عليه علامات المسلمين، فإنه يكون في حكم اللقطة، ولا يكون ركازًا، فإذا وجد الإنسان صناديق مال، عليها علامات تدل انه لمسلمين فإنه ماذا؟، تكون لقطة، والركاز إنما في المال الذي لأهل الجاهلية، لأهل الكفر، ولذلك عرفه بعض الفقهاء بأن الركاز دفن الجاهلية، "دفن" مصدر بمعنى مفعول، بمعنى مدفون الجاهلية، وهو ما دفن في الجاهلية، وهو ما لا علامة فيه تدل على انه لمسلمين.
هذا ما يتصل بهذه المقدمة التي ذكرها المؤلف -رحمه الله- في كتاب الزكاة.