قال الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحمه الله تعالى، في كتابه ( منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين)، باب أهل الزكاة ومن تدفع له ...
لا تدفع الزكاة إلا للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله بقوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [ سورة: التوبة الآية 60] ويجوز الاقتصار على واحدٍ منهم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ : (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال
: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى الْيَمَنِ قَالَ « إِنَّكَ تَقْدَمُ عَلَى قَوْمٍ أَهْلِ كِتَابٍ فَلْيَكُنْ أَوَّلَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ عِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) [ صحيح: البخاري، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع، 4090، صحيح مسلم : باب الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَشَرَائِعِ الإِسْلاَمِ، حديث رقم: 132.] متفق عليه ، ولا تحل الزكاة لغني، ولا لقوي مكتسب، ولا لآل محمد وهم بنو هاشم ومواليهم، ولا لمن تجب عليه نفقته حال جريانها، ولا لكافر.
فأما صدقة التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء وغيرهم ، ولكن كلما كانت أنفع نفعًا عامًّا أو خاصًّا فهي أكمل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ »[ صحيح مسلم: باب كَرَاهَةِ الْمَسْأَلَةِ لِلنَّاسِ، حديث رقم: 2446.] رواه مسلم .
وقال عمر رضي الله عنه :كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى. حَتَّى أَعْطَانِي مَرَّةً مَالًا فَقُلْتُ أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « خُذْهُ وَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلاَ سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لاَ فَلاَ تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ »[ صحيح مسلم: باب إِبَاحَةِ الأَخْذِ لِمَنْ أُعْطِىَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ وَلاَ إِشْرَافٍ، حديث رقم: 2452.] رواه مسلم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد ،،، يقول المصنف -رحمه الله- باب أهل الزكاة ومن تدفع إليهم، ختم المصنف -رحمه الله -كتاب الزكاة ببيان المستحقين للزكاة، فقال: باب أهل الزكاة، أهل الشيء هم المختصون به، والمتأهلون له، فأهل الزكاة هم المستحقون لها، المتأهلون لأخذها الذين تصرف إليهم، ولذلك بين مراده بأهل الزكاة بقوله: ( ومن تدفع لهم ) يعني الذي تدفع إليه، والذين تدفع لهم الزكاة صنفان في الجملة من تدفع الزكاة له بحاجته هذا الصنف الأول، والصنف الثانى: من تدفع له أو إليه الزكاة للحاجة إليها.
وقد جمعهم الله تعالى في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [ سورة: التوبة الآية 60]، فهؤلاء هم الأصناف الثمانية، وبالنظر إليهم يتنزل هذا التقسيم، فالفقراء والمساكين تدفع لهم الزكاة لحاجتهم ، وفي سبيل الله والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم هؤلاء تدفع لهم الزكاة بالحاجة إليهم.
يقول الله -جل وعلا-: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ) وهذا الحصر يفيد أنه لا تكون الزكاة صرفًا إلا في هؤلاء وهم ثمانية أصناف. يقول المصنف -رحمه الله-: ( لا تدفع الزكاة إلا للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى ) ودليل ذلك الحصر في قوله: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ )، فالآية يقصد بالصدقات فيها الزكاة الواجبة، أما ما عداها من الصدقات فإنها تكون للفقراء وتكون لغيرهم، كما تكون للمذكورين وغيرهم كما تقدم .
قوله تعالى: (لْلفُقَرَاءِ) الفقراء جمع فقير، والفقير هو أشد الآخذين للزكاة لحاجتة، ولذلك بدأ بذكره قبل غيره، ويشترك معه المسكين في الحاجة، لكن الفقير أشد حاجة، يقول- جل وعلا-: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ) فالفقراء هم الذين لا يجدون الكفاية مطلقًا، أي: لا يجدون شيئًا، أو يجد بعض الكفاية لكنها دون نصف السنة، هكذا يضبطه الفقهاء -رحمهم الله- في بيان حد الفقر، ومن لا يجد شيئًا، أو يجد بعض كفايته دون نصفها، أي: دون نصف السنة.
والمسكين، وهذا ثاني الأصناف المذكورة في الآية ، الذي يجد نصف حاجته، لكنه لا يجد الكفاية ، نصف حاجته فأكثر لكنه لا يجد الكفاية.
هكذا فرق العلماء بين الفقير والمسكين وقيل غير ذلك في الفروقات، فقيل: المسكين أشد حاجة من الفقير، لكن الذي عليه الجمهور أن الفقير أشد.
أما ربط ذلك بما ذكره من وجود نصف الكفاية أو ما دون النصف من الكفاية أو وجود النصف فأكثر يكون مسكينًا، فهذا لا دليل عليه، وإنما الجمع بينهما الحاجة والفقير أشد حاجة من المسكين، وقد جعل الله تعالى هؤلاء مستحقين للزكاة، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ)، اللام هنا للاستحقاق، والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم ،وقوله:( وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا)، هم كل من عمل واشتغل في الزكاة حفظًا أو جباية أو رعاية وصيانة أو حملًا أو كتابة، فكل من اشتغل بشيء يتعلق بالزكاة بأى وجه من أوجه الشغل، فإنه يدخل من العاملين عليها، لكن هذا ينصبهم الإمام، ولا أجرة على عملهم، أما من لهم أجرة على عمله، فإن أجرته تكفيه عن أن يأخذ من الزكاة، وكذلك الذى يتبرع بالعمل فيجمع أموال الناس أو يعطيه الناس أموالهم هذا لا يسمى عاملًا عليها، إنما العامل من كان بتنصيب الإمام وتعيينه، لا من يتقبل من الناس الزكوات ويقوم بإيصالها للفقراء أو من يأتيه الناس بزكاة أموالهم إحسانًا للظن فيه وظنًا أنه يقوم به وأنه يعرف مواضع الحاجة والفقر والمسكنة، فهذا لا يدخل في العاملين عليها .
قوله: (وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ) المؤلفة قلوبهم هم؛ الذين يرجى من إسلامهم نفعًا لهم أو لقومهم، نفعًا لهم بمعنى نفعًا بهم أو لأقوامهم .
ولذلك قال العلماء المؤلفة قلوبهم هم السادة الموضوعون في أقوامهم ممن يرجى إسلامهم ويخشى شرهم ويرجى بعطيتهم زيادة إيمانهم واستقامة إسلامهم فيشمل هذا من كان كافرًا يرجى إسلامه ، ومن كان مسلمًا منهم حديث عهد بكفر، يثبت بهذا العطاء على الإسلام ويؤلف قلبه على هذا الدين والتمسك به.
الخامس من المذكورين في الآية، الرقاب، قال ( وَفِي الرِّقَابِ ) والرقاب جمع رقبة، والمقصود بهم الرقيق الذين يفكون بتحريرهم وإعتاقهم ، فالرقاب هم المكاتبون الذين اشترو أنفسهم من سادتهم ، فهم يسعون في تحصيل ما يفك رقابهم ، فيعانون على ذلك من الزكاة ، وقيل الرقاب المراد بهم الأسرى عند الأعداء.
والذى يظهر -والله أعلم- أن الرقاب يشمل هذا وذاك ، فيشمل بذلك الأموال في فك المكاتبين، وفي إعتاق الرقيق، وفي فك الأسارى من المسلمين عند الأعداء ، وغيرهم ممن يفك من ارتهان كالذي يحبس عند الكفار، ولو لم يكن أسرى في قتال إنما يحبس عند الكفار ويطلبون لفكه فداءً، فهذا كالأسير .
المقصود أن الرقاب الأصل فيهم المكاتبون، ويلحق بهم المكاتبون والرقيق، ويلحق بهم من هم مثلهم ومن هم أولى بالدخول منهم، ولكن لا يدخل في ذلك ما يجمع في الديات؛ لأن بعض الناس يستدل بهذه الآية في جمع المال في فك الرقاب في الديات، فإن هذا لا يدخل بالإجماع، لا خلاف بين العلماء بأنه لا يدخل في قوله: ( وَفِي الرِّقَابِ ) لأن الرقاب المقصود بها الرقيق ونحوهم ممن هم أولى كالأسارى عند أعداء الإسلام .
السادس ممن ذكرهم الله تعالى الغارمون، قال تعالى: (وَالْغَارِمِينَ)، والغارم هو من لزمه دين وهم صنفان، من غرم لإصلاح ذات البين ، ومن غرم لنفسه ثم عسر، من غرم لإصلاح ذات البين، من دفع مالًا ليصلح بين طائفتين من الناس ويطفيء الشر والفتنة، فهذا يعطى من الزكاة ولو كان غنيًّا ، وكذلك من غرم ممن كان فقيرًا، من كان عليه دين لا يجد وفاءه، هذا غارم، وكلاهما يدخل في قوله تعالى: (وَالْغَارِمِينَ).
والسابع ممن ذكر الله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) وهم المجاهدون في سبيل الله ، الغزاة المتطوعة الذين لا ديوان لهم، أما الغزاة الذين يأخذون أجرًا على القتال من بيت المال فهؤلاء ليسوا مصرفًا للزكاة ، إلا إذا كان ما يعطونه لا يقوم بحاجتهم ولا كفايتهم ، وإلا فالأصل لهم ديوان يتكفل بما يأخذونه من الرواتب والمخصصات .
فالآيه في قوله تعالى: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ) في الجهاد سواء كان ذلك للغزاة أوكان ذلك لتجهيزهم أو كان ذلك فيما يتعلق بشأنهم من كل وجه، ثم قال: (وَابْنِ السَّبِيلِ) وابن السبيل هو الغريب المنقطع في غير بلده ، فيقطع من الزكاة ما يوصله إلى بلده .
هؤلاء هم الأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله تعالى والذين تدفع لهم الزكاة ، وقد بين الله تعالى فرضية صرفها لهؤلاء بقوله: (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ) وإن كان الحصر مفيدًا لهذا المعنى ، لكن أكد الله تعالى هذا المعنى بأنه فريضة مكتوبة، (فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) .
ثم قال المصنف -رحمه الله-: ( ويجوز الاقتصار على واحد منهم ) أي: لا يجب استيعاب الثمانية، لا يجب استيعاب الثمانية، بل يكفى صرفه إلى واحد من هؤلاء الثمانية.
واستدل لذلك بقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ: (فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) [ صحيح: البخاري، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع، 4090، صحيح مسلم : باب الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَشَرَائِعِ الإِسْلاَمِ، حديث رقم: 132.] تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، ولم يذكر غير الفقراء . فدل ذلك على جواز صرف الزكاة إلى صنف واحد من الأصناف الثمانية وهذا هو الراجح من قول العلماء .
وذهب طائفة من أهل العلم إلى أنه تقسم الزكاة في هذه الأصناف كلها ، فيعطى كل هؤلاء جميعًا، كلًّا يعطى نصيبًا من الزكاة، فالزكاة إذا كانت ثمانية آلاف مثلًا ، يعطى كل صنف من هذه الأصناف ألفًا ، فتقسم الزكاة بينهم والصواب أنها لا تقسم، لا يجب قسمته بل له أن يضعها في صنف واحد وليتحر الأنفع والأحوج .
يقول -رحمه الله-: ( ولا تحل الزكاة لغني ولا لقوى متكسب ) أي: لا يحل دفع الزكاة لغني، وهو من خرج عن حد الفقر والمسكنة.
والمقصود بالغنى هنا حصول الكفاية، لا بلوغ الغاية في الغنى ، فليس الغنى المقصود به غاية الغنى ومنتهاه، إنما من لم يكن ذا حاجة إلى الأخذ لوجود الكفاية ولو كان في حدها الأدنى. (ولا لقوي مكتسب ) أي: لا تصح الزكاة لقوي مكتسِب؛ لأنه قادر على حصول الغنى، وإن كان غير غني ، لقوي مكتسِب أي عنده القدرة على الاكتساب . وقد جاء هذا فيما رواه أحمد وأصحاب السنن والنسائى من حديث عبد الله بن عدي بن خيار، أن النبي صلى الله عليه وسلم، أتاه رجلين في حجة الوداع وهو يقسم الصدقة، فسأله منها ، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم فيهما بصره وخفضه، ثم قال لهما: (إن شئتما أعطيتكما، ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب ) [ سنن أبي داود: باب مَنْ يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ وَحَدِّ الْغِنَى، حديث رقم: 1635. صحيح.]، فالنبي صلى الله عليه وسلم لما سئل وأبديا الحاجة أخبرهما بأنه لا يحل لهما أخذ هذا حال الغنى وحال القدرة والقوة على الاكتساب.
ثم قال: ( ولا لآل محمد ) وهم: بنو هاشم ومواليهم، أي: لا يجوز دفع الزكاة لآل محمد لأن هذه الصدقة طهرة لأصحابها، ولهذا جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ وَإِنَّهَا لاَ تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلاَ لآلِ مُحَمَّدٍ »[ صحيح مسلم : باب تَرْكِ اسْتِعْمَالِ آلِ النَّبِيِّ عَلَى الصَّدَقَةِ، حديث رقم: 2531.] ثم منع النبي صلى الله عليه وسلم منعها على نفسه وعلى أهل بيته، وهم بنو هاشم ومواليهم. كما ذكر أهل العلم بنو هاشم ومواليهم، أي: ومن كان من مواليهم، الرقيق الذين أعتقوهم، فلا يجوز دفع الزكاة إليهم وذهب بعض أهل العلم إلى جواز دفعها إليهم عندما يكون لا نصيب لهم من الفيء، أي: لا نصيب لهم من بيت المال، فإن كان لهم نصيب من بيت المال فلا يأخذون من الزكاة، أما إذا لم يكن لهم نصيب من بيت المال فإنما يأخذون كغيرهم من المسلمين سدًّا لحاجتهم. وذهب آخرون إلى المنع مطلقًا كما هو قول الجمهور.
والذي يظهر إذا تعطل نصيبهم من بيت المال ولم يكن لهم كفاية، فإن الواجب على الأمة كفايتهم، فإذا لم يحصل كفايتهم من غير الزكاة فلهم الأخذ من الزكاة بقدر ما تسد حاجتهم.
قال -رحمه الله-: ( ولا لمن تجب عليه نفقته حال جريانها ) أي: لا يصح دفع الزكاة لمن تجب عليه النفقة عليه، وهذا محل إجماع، وقوله: (حال جريانها) بيان أنه إذا كان في حال غير عدم جريانها، عدم وجوب الزكاة عليه فإنه عند ذلك يجوز دفع الزكاة، وذلك أنه إذا تعذر عليه كفايتهم من النفقة الواجبة فإنه يكون كسائر الناس في استحقاق الزكاة، بل هو أولى لما له من القرابة، وإنما منع من دفع الزكاة في حال وجوب النفقة وجريانها؛ لأن بها يدفع الإنسان عن ماله، والزكاة لا يقصد منها الدفع عن المال إنما القصد منها تطهيره وتطيبه.
يقول -رحمه الله- في بيان ما لا تدفع إليه الزكاة قال: (ولا لمن تجب عليه نفقته حال جريانها) أي ولا يجوز دفع الزكاة لمن يجب عليه الإنفاق عليه حال جريان النفقة، حال جريان وجوبها، وهذا كما ذكرت محل إجماع، فقد أجمع العلماء على أن الزكاة لا يجوز دفعها إلى الوالدين على سبيل المثال، ولا على الولد في الحال التي يجب على الدافع أن ينفق عليهم.
وأجمعوا أيضًا على أن الرجل لا يجوز أن يعطى زكاته لزوجته، وأجمعوا على أن الرجل لا يعطي زوجته الزكاة؛ لأن نفقتها واجبة عليه، لكن في حال تعطل ذلك، حال كون الإنسان يعجز عن الإنفاق ويكون عنده زكاة ، ففي هذه الحال من العلماء من حفظ هذا المنع ، فقال: لا يجوز أن يعطيه الزكاة في هذه الحال، لأنه ممن يجب الإنفاق عليه.
وقال آخرون: بل يجوز دفع الزكاة إليهم، ولا وجه لمنع الزكاة في هذه الحال، ودفعها إليه أولى في هذه الحال، ونؤيد هذا أنهم حللوا المنع من دفع الزكاة، بأن العلة في المنع هو أن الدافع يوفر ماله لترك الإنفاق الواجب ويدفع ذلك بالزكاة، وهذا غير متحقق فيما إذا ما كانت النفقة ساقطة للعجز .
يعنى إذا سقطت النفقة للعجز فعند ذلك لا مانع، لا يوجد مانع من دفع الزكاة في هذه الحال بل هم أولى، وإنما يمنع الإنسان من إعطاء زكاته لمن دفعها له إحياءً لماله، كالأولاد والأهل الذين ينفق عليهم. وكالغريم الذي يدفع له الزكاة حتى يوفيه دينه، ويرد المال إليه ونحو ذلك .
قال: (ولا لكافر)، أي: لا تصح الزكاة للكافر؛ لأنها من الحقوق التى تكون بين المسلمين، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (فَإِذَا عَرَفُوا اللَّهَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي يَوْمِهِمْ وَلَيْلَتِهِمْ فَإِذَا فَعَلُوا فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ زَكَاةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ فَإِذَا أَطَاعُوا بِهَا فَخُذْ مِنْهُمْ وَتَوَقَّ كَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ) [ صحيح: البخاري، باب بعث أبي موسى ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما إلى اليمن قبل حجة الوداع، 4090، صحيح مسلم : باب الدُّعَاءِ إِلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَشَرَائِعِ الإِسْلاَمِ، حديث رقم: 132.]
ثم بعد ذلك قال المصنف -رحمه الله-: ( وهذا محل اتفاق )، ثم قال المؤلف -رحمه الله-: ( فأما صدقة التطوع فلا يجوز دفعها إلى هؤلاء وغيرهم )، أما صدقة التطوع، يعنى النفقة التى ينفقها الإنسان على وجه التقرب إلى الله تعالى، من غير ما تقدم من الأموال التى تجب فيها الزكاة والنحو التى وجبت فيه، صدقة التطوع خلاف ما تقدم من صدقة الفرد، فيجوز دفعها إلى هؤلاء وغيرهم. يعنى يجوز دفعها إلى الأصناف الثمانية، وقدمهم بالذكر لأنهم أحق من غيرهم لأنهم محل الفرض، ولكن لو دفعها إلى غيرهم فإنه لا حرج في ذلك، فيجوز دفعها للغني ويجوز دفعها للكافر، ويجوز دفعها لمن تجب النفقة عليه، كل هؤلاء لا حرج في دفع صدقة التطوع إليهم .
وقد جاء في الصحيحين عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ « قَالَ رَجُلٌ لأَتَصَدَّقَنَّ اللَّيْلَةَ بِصَدَقَةٍ فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ زَانِيَةٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ اللَّيْلَةَ عَلَى زَانِيَةٍ. قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى زَانِيَةٍ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ غَنِىٍّ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى غَنِىٍّ. قَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ عَلَى غَنِىٍّ لأَتَصَدَّقَنَّ بِصَدَقَةٍ. فَخَرَجَ بِصَدَقَتِهِ فَوَضَعَهَا فِي يَدِ سَارِقٍ فَأَصْبَحُوا يَتَحَدَّثُونَ تُصُدِّقَ عَلَى سَارِقٍ.
فَقَالَ اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ، عَلَى زَانِيَةٍ وَعَلَى غَنِىٍّ وَعَلَى سَارِقٍ. فَأُتِىَ فَقِيلَ لَهُ أَمَّا صَدَقَتُكَ فَقَدْ قُبِلَتْ أَمَّا الزَّانِيَةُ فَلَعَلَّهَا تَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ زِنَاهَا وَلَعَلَّ الْغَنِىَّ يَعْتَبِرُ فَيُنْفِقُ مِمَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ وَلَعَلَّ السَّارِقَ يَسْتَعِفُّ بِهَا عَنْ سَرِقَتِهِ »[ صحيح البخاري: باب إذا تصدق على غني وهو لا يعلم، حديث رقم: 1355، صحيح مسلم: باب ثُبُوتِ أَجْرِ الْمُتَصَدِّقِ وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّدَقَةُ فِى يَدِ غَيْرِ أَهْلِهَا، حديث رقم:2409.] ، فدل ذلك على جواز الصدقة على هؤلاء وعلى غيرهم على من ذكر الله في الآية إنما الصدقات على غيرهم .
ولكن إذا كانت الصدقة على هذا النحو تجوز لهؤلاء ولغيرهم، فأين مواضع الفضل وأي الأوجه أفضل في الصدقة؟ قال المصنف: ( وكلما كانت أنفع ، نفعًا عامًّا أو خاصًّا فهي أكمل ) هذا الضابط في الأعظم أجرًا، الأنفع هو الأعظم أجرًا، سواء كان النفع عامًّا أو خاصًّا، وهذا يتفاوت فيه الناس تفاوتًا كبيرًا، ولكن كل ما كانت أنفع نفعًا عامًّا أو خاصًّا، أكمل ثوابًا وأجرًا عند الله عز وجل .
قوله -رحمه الله-: ( قال النبي صلى الله عليه وسلم من سأل الناس أموالهم تكثرًا فإنما يسأل جمرًا فليستقل أو ليستكثر ) [صحيح مسلم(105 - (1041))]هذا بيان تحريم سؤال أموال الناس سواء كان ذلك من الزكاة أو من غيرها، إذا كان مستغنيًا، ذاك من سأل الناس أموالهم سواء كانت الصدقات الواجبة أو الصدقات المتطوع بها. من سأل الناس أموالهم تكثرًا أي طلبًا لكثرة المال، وطلبًا لكثرة ما في يده، فإنما يسأل (فإنما يسأل جمرًا ) وهذا يدل على التحريم (فليستقل أو ليستكثر ) أي فليستقل من الجمر أو فليستكثر، وهذا يدل على أن الإنسان يجب عليه أن يكف عن المسألة إذا كان مستغنيًا، وأن لا يطلب من الناس شيئًا مادام الله تعالى قد كفاه .
قوله -رحمه الله-: ( وقال لعمر ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف ولا سائلًا فخذه وماله فلا تطمعه نفسك ) ، وهذا ظابط فيما يقبل الإنسان مما يؤتى من أموال، ما جاءك من هذا المال وأنت غير مشرف، أي بقلبك متشوف متطوع لهذا المال، ولا سائل أي بلسانك أو بحالك فخذه، فإذا كان الإنسان مستغنيًا بماله مستغنيًا بقلبه مستغنيا بحاله، فجاءه من هذا المال بشيء فإنه يقبله، وما لا فلا، أي ما لم يكن على النحو المتقدم فلا تتبعه نفسك، لا تقبله لأن ذلك يفتح باب المسألة. والإنسان لا يغتنى ولا يكتفي ، فينبغى له أن يكف قلبه عن النظر في ما عند الناس، ويكف لسانه عن السؤال، فإذا جاءه شيئ من غير سؤال ولا تشوف فأنه يقبل. رواه مسلم.
وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المصنف -رحمه الله- في كتاب الزكاة.