الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه اجمعين أما بعد.
قوله –رحمه الله-: ((وتضم قيمة العروض أي: عروض التجارة إلى كل منهما))، أي: إلى كل من الذهب والفضة، وذلك في تكميل النصاب، وهذا مما نقل الاتفاق عليه، فقد نقل الاتفاق عليه ابن قدامه –رحمه الله-.
ومثل له المؤلف بقوله:(( كمن له عشرة مثاقيل، ومتاع قيمته عشرة أخرى، فيضم هذا إلى هذا، فيبلغ نصابًا، وهو عشرين مثقالًا، أو له مائة درهم، ومتاع قيمته مثلها))، فيبلغ مائتي درهم.
فلو كان ذهب وفضة وعروض، وجب ضم الجميع بعضه إلى بعض في تكميل النصاب، على ما تقدم في المذهب من ضم الذهب إلى الفضة.
ولذلك قال: ((ولو كان ذهب وفضة وعروض، ضم الجميع في تكميل النصاب))، لأن العرض مضموم إلى كل واحد منهما على انفراد، فيضم إليهما إذا اجتمعا معهما، وهذا كما تقدم من أنه يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب، وقد تقدم عند الحديث على قول المؤلف –رحمه الله-:((ويضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب)) أن عن أحمد رواية أنه لا يضم أحد النقدين إلى الآخر في تكميل النصاب، لعموم قوله ﷺ: «ليس فيما دون خمس أَوَاقٍ صدقة»[صحيح البخاري(1405)، ومسلم(1 - (979))] لأنهما مالان مختلفان في النصاب، فلا يضم أحدهما إلى الآخر، كما هو الشأن في أجناس الماشية.
وعليه فيجري في هذه المسألة الخلاف السابق، فلو كان ذهب وفضة وعروض، على الرواية الثانية لا يضم الجميع في تكميل النصاب، بل يضم العروض إلى إما إلى الذهب لتكميل النصاب، وإما إلى الفضة لتكميل النصاب، ولا يضم الجميع لتكميل النصاب.
قوله –رحمه الله-: ((ويضم جيد كل جنس ومضروبه إلى رديئه وتبره))، أي: أنه يضم جيد كل جنس من النقدين الذهب والفضة، إلى رديئه من ذلك الجنس، كما يضم مضروب كل جنس من النقدين إلى تبره، أي: الذي لم يضرب دنانير ودراهم، كما تضم المواشي والحبوب والثمار، ولأنه إذا ضم أحد الجنسين هنا إلى الآخر، فضم أحد النوعين أولى، يعني إذا كنا نقول كما تقدم في كلام المؤلف يضم الذهب إلى الفضة في تكميل النصاب، وهما جنسان مختلفان، فضم أحد النوعين إلى الآخر من باب أولى، فضم الجيد إلى الرديء، والمضروب إلى تبره من باب أولى.
وقوله –رحمه الله-: ((ويخرج من كل نوع بحصته))، أي: يجب أن يخرج من عليه الزكاة عن جيد صحيح من ذهب أو فضة، من نوعه كالماشية لوجوب الزكاة في عينه، فلا يجزئ أدنى عن أعلى إلا مع الفضل؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ﴾[البقرة: 267].
ويخرج عن رديء من ذهب أو فضة من نوعه، وذلك لأن الزكاة مواساة، وأن الواجب من جنس المال، خذ من أموالهم على أي صفة كان، فلا يلزمه إخراج أعلى مما وجبته فيه، وإن اختلطت أنواع مال مزكي بمال، بمعنى أن كان في المال جيد وردئ، ففي هذه الحال يخرج من كل نوع بحصته، فالمسألة الأولى هي فيما إذا كان النصاب جيدًا لا يخرج عنه إلا من وصفه، أي: جيد، وإن كان رديئًا أخرج من الرديء.
وأما إذا كان النصاب مختلطًا فيه جيد وردئ، واختلفت الأنواع هنا يخرج من كل نوع حصته، لأن الواجب إخراج الزكاة من المال، فلا يكلف إخراجه من غيره، لكن يوازن بين الجيد والرديء بالنظر إلى الحصص، والأفضل الإخراج من الأعلى من الأجود.
ولذا قال: ((والأفضل من الأعلى))، لأنه فضل، ولأنه زيادة خير للفقراء، هذا هو الصحيح من المذهب.
وقيل: إن شق عليه التمييز بين الأجناس المختلفة من الرديء والجيد، أو بين الأصناف المختلفة من الرديء والجيد أخرج من الوسط كالماشية، يعني يلزمه أن يخرج من وسط ماله، من أوساط ماله لا من الأعلى ولا من الأدنى، هذا إذا شق عليه أن يميز الجيد، فيخرج منه بحصته، والرديء يخرج منه بحصته.
يعني قوله: ((ويخرج من كل نوع بحصته))، يعني يخرج من الأعلى بقدره، ومن الأدنى بقدره هذا هو الواجب.
وعلى الرواية الأولى التي هي الصحيح من المذهب، لا فرق في ذلك بين أن يشق أو لا يشق، أن يشق عليه التمييز أو لا يشق.
والقول الثاني في المذهب: أنه يخرج من الوسط إن شق، إن كثرت الأنواع أخرج من الوسط كما هو الشأن في الماشية، وصوب هذا القول في الإنصاف.
((ويجزئ إخراج رديء عن أعلى مع الفضل)) يعني مع الزيادة أي: يجزئ إخراج رديء عن أعلى مع الفضل أي: مع زيادة تجبر نقص الوصف، كدينار ونصف من الرديء عن دينار جيد، فالآن الزيادة في القدر جبرت النقص في الوصف، لكن يشترطون يقولون: مع تساوي القيمة بينهما.
والعلة في ذلك قالوا: لأن الربا لا يجري بين العبد وربه، فالواجب عليه دينار، لكن أخرج دينارًا ونصف هذه زيادة عن الدينار، لأجل جبر ما يكون من نقص الوصف.
ويجزئ مكسر من ذهب أو فضة عن صحيح منهما على الفضل، ومعلوم أن المكسر أقل قيمة من الصحيح، فلما جبر بالزيادة كان ذلك محل إجزاء، بهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف –رحمه الله-من الأحكام المتعلقة بزكاة النقدين.
ألحق المصنف –رحمه الله-بما تقدم من أحكام زكاة الذهب والفضة جملة من أحكام الذهب والفضة فقال: ((ويباح للذكر من الفضة الخاتم)) إلى آخر ما ذكر إلى نهاية الباب، وهذا شروع في ذكر جملة من أحكام لبس الذهب والفضة واستعمالها، ومناسبة ذكر هذه الأحكام هنا هو بيان أثر اللبس والاستعمال في وجوب الزكاة في الذهب والفضة، وكذلك في بيان المعتبر في زكاة ما تجب فيه الزكاة منهما أهو الوزن أم القيمة؛ لأن الذهب وما ذكر وهو الفضة وما ذكر من الخواتيم والحلي دخلت فيه الصناعة.
والصناعة لها قيمة، فإذا وجبت فيها الزكاة، هل الزكاة المعتبر فيها الوزن والصناعة ملغاة؟ أم المعتبر هو قيمة المصوغ من ذهب أو فضة؛ لأنه مشتمل على زيادة قيمة بالنظر إلى ما فيه من صناعة؟
فلهذا ألحق المؤلف –رحمه الله-ذكر هذه المسائل، وإن كان الألصق بهذه المسائل المذكورة فيما يتعلق بما يباح من الذهب والفضة في اللباس والاستعمال الأبواب المتعلقة بالألبسة، لكن ذكرها في هذا الموضع في الزكاة هو لأجل ما يتعلق بها من أحكام الزكاة التي أشرنا إليها، وهما أثر اللبس والاستعمال في وجوب الزكاة، وعلى القول بوجوب الزكاة هل المعتبر الوزن أم القيمة؟
قوله –رحمه الله-: ((ويباح للذكر من الفضة الخاتم لأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتخذ خاتما من ورق»[صحيح البخاري(5865)، ومسلم(54 - (2091)] متفق عليه.))، فيباح للذكر صغيرًا أم كبيرًا من الفضة الخاتم، فيجوز لكل ذكر صغيرًا كان أم كبيرًا أن يلبس الخاتم من الفضة، ودليل ذلك ما في الصحيح من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأشار إليه المصنف –رحمه الله- أن النبي ﷺ اتخذ خاتمًا من ورق أو فضة، وذلك أنه ابتداءًا اتخذ خاتمًا من ذهب، وجعله فصه مما يلي كفَّه ﷺ فاتخذه الناس، فرمى به ﷺ واتخذ خاتمًا من ورق أو من فضة.
وظاهر كلام المؤلف أن لبس خاتم الفضة لا فضل فيه، أي أنه مباح وليس مستحبًا، وهذا ظاهر ما نقل عن أحمد –رحمه الله-وهو الصحيح من المذهب، وعليه أكثر الأصحاب، أن لبس خاتم الفضة مباح لا فضل فيه، وقيل: بل يستحب، ووجهوا ما ذكره الأصحاب من مجرد الإباحة أن ذلك لأجل نفي التحريم، وليس لبيان منزلته من حيث المشروعية.
وقيل: لبس خاتم الفضة للذكر مكروه، إن كان القصد منه التزين؛ لأن هذا من شأن النساء، ولأن ما ورد من لبسه إنما كان لأجل مصلحة ولتمييز السلطان أو من له السلطة عن غيره، وهذا القول ضعيف، لأن النبي ﷺ لم ينه أصحابه عن لبس الخواتيم، إنما نهاهم عن أن يكون من ذهب.
قوله –رحمه الله-: ((والأفضل جعل فصه مما يلي كفه))؛ لما تقدم في حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنه أن النبي ﷺ جعل فص خاتمه مما يلي كفه، وقد ذكر عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنه- أنه كان يفعل ذلك، ونقل عن غيره، والأمر في ذلك واسع، فإن النبي ﷺ لبس الخاتم وجعل فصه في باطن كفه، ولم يمنع من أن يجعل فصه على نحو آخر، وقد عمل السلف بالوجهين، فمنهم من جعل فصه في باطن الكف، ومنهم من جعل فصه ظاهرًا.
والأقرب -والله تعالى أعلم- أن جعله في باطن الكف أقرب لفعل النبي ﷺ وهو السنة.
قوله –رحمه الله-: ((وله جعل فصه منه ومن غيره))، أي: يباح أن يجعل فص خاتمه فص الخاتم من الفضة، ومن غير الفضة، وقد ورد عن النبي ﷺ أنه جعل فصه منه، وورد عنه أن فص خاتمه كان حبشيًّا[صحيح مسلم(61 - (2094))] أي من غير الفضة، فدل ذلك على الجواز، فيجوز أن يكون فص الخاتم من الفضة، وأن يكون فصه من غيره.
قوله –رحمه الله-: ((والأولى جعله في يساره، ويكره بسبابة ووسطى))، أي: إن الأولى والأفضل في لبس الخاتم أن يجعله في يساره، ثم هذا من جهة اليد.
أما من جهة الأصابع فقد قال: ويكره بسبابة ووسطى أي: يكره أن يجعل الخاتم في السبابة والوسطى.
قوله –رحمه الله-: ((والأولى جعله في يساره))؛ لأنه المحفوظ عن النبي ﷺ، فقد قال الدار قطني وغيره المحفوظ عن النبي ﷺ أنه كان يتختم في يساره، وقد جاء عنه أنه ﷺ تختم في اليمين، وقيل إن ذلك منسوخ، وإن التختم في اليسار آخر الأمرين عن النبي ﷺ، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن تختمه كان في اليسار، وما جاء من أنه تختم في اليمنى ضعفه الإمام أحمد –رحمه الله-، إلا أن الأمر في ذلك واسع، فالأفضل أن يكون التختم في اليسار، ويجوز في اليمين.
وأما ما يتعلق بقوله –رحمه الله-: ويكره بسبابة ووسطى أي: يكره أن يكون تختمه في هذين الأصبعين، لما جاء عن علي رضي الله عنه قال: «نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتختم في أصبعي هذه أو هذه قال: فأومأ إلى الوسطى والتي تليها»[صحيح مسلم(65 - (2095))]، وقال المختصر في هذا على الكراهة، وذهب بعض أهل العلم إلى التحريم، أي: إلى تحريم التختم في السبابة والوسطى، والذي يظهر -والله تعالى أعلم- أن الحكم هو الكراهة وليس التحريم، لأن هذا من باب الآداب، وليس في ذلك شيء من التعبد.
قوله –رحمه الله-: ((ويكره أن يكتب عليه ذكر الله وقرآن أو غيره))، أي: إنه يكره فيما يتختم به أن يكتب عليه شيء من ذكر الله أو القرآن، لما في ذلك من احتمال الامتهان، ولو لم يكن فيه إلا دخول الخلاء وأكثر أهل العلم على أن ذلك مما ينبغي أن يجتنب لذلك، فإنه يكره.
وقد قال إسحاق بن راهويه: لا يدخل الخلاء فيه، قال في الفروع: ولعل أحمد كرهه لذلك، يعني الإمام أحمد –رحمه الله-علل الكراهة بذلك، وليس ثم دليل صريح صحيح في التحريم.
وقوله –رحمه الله-:(( أو غيره)) وهذا يشمل كل ما فيه ذكر الله –عز وجل-.
ويشكل على قوله: ((وغيره)) أن خاتم رسول الله ﷺ فيه ذكر الله –عز وجل-.
ولهذا قال البهوتي –رحمه الله-: "لم أجد للكراهة دليلًا سوى ما ذكر من كراهية دخول الخلاء، وهي تفتقر إلى دليل"[كشاف القناع(5/26)] أي: الحكم بالكراهة، والأصل عدمه.
ثم قال المصنف –رحمه الله-: ((ولو اتخذ لنفسه عدة خواتيم لم تسقط الزكاة فيما خرج عن العادة إلا أن يتخذ ذلك لولده أو عبده)) ، هذا ذكر ما يتصل بالباب من حكم وهو الزكاة، فلو أن أحدًا اتخذ لنفسه عدة خواتيم، أي خواتيم متعددة لم تسقط الزكاة فيما خرج عن العادة يعني أن الزكاة ثابتة في هذه الخواتيم إذا خرجت عن المألوف من حيث العدد.
أما ما كان معتادًا مما يتخذ، فإنه لا زكاة فيه، لأنه من جملة الحلي الذي لا تجب فيه الزكاة كما سيأتي بعد قليل.
فقوله: ولا يتخذ لنفسه عدة خواتيم لم تسقط الزكاة فيما خرج عن العادة، فلو اتخذ عشرة خواتيم وهذا غير مألوف، فإنما زاد عن المألوف تجب فيه الزكاة، لأنه حلي لم يؤذن باتخاذه على هذا الوجه، لكونه خارجًا عن المألوف فتجب فيه الزكاة.
أما إذا كان ضمن المألوف والعادة، فإنها لا تجب فيه زكاة لأنه حلي أعد للاستعمال، ومثله سائر ما سيذكره مما يلبس من المناطق والحلي ونحوها.
قال –رحمه الله-: ((إلا أن يتخذ ذلك لولده أو عبده))، يعني لو أخذ عددًا زائدًا عن المعتاد من الخواتيم، لكن ليس لنفسه، إنما لولده أو لعبده، فإنه لا زكاة عليه في ذلك، لأنه لا زكاة فيما أعد للاستعمال المباح من الحلي قل أو كثر، سواء كان لرجل أو كان لامرأة.
وقيل: إنه لا تجب الزكاة في الخواتيم التي زادت عن المعتاد؛ لأنها أعدت للاستعمال المباح، ولو كثرت.
القول الأول: أنه تجب الزكاة فيما خرج عن المعتاد من الخواتيم المباحة للرجل إلا أن يتخذ ما زاد عن المعتاد لولده أو عبده.
والقول الثاني: أنه لا زكاة لكل حلي أعد لاستعمال مباح، سواء كان معتادًا أو زائدًا عن المعتاد، قلَّ أو كثر، سواء كان لرجل أو امرأة، ولعل هذا القول أقرب إلى الصواب، ألا أن يتخذ حيلة للفرار من وجوب الزكاة، فعند ذلك تجب الزكاة فيه.
قوله –رحمه الله-: ((ويباح للذكر من الفضة الخاتم)) هل يفهم من هذه العبارة قصر الإباحة على ذلك؟
أي أنه لا يباح للرجل من الحلي من الفضة غير الخاتم ظاهره ذلك.
ولذلك قال ابن المفلح –رحمه الله-: ظاهر قوله: ويباح للرجل حلي من الفضة الخاتم، ظاهره تحريم لبسه الفضة والتحلي بها إلا ما استثناه، وعلى هذا كلام غيره صريحًا وظاهرًا، ولم أجد أحدًا احتج لتحريم لبس الفضة على الرجال في الجملة، ودليل ذلك فيه إشكال، وحكي عن الشيخ تقي الدين أنه كان يستشكل هذه المسألة، وربما توقف فيها، وكلامه في موضع يدل على إباحة لبس الفضة للرجل إلا ما دل دليل شرعي على تحريمه.
وقال في موضع آخر: لبس الذهب والفضة يباح للنساء بالاتفاق، إلى أن قال: فلما كانت ألفاظه صلوات الله وسلامه عليه تامة عامة في آنية الذهب والفضة، وفي لبس الذهب والحرير استثني من ذلك ما خصصته الأدلة الشرعية كيسير الحرير ويسير الفضة في الآنية للحاجة ونحو ذلك.
فأما لبس الفضة هنا الشاهد إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل الشرعي على تحريمه، فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان هذا دليلا على إباحة ذلك أي الخاتم وما هو في معناه، وما هو أولى منه بالإباحة، وما لم يكن كذلك فيحتاج إلى نظر في تحليله وتحريمه. انتهى كلامه.
فيلاحظ في قوله –رحمه الله-ويباح للذكر من الفضة الخاتم أنه على المذهب تقصر الإباحة على هذه الصورة، فيما يتعلق بالفضة، وعليه فلبس الأزرة أو غيرها مما يلبس من الفضة لا تجوز على المذهب.
وأما على قول شيخ الإسلام ابن تيمية فإن الحكم هو الإباحة في الخاتم ونحوه أي مما يشبهه وما هو أولى منه أي مما يحتاج إليه أو مما جرت العادة بلبسه.
قال –رحمه الله-: ((ويباح له قبيعة السيف، وهي: ما يجعل على طرف القبضة. قال أنس:" كانت قبيعة سيف رسول الله ﷺ فضة". رواه الأثرم)). وهو عند أصحاب السنن أبي داود والترمذي والنسائي.
فيضاف إلى ما تقدم من إباحة الخاتم للرجال إباحة قبيعة السيف، وبينها المؤلف قال: ((وهي ما يجعل على طرف القبضة))، وقبيعة السيف هي مقبضة.
وقيل: القبيعة ما يجعل على طرف القبضة سواء كان سيفًا أو كان غير سيف.
وقوله –رحمه الله-: ((ويباح له حلية المنطقة)) أي: من الفضة ((وهي ما تشد به الوسط، وتسميه العامة: الحياصة))، والحياصة بكسر الحاء وهو سير في الحزام، وقيل: سير طويل يشد به حزام السرج.
وقيل: بل الحياصة هي حزام الدابة، واستعمل في كل ما يشد به الإنسان حقوه، وما ذكره –رحمه الله-هو المذهب، ودليله أن الصحابة رضي الله عنهم اتخذوا المناطق كما ذكر المصنف –رحمه الله-.
والرواية الثانية عن الإمام أحمد: أنه لا تحل حلية المنطقة، لما فيها من الفخر والخيلاء.
قال: ولأنها تشعر بالتخنث والانحلال، أشبه الطوق والدملج[ما يوضع على العضد من الحلي(لسان الميزان2/276)].
قوله –رحمه الله-: ((ونحوه)) أي: مما يباح استعماله من الفضة للرجال قياسًا على ما تقدم من قبيعة السيف، وحلية المنطقة ما ذكره –رحمه الله-من أمور، ((حلية الجوشن)) وهي الدرع، ((والخوذة)) وهو: ما يغطى به الرأس ويسمى المغفر، ((والخف))، وهو معروف ما يلبس على القدمين، ((والران)) وهو شبيه بالخف إلا أنه لا قدم له وهو أطول من الخف، ويشبه ما يلبس على الساقين مما يعالج به الدوالي، لأن هنا قال: الران هو كالخف إلا أنه لا قدم له وهو أطول من الخف، كذلك الحمالة وهي علاقة السيف.
وقوله –رحمه الله-في تعليل إباحة الفضة في هذه الأمور قال: ل((أن ذلك يساوي المنطقة معنى، فوجب أن يساويها حكمًا)).
((قال الشيخ تقي الدين))في إضافة لما تقدم من المذكورات قال: ((وتركاش النشاب، والكلاليب)) علل ذلك بقوله؛ ((لأنه يسير تابع)).
وتركاش النشاب (كلمة فارسية) تجمع على كراكيش، والنشاب هي: السهام، والمقصود بتركاش النشاب الكنانة التي توضع فيها السهام، وأما كلاليب فهي جمع كلوب وهي التي تمسك بها العمامة تشبه ما يعرف عند النساء بما يسمى بالتوكات المساكات، فهي تجوز قياسًا على ما تقدم.
وقوله –رحمه الله-: ((ويباح للذكر من الذهب: قبيعة السيف))، يباح للذكر صغيرًا أو كبيرًا من الذهب قبيعة السيف، وقبيعة السيف هي ما على مقبضه، وذلك لأن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اتخذوه، فجاء عن عمر وعثمان بن حنيف وغيرهما اتخاذ قبيعة السيف أو مسمار قبيعة السيف من الذهب.
وقد جاء أن النبي ﷺ دخل مكة يوم الفتح، وعلى سيفه ذهب وفضة، وقد ذهب شيخ الإسلام –رحمه الله-إلى أنه يباح الذهب في السلاح مطلقًا، لأنه إذا جاز في السيف، جاز في غيره من باب أولى.
وعلل ذلك –رحمه الله-أن المقصود إرهاب العدو، فجاز أن يحلى السلاح بما يفيد إرهاب العدو وسمو المسلم على غيره من أهل الكفر، كما جاز لبس الحرير في القتال.
قال –رحمه الله-بعد أن ذكر ما ذكر من الأدلة على إباحة قبيعة السيف قال: ((وما دعت إليه ضرورة كأنف ونحوه)) أي: ومما يستثنى من تحريم لبس الذهب للرجال ما دعت إليه الضرورة كأنف، وذلك لمن قطع أنفه كما جاء في خبر عرفج بن أسعد وقد ذكره المؤلف –رحمه الله-((وكرباط أسنان))، فهذا مما أذن فيه لدعاء الضرورة إليه، والمقصود بالضرورة هنا الحاجة العامة، وليس الضرورة بمفهومها الذي يراد به حصول الهلاك بدونه.
قال –رحمه الله-: ((ويباح للنساء من الذهب والفضة ما جرت عادتهن بلبسه ولو كثر))، ثم مثل له فقال: ((كالطوق، والخلخال، والسوار، والقرط، وما في المخانق، والمقالد والتاج، وما أشبه ذلك؛ لقول النبي ﷺ: «أُحِلَّ الذَّهَبُ والحريرُ لإناثِ أُمَّتي، وحُرِّمَ على ذُكورِها».[أخرجه أحمد في مسنده(19502)، وصححه الألباني في إرواء الغليل]، ويباح لهما: تحل بجوهر ونحوه، وكره: تختمهما بحديدٍ، وصفرٍ، ونحاسٍ)).
هذا بيان ما يحل للنساء من الذهب والفضة، وما يحرم عليهما، وقيد ذلك بما جرت به العادة، فيخرج بذلك ما كان خارجًا عن المألوف، لأن ذلك إسراف، وأقل أحواله الكراهة، لما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾[الأنعام: 141]، ولمَ جاء في حديث عبد الله بن عمرو «كلوا، واشْربوا، وتصدَّقوا، والبَسوا؛ من غير سرف ولا مَخِيلةٌ»[أخرجه أحمد في مسنده(6695)وقال الحاكم: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ.ووافقه الذهبي] وفي رواية «ما لم يخالِطْهُ إسرافٌ أو مَخيَلةٌ».[سنن ابن ماجه(3605)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب]
قوله: ((ولا زكاة في حليهما) أي: لا تجب الزكاة في حلي الذكر المباح له، والأنثى المباح لها.
ولذلك قال: ((ولا زكاة في حليهما، أي: حلي الذكر والأنثى المباح المعد للاستعمال أو العارية، وذلك لقول النبي ﷺ: «ليسَ في الحليِّ زكاةٌ»[أخرجه البيهقي في معرفة السنن والآثار(8305) موقوفا على جابر. وقال: وَالَّذِي يَرْوِيهِ بَعْضُ فُقَهَائِنَا مَرْفُوعًا: لَيْسَ فِي الْحُلِيِّ زَكَاةٌ، لَا أَصْلَ لَهُ إِنَّمَا يُرْوَى، عَنْ جَابِرٍ مِنْ قَوْلِهِ غَيْرَ مَرْفُوعٍ] رواه الطبراني عن جابر))، ثم ذكر من قال بذلك من الصحابة.
قال: ((وهو قول أنس وجابر وابن عمر وعائشة وأسماء وأختها))، فقيد عدم وجوب الزكاة بالحلي بقيدين أن يكون مباحًا، فخرج به ما لو اتخذ الرجل خاتمًا من ذهب، أو خواتيم من ذهب، فإنه لا تحل ولا تجب زكاتها، وأن يكون معدًّا للاستعمال والعارية، وهناك قيد أيضًا وهو ألا يخرج إلى حد الإسراف، على القول بأن يكون بالقدر المعتاد، وقد تقدم الرواية الثانية أنه لا زكاة فيما زاد عن المعتاد من حلي لرجل أو امرأة.
وعليه؛ فالذي يخلص من الشروط هو أن يكون الذهب والفضة، ويكون اتخاذهما مباحًا.
والثاني أن يكون اتخاذهما للاستعمال أو للإعارة.
قال: ((وإن أعد الحلي للكراء، أو النفقة، أو كان محرمًا)) هو فات ما تقدم من شرطين، أو فات أحدهما بأن أعد للكراء أو النفقة، فلم يكن للاستعمال ولا للعارية، ((أو كان محرمًا فلم يكن مباحًا كسرج، ولجام وآنية، ففيه الزكاة)) أي الزكاة تجب فيه، إن بلغ نصابًا ووزنا؛ ((لأنها إنما سقطت مما أعد للاستعمال بصرفه عن جهة النماء، فيبقى ما عداه على مقتضى الأصل)) من وجوب الزكاة فيه.
قال –رحمه الله-: ((فإن كان معدًّا للتجارة وجبت الزكاة في قيمته، كالعروض، ومباح الصناعة إذا لم يكن للتجارة يعتبر في النصاب: بوزنه، وفي الإخراج: بقيمته)).
إن كان معدًّا للتجارة وجبت الزكاة في قيمته كالعروض، لأنه جمع أمرين، أنه ذهب وفضة، وما طرأ عليه من صناعة ولها قيمة، فلذلك وجبت الزكاة في قيمته.
وأما مباح الصنعة إذا لم يكن للتجارة، فيعتبر في النصاب بوزنه، يعتبر في النصاب أي في بلوغ الحد الذي تجب فيه الزكاة بوزنه، وأما في الإخراج بقيمته، فالصحيح من المذهب أن مباح الصنعة إذا لم يكن للتجارة أنها تعتبر قيمته في الإخراج، وأما في النصاب فالمعتبر وزنه.
وقيل: تعتبر القيمة في الإخراج إن اعتبرت في النصاب، وإن لم تعتبر في النصاب، لم تعتبر في الإخراج يعني طرد الاعتبار، فإن اعتبرت القيمة في الإخراج، فإنها تعتبر في النصاب، والعكس بالعكس.
والأول هو الأشهر في المذهب أن الاعتبار في مباح الصنعة في الإخراج بالقيمة، لما في القيمة من الأثر، وهذا القول أقرب للصواب، وهو أحوط وأبرأ للذمة، وأوفق لدلالة النصوص، لأن النصوص ربطت النصاب بمقادير محددة، فلا يصار إلى القيمة مع إمكان العلم بالمعيار الذي حدده الشارح.
قال –رحمه الله-: ((ويحرم أن يحلى مسجد أو يموه سقف أو حائط بنقد، وتجب إزالته))، هذا بيان أنه يحرم تحلية المسجد بالذهب والفضة، لأنه سرف، وتجب إزالته كسائر المنكرات، وتجب فيه الزكاة إن لم يستهلك، أي: إن لم تذهب قيمته بالاستعمال بأن لم يجتمع منه شيء، وإذا كان قد وصل إلى هذا الحد لم يجتمع منه شيء، فإنه لا تجب إزالته لعدم الفائدة منه، وليس فيه زكاة، وذلك أن المالية قد ذهبت، وبهذا يكون قد انتهى ما ذكره المؤلف –رحمه الله-في هذا الباب، باب زكاة النقدين، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.