"ليظهره على الدين كله"
قوله -رحمه الله-: "ليظهره على الدين كله"
أي: ليعليه على كل دين على الأرض في كل زمان، وفي كل مكان، وهذا وعد من الملك العلام -جل في علاه- أن هذا الدين ظاهرٌ على كل دين، قال الله -جل وعلا-: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾[الصف: 9].
- قلنا: بالهدى ، أي: بالعلم النافع.
- ودين الحق، أي: بالعمل الصالح.
هذا الهدى، وذاك الدين الحق موعود من رب العالمين أن يكون ظاهرا على كل دين ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[الصف: 9]، أي: على كل دين يدين به الخلق في الأرض، فإن الله تعالى وعد رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالظهور على كل أحد.
والظهور الموعود به نوعان:
- الظهور الأول: ظهور الحجة، والبرهان، والعلم، والبيان، هذا الظهور الأول، وهو الأقوى، والأثبت، والأسبق.
أما كونه أسبق: فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- مكث في مكة ثلاثة عشرة سنة يدعوا الناس إلى عبادة الله وحده، لم يرفع سيفًا، ولم يقاتل أحدًا بل كان -صلى الله عليه وسلم- يجاهدهم بالقرآن كما قال الله تعالى: ﴿وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا﴾ [الفرقان: 52]-، كان الجهاد بالقرآن في أول الرسالة؛ فدان له المهاجرون والأنصار، وقبلوا ما جاء به من الهدى ودين الحق؛ لظهوره بالحجة والبرهان، هذا الظهور الأول، ظهور العلم والبيان، وهذا باق عبر الزمان والمكان، فالإسلام فيه من الحجة والقوة، والثبات والنصوع، والسلامة، والصحة ما يكتسح كل دين وعقيدة، فإنه دين رب العالمين ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: 3].
- أما النوع الثاني من الظهور: فهو ظهور السيف والسنان بالجهاد والقتال.
وهذا جاء متأخرا، وذلك أن الحق لما أظهر الله تعالى علاماته، وبين حقائقه بالحجة والبرهان تصدى له من أعاق، وحال دون انتشاره حتى هموا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يقتلوه ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾[الأنفال: 30]، فأذن الله تعالى لرسوله أن يزيح هذه العوائق، وأن يزيل كل ما يعيق هذا النور من أن يصل إلى الناس فيبلغهم الدين الحق الذي يخرجون به من الظلمات إلى النور.
وهذا هو النوع الثاني من الظهور: وهو ظهور السيف والسنان، والجهاد والقتال إلا أنه كان متأخرًا، وهو تابع للأول فلا جهاد، ولا قتال إلا بعد البيان والإيضاح، فالقرآن هو الأصل في دعوة الخلق، ثم بعد ذلك إذا اقتضى الأمر مصلحة أو حاجة انتقل الأمر إلى النوع الثاني من الظهور، وكلاهما مكفول لرسول -الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم-.
يقول الله تعالى مخبرا في كتابه في ثلاثة مواضع من القرآن ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾[التوبة: 33]، في موضعين قال ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾ [الصف: 9]، وفي موضع قال: ﴿وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا﴾ [الفتح: 28]-، وهذا فيه أعظم التوثيق لتحقيق الموعود، فإذا كان الله شهيدًا على هذا العهد، وهذا الوعد، وشهيدًا على الخلق فإن الله لا يخلف الميعاد؛ ولذلك يقول الله تعالى لرسوله: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ ﴾ [الفرقان: 31]، هذه العداوة تقابل بأمرين، ذكرهما الله تعالى وتكفل بهما {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا ﴾ [الفرقان: 31]، فيما يتعلق بالعلم والبيان ﴿وَنَصِيرًا ﴾ [الفرقان: 31]، فيما يتعلق بالسيف والسنان ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾[الفرقان: 31]، فالله تعالى كفى به شهيدا ، وكفى به هاديا، وكفى به نصيرا محقق موعوده -جل في علاه-.
إذا قوله تعالى في الآيات: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ﴾ هو لهذين المعنيين، وهو للعلم والبيان والحجة والبرهان، وظهور السيف والسنان، وذلك أن هذه الأمة موعودة بالعز والثناء: «لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم، حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك».[صحيح البخاري(3641)، ومسلم(170 - (1920))]
نسأل الله أن يسلك بنا هذه السبيل، وأن يثبتنا وإياكم على الدين القويم.