قال -رحمه الله-: (ويُسن لمسافر يُباح له القصر).
أي يُسن الفطر في رمضان لمسافر، وهو من فارق عامرَ بلدِه، وقيَّده بقوله: (يُباح له القصر) وهو من سافر سفرًا بعيدًا، فخرج به السفر القريب الذي لا يبيح القصر.
وهذا استدلوا له بجملة من الأدلة: منها قوله الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ﴾ البقرة:184.
فجعل الله تعالى المسافر مرخوصًا على الصوم، ومطلوبًا منه في أيام أُخَر غير التي في سفره.
واستدلوا له أيضًا بما في صحيح البخاري وغيره، من حديث جابر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لَيْسَ مِن البِرِّ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ»، فنفى أن يكون الصوم في السفر برًا.
واستدلوا له أيضًا بحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- وصف من لم يفطر بعد فطره، ووجود مشقة في الصيام، بقوله: «أولئك العصاة، أولئك العصاة».
وهذا يدل على استحباب الفطر مطلقًا في السفر، سواء شق الصوم أو لم يشق، وهذا معدود من مفردات مذهب الحنابلة؛ أي الذي انفردوا به عن سائر المذاهب الثلاثة الباقية، فإن جمهور العلماء من الحنفية والشافعية والمالكية: على أنه لا يُستحب الفطر في السفر إلا عند وجود المشقة.
وحملوا ما جاء من الأحاديث على حال المشقة، وأما حال عدم المشقة: فإنهم استدلوا بعموم الأدلة الدالة على استحباب المبادرة للطاعات، واستدلوا أيضًا بأن النبي صام مع شدة الحرِّ كما في الصحيح من حديث أبي الدَرْداء: "خرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي حَرٍّ شَدِيدٍ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ، إِلَّا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ"، وذكر فن شدة الحر: " حَتَّى إِنْ كَانَ أَحَدُنَا لَيَضَعُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الْحَرِّ "، يظلل رأسه بيده من شدة الحر.
وبحديث حمزة بن عمرو الأَسْلمي في الصحيحين: أنه سأل عن الصوم في السفر، فقال: «إِنْ شِئْتَ فَصُمْ، وَإِنْ شِئْتَ فَأَفْطِر».
وفي حديث حمزة بن عمرو الأسلمي: أنه سأل النبي عن الصوم في السفر، قال: « هي رخصة من الله، فإن أخذت بها فحسن، وإن صمت فلا جناح عليك».
والأقرب من هذين القولين: هو ما ذهب إليه الجمهور، من استحباب الفطر عند المشقة، وأما إذا لم يكن مشقة: فالأفضل الصوم.