"الثاني: قول الله - تعالى- : ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[المائدة:3].
وجه الدلالة: إخبار الله - تعالى- الأمَّةَ بإكمال الدين، فمن أباح العقود التي لم تجئ في الشرع، فقد زاد في الدِّين ما ليس منه".
واضح الاستدلال، ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ﴾[المائدة:3]، قالوا: هذا يدل على أنه ليس ثمة عقدٌ يتعامل به الناس إلا ولابد أن يكون قد جاء حكمه منصوصًا عليه في الكتاب، فما ليس في الكتاب حكمه أو في السنة حكمه فهو حرام؛ لأن الله تعالى قد أكمل الدين، وبيَّن الحلال، وكل ما لم يأت بحله فهو محرم، هذا وجه استدلالهم.
مناقشتهم في هذا الاستدلال يقول:
"المناقشة:
نُوقش هذا بأنَّ من كمال الشريعة، وبديع نظامها، أنَّها دلَّت على إباحة المعاملات التي يحتاجها الناس في دنياهم؛ فالشَّريعة قد جاءت في باب المعاملات بالآداب الحسنة، فحرَّمت منها ما فيه فساد، وأوجبت ما لابدَّ منه، وكرهت ما لا ينبغي، وندبت إلى ما فيه مصلحة راجحة، وما لم يرد في الشريعة تحريمُه أو إباحته فهو مسكوت عنه".
هذا أيضًا قلب للدليل، هذا ليس دليلًا لكم، بل هو دليلٌ عليكم؛ لأنه من كمال الشريعة أنها أحلت كل ما فيه مصلحةٌ للخلق مما يتعاملون به، ولم تحجِّر ذلك وتضيقه؛ ذاك أن معاملات الناس لا حد لها ولا حصر، ولا يمكن أن يُحاط بها بالنص على مفرداتها، وإنما يُرجع فيها إلى عمومات وجوامع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم يستفاد منها حكم تلك النوازل.
ومما يشهد على صحة هذا القول وهذه المناقشة أن عامة ما يتعامل به الناس اليوم من المعاملات ليس في الكتاب ولا في السنة ذكره باسمه، فلو قلنا لا يجوز من المعاملات إلا ما جاء النص عليه في الكتاب والسنة كان مجمل ما يتعامل به الناس من المعاملات المالية المعاصرة محرمًا، فلا يحل لهم استعمال بطاقات الائتمان، ولا يحل لهم الحسابات الجارية، ولا يحل لهم ما يكون من الإجارات بصورها المعاصرة... وهلم جرا من المعاملات الكثيرة التي لا ذكر لها ولا نص عليها في الكتاب والسنة.
لكن الجواب على هذا أن يُقال: إن من كمال الشريعة أنها ما ضيَّقت، بل وسعت؛ ولذلك الشريعة لا يمكن أن تحرِّم شيئًا يحتاج الناس إليه أو شيئًا تتعلق به مصلحة الناس، يستحيل أن يأتي حكم في الشريعة بالتحريم لما تتعلق به حوائج الناس أو ما تتعلق به مصالحهم.
ولذلك في تحريم الخمر نص الله تعالى على المعنى قبل أن يذكر الحكم قال تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ﴾[البقرة:219]، الخمر مشروب والميسر معاملة ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾، فجاء النص بالعدل؛ بيَّن أن فيهما إثمًا أي مفسدة كبيرة، الإثم هنا المقصود به المفسدة، ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ أي: مصالح يدركون بها شيئًا من المنافع، فذكر المصالح والمفاسد.
ثم قال: ﴿وَإِثْمُهُمَا﴾ أي: مفسدتهما، ﴿ أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾ فدل هذا على أن موجب التحريم سبب التحريم في الخمر والميسر هو أن المفسدة المترتبة على هذا المشروب وعلى هذه المعاملة أكبر من المصلحة الحاصلة، وهذا يعطي قاعدة أن كل ما كانت فيه مصلحة راجحة، أو مصلحة متمحضة فإن الشريعة لا يمكن أن تأتي بتحريمه، يستحيل أن تأتي الشريعة بتحريم ما فيه مصالح الناس وما فيه قضاء حوائجهم، إنما تحرِّم ما غلبت مفسدته ومضرته أو ما كان مفسدةً ومضرةً محضة.